وجهة نظر

بين المعرفة والضمير: عن النخب الصامتة وأوهام الحياد

إذا نظرتَ في واقعنا الثقافي والفكري، ألفيتَ بيننا من يُدعى “مثقفًا” يحفظ أقوال أفلاطون وأرسطو، ويتغنّى بمقولات فولتير ولوك وكانط، ويقدّس هيغل وماركس وهايدغر وسارتر، وآخر يُدَرِّس لطلابه نظريات الدولة والسيادة، والقانون الدولي وحقوق الإنسان، وثالثا يُلقّن طلبته مناهج علم الاجتماع ويُدرّس لهم مفاهيم التحديث، والعلمنة، والسوسيولوجيا الغربية، ونظريات التغير الاجتماعي، ويحلل المقاربات المنهجية المتعددة في فهم المجتمع، ورابعايسرد تاريخ المدارس الفكرية التي غيّرت مسار العالم الحديث، وخامسايكتب في سيكولوجيا الجماهير وروح الثورات، وسادسايبرع في لُغة الخوارزميات وتقنيات الذكاء الاصطناعي.

غيرَ أنَّ حِفْظَ المقولات الفكرية والفلسفية والتّمكن مِن التقنيات الرقمية واستحضار النّظريات السياسية والاجتماعية والـمَقولات الحقوقية؛ غيرُ كافٍ، خصوصا إذا كانت هذه “المعرفة” غير مؤَطّرَة بوعي نَقدي وموقِف أخلاقي-إنساني ومنظومة قيمية تَـمْنَح فَهْمًا عَميقا لمسؤوليتها الأخلاقية، وإدراكاً لآثارِ تطبيقاتها، وتجعل من حاملها شاهدًا لا تابعًا، ومبادرًا لا آلة صامتة.

إنّ عجز المثقّف، وخوف الأكاديمي، وحياد المهندس، واستسلام الباحث، عن اتخاذ موقفٍ نقدي شجاع إزاء قضايا العدالة والكرامة الإنسانية، وعلى رأسها قضية فلسطين والمقاطعة الأكاديمية لمن يشارك في جرائم الإبادة ويدعمها معرفيا ويبررها، إنما يكشف عن فجوةٍ سحيقة بين “العلم” و”القيم”، وشرخٍ مرير بين “المعرفة” و”الضمير”

وحين تُحجم هذه النخب عن الانخراط في بناء خطابٍ نقدي مقاوم للاحتلال، أو الدفاع عن الإنسان في وجه الإبادة، وتلوذ بالصمت تحت مسمى “الحياد العلمي” و”الموضوعية الصامتة”، فإنها تفقد لا محالة، مبرر وجودها الأخلاقي، وتتحوّل إلى أدواتٍ وظيفية تبرّر الجريمة، وتُلبّس الاحتلال لبوس العقلانية، وتقدّم الولاء لإله السوق والهيمنة على حساب حرية الإنسان وكرامته.

أسطورة الحياد العلمي والموضوعية الزائفة

إن “الحياد القيمي” – كما يُفهم في السياقات المُهيمنَة – ليس إلا دعوة لتجريد الباحث من ذاكرته الحضارية ومن وجدانه وتاريخه، حتى يصير أداة تلقٍّسلبي، توصف بالعلمية والحيادية؛ في حين أن الحقيقة هي فقدان جوهر التفكير النقدي المركب. فالعلوم التي تُنزع منها القيم، تصبح أدوات طيّعة في يد التوحّش، كما نرى في تكنولوجيا تُوظّف لارتكاب الإبادة، أو تُستخدم لتكريس اللامساواة والهيمنة.

وقد ظلّ هذا النمط من “العلماء المحايدين” يقدّم تصورًا للإنسان بوصفه كائنًا مادّيًا بلا قصد، تُحرّكه الغرائز وتتحكم فيه الظروف، دونما ضمير أو بحث عن المعنى. وتُختزَل المعرفة – في هذا التصوّر – في عمليّة فوتوغرافية آلية، تُراكِم المعطيات الحسية كما هي، لتُنتج أفكارًا خالية من التأويل أو التحيّز، فيُصبح الإدراك العلمي مُجرّد محاكاة موضوعية للواقع، متناسية أن الإنسان كائن رمزي، لغوي، أخلاقي، يستبطن ذاكرةً وخبرةً حضارية، ويُعيد إنتاج المعنى لا استهلاكه فقط.

وهذا بالضبط ما حذّر منه عبد الوهاب المسيري حين رأى في هذا التصور إلغاءً فعليًا للعقل بوصفه قوة تفسير وفهم وتركيب، وتحويلًا له إلى آلة تصوير محايدة. فالعقل في نظرأدعياء الحياد عبارة عن صفحة بيضاء وشيء سلبي بسيط مثل آلة تصوير،يسجل كل ما حوله دون حذف أو اختيار أو تضخيم أو تشويه، فتكون المعرفة عملية تراكمية تتكون من التقاط أكبر قدر ممكن من تفاصيل الواقع كما هو تقريبا بصورة فوتوغرافية، وأن المعطيات الحسية تتراكم لتكون أفكارا بسيطة من تلقاء نفسها وبشكل آلي، ثم تمتزج هذه الأفكار البسيطة لتكون أفكارا مركبة مجردة بالطريقة نفسها. حيث يكون إدراك باحث ما يتحلى بالموضوعية والحياد لا يختلف عن إدراك أي باحث آخر، وهكذا ستؤدي عملية التراكم إلى معرفة موضوعية عالمية مزيفة، خالية من التحيزات، وعلى الإنسان أن يلغي ذاكرته وضميره ووجدانه وآماله وإنسانيته باعتبارها أمورا مؤثرة في عملية الإدراك وتشكل عائقا في طريق التلقي الموضوعي السلبي، وهذا يعني إلغاء فعالية العقل وإبداعه، وكذا قدراته في التفكيك والتركيب والفهم والتحليل. والحال أن تحييد الوجدان، والضمير، والتاريخ، ليس إلا وصفة لتكريس الاستعمار المعرفي وإنتاج النخب الصامتة.

سوسيولوجياعلىخطالنار

إنّ الحياد العلمي المطلق في العلوم الاجتماعية مجرد أسطورة. والسوسيولوجيون، أكثر من غيرهم، يدركون زيف هذه الأسطورة. فالمعرفة – كما تؤكد تجارب التاريخ الاستعماري – لم تكن يومًا ما بريئة. ألم يسبق علماءُ الاجتماع جيوشَ الاستعمار إلى المغرب وغيره من البلدان، وقد كان بعضهم مرتبطا بالمخابرات الفرنسية والعالمية؟ ألم تُنجَز دراسات “علمية” ظاهرها الوصف والتحليل، وباطنها التمهيد للهيمنة والاحتلال؟

إنّ معظم الأبحاث التي تُنتج في جامعات الكيان الصهيوني، خصوصًا في العلوم الاجتماعية، لا تنفصل عن مشروع السيطرة وإعادة تشكيل الوعي الفلسطيني والعربي، وتخدم بنية المؤسسة العسكرية والأمنية. وحتى ما يُقدّم منها كأعمال “أكاديمية مستقلة”، لا يخرج عن إطار توظيف ناعم للاستعمار المعرفي، وتلميع صورة الكيان الاستيطاني، وتبرير وجوده بوصفه واحة “الديمقراطية”.

لا ينفصل البحث العلمي في الكيان الاستيطاني عن المؤسسة العسكرية والأمنية، بل هو جزء لا يتجزأ من بنيتها المعرفية والوظيفية. فحين يُطلب منهم حمل السلاح، يغادرون قاعات الندوات إلى ساحات القتال في غزة أو جنوب لبنان، دون أن يشعروا بأي تناقض بين صفاتهم الأكاديمية وانخراطهم المباشر في مشاريع الاستيطانوالإبادة. فالكيان الصهيوني لا يفصل بين المثقف والمقاتل، بين الجامعة والثكنة، بين المعرفة والسلاح. الجميع – بالقلم أو بالبندقية-مجندون في خدمة “العقيدة الأمنية والإبادية للكيان”.

وفي السياق الصهيوني، فإنّ ما يُنجَز من أبحاث داخل جامعات الاحتلال، خصوصًا في علم النفس والاجتماع واللسانيات، يُسهم بشكل مباشر في إدارة الاحتلال وضبط السكان الفلسطينيين، بل وتطوير أدوات التحكم في الوعي والذاكرة، وتحليل أنماط “التمرد” و”الانضباط” من منطلق أمني استعماري.

هذا يُعيد إلى الأذهان دور علماء الاجتماع الذين رافقوا الجيوش الكولونيالية إلى شمال إفريقيا، وخصوصًا إلى المغرب، لإنتاج خرائط إثنية وثقافية تُستخدم في تفكيك المجتمعات، وضبط البنى القبلية والدينية لصالح المركز الاستعماري. إذ كانت المعرفة حينها أداة حرب.

المعرفةفي خدمةالإبادة

واليوم، تُستعاد الوظيفة نفسها، وإنْ عبر مصطلحات مختلفة. هذه الحقيقة تعيدنا إلى أطروحة “أنيبال كويخانو” حول الاستعمار المعرفي (Coloniality of Knowledge)، التي تفضح كيف أنّ البنية المعرفية الغربية، منذ الحداثة الاستعمارية، قامت على تصنيف الشعوب وتراتبيتها معرفيًا وأخلاقيًا، بحيث تُختزل “المعرفة” في أدوات وصفية تقنية محايدة، تُنتزع من سياقاتها الأخلاقية والسياسية، لتُستخدم لاحقًا في خدمة السيطرة وإنتاج الهيمنة.

“كويخانو” يؤكد أن المعرفة ليست محايدة ولا بريئة، بل مشروطة تاريخيًا ومبنية على علاقات القوة، وأنّ “التفوق المعرفي” الذي تدّعيه الحداثة الغربية ليس سوى امتداد لمشروع استعماري يُنتج الآخر بوصفه “موضوعا للمعرفة” لا ذات فاعلة.

من هذا المنطلق، فإنّ مشاركة “باحثين” صهاينة في منتدى جمعية علم الاجتماع الدولية، وسط استمرار عمليات الإبادة في فلسطين، لا تُعدّ حدثًا أكاديميًا بريئًا، بل هي تمرين رمزي على تبييض الإبادة باسم العلم. فـ”الحياد العلمي” هنا يُستعمل لتغطية تحيزغير أخلاقي للجلاد، وتكريس استعمار جديد للساحة الأكاديمية، تمامًا كما حصل في الأزمنة الكولونيالية حين كانت السوسيولوجيا تُستخدم في تحليل “المجتمعات المستعمَرة” لأغراض الضبط والهيمنة.

في حرب أوكرانيا، لم يتردّد الغرب في إقصاء كل ما هو روسي: رياضيون، فنانون، باحثون، حتى الأطفال في المسابقات الثقافية. ووصل الأمر خلال الحرب الروسية الأوكرانية أن الجمعية الدولية لعلم الاجتماع قامت بتجميد عضوية الجمعية السوسيولوجية الروسية. أما حين يتعلق الأمر بفلسطين، فتصبح الجرائم “مسألة خلافية”، ويُصبح القتلة “باحثين”، ويُطلب من الضحية أن تصمت باسم الموضوعية والعقلانية والواقعية.

لكن، لا يعني هذا غياب أصواتٍ نقدية، تملك الجرأة على اتخاذ الموقف، وتملك البصيرة الأخلاقية التي تؤهّلها للانخراط في مواجهة حرب الإبادة. ومن هؤلاء، بعض النخب العلمية المغربية والعربية في علم الاجتماع التي رفضت حضور الوفد الإسرائيلي للمنتدى الخامس لجمعية علم الاجتماع الدولية المنعقد في المغرب ودعت إلى مقاطعته، وقبل ذلك نتذكر الموقف الرمزي للمهندسة ابتهال، حين أعلنت رفضها لتوظيف التقنية الحديثة في خدمة آلة الإبادة، مؤكدة أن العلم لا يفكّر وحده، وإنما يحتاج إلى الفلسفة والأخلاق ليصير نافعا ومُسدَّدًا. لقد برهنت على أن الحياد التقني وهمٌ كبير، وأن فصل العلم عن الأخلاق ليس خيارًا بريئًا بل انحيازا صامتاللقوة.

إن القوة المادية لم تعد هي الأداة الوحيدة للاحتلالّ،بل الهيمنة اليوم تُمارَس بلغة العلوم، ويعاد إنتاجها في منظومة التعليم، والإعلام، لتصاغ السردية والوعي والرمز والمعنى. في كتابه الجريء “نقض الاستعمار المعرفي”، يفكك دان وود وهم “الموضوعية الغربية”، مؤكدًا أن ما نعتقده “معرفة كونية” ما هو إلا امتداد ناعم لسلطة استعمارية قديمة، أعادت إنتاج نفسها عبر سياسات ثقافية ومعرفية. المشكلة ليست فقط في “من يكتب؟”، بل في “من يُصدِّق؟”.

إن أخطر أنواع السيطرة ليس احتلالالأرض، بل إعادة كتابة التاريخ، وتعديل لغة التفكير، حيثيعاد تأليف تاريخ الشعوب المضطهدة، تُختزللغاتها، يشوّه تراثها وتغتال ذاكرتها وتفكك هويتها، والأسوأ من ذلك كلهمحاولة الدعاية الاستعمارية إقناع هذه الشعوب بأن ذلكطريق التقدم والتحرر. وهنا تظهر مأساة المستعمَر: أن يصبح مقلّدًا لمن ظلمه، وأن يخجل من ذاته، ويستبطن احتقاره لنفسه.وهذا ما جعل”أنيبال كويخانو”، الذي ابتكر مفهوم “الاستعمار المعرفي”، يحذر من خطورةفعل الاستعمار في “التوحيد القسري للمعرفة”، وجعل الغرب مرجعية مطلقة لكل ما هو عقلاني ومشروع.

وحين تُحرّر العلوم الاجتماعية والإنسانية نفسها من الخضوع للاستعمار المعرفي، وتستعيد وظيفتها النقدية، تصبح قادرة على فضح الظلم، ورفض الإبادة، وإعادة الاعتبار للإنسان بوصفه غاية لا وسيلة.وإذا كانت مهمة علم الاجتماع كما يشير بيير بورديو هي “إفساد الحفلات التنكرية”، فكيف بمن يشارك في حفل يُزيّف فيه هوية القاتل ويمنحه وسام الباحث النزيه؟ فإذا لم يتم فضح من يرتدي قناع القاتل في صفة الباحث، ويسعى لتحويل محتل إبادي إلى محاور أكاديمي محترم، فلا معنى لعلم الاجتماع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *