الإدارة العمومية في المغرب: قراءة تحليلية في الخطاب الملكي السامي (14 أكتوبر 2016) والحاجة إلى استعادة مضامينه التوجيهية السامية

مقدمة
تُشكل علاقة المواطن بالإدارة العمومية محورًا أساسيًا في بناء دولة حديثة وفعالة، وتجسد مرآة تعكس مدى تقدم المجتمعات وقدرتها على تحقيق التنمية الشاملة. في هذا السياق، جاء الخطاب الملكي السامي الذي ألقاه جلالة الملك محمد السادس في افتتاح الدورة البرلمانية بتاريخ 14 أكتوبر 2016، ليُسلّط الضوء على هذه العلاقة بكل تفاصيلها، مُشخصًا أبرز التحديات والمعيقات، ومقدمًا رؤية ملكية واضحة لإصلاح جذري يضع المواطن في صميم أولويات العمل الإداري.
تنطلق هذه الورقة من أهمية هذا الخطاب الملكي كوثيقة توجيهية، سنسعى من خلالها إلى قراءة تحليلية معمقة لمضامينه، مُبرزين التشخيص الملكي الدقيق لأعطال الإدارة، من ضعف الأداء ونقص الكفاءة إلى تعقيد المساطر وتأثير ذلك على المواطن والاستثمار. كما ستتناول الورقة التوجيهات الملكية السامية للإصلاح، بما في ذلك الدعوة إلى تغيير العقليات، وتطوير الموارد البشرية، وتفعيل الرقمنة واللاتمركز الإداري.
أخيرًا، ستحاول هذه الورقة تقديم تقييمًا للتقدم المحرز منذ الخطاب وتُبرز الحاجة الماسة لاستعادة مضامينه التوجيهية كبوصلة للعمل المستقبلي، مؤكدة على أن تجويد الإدارة هو مفتاح الثقة ودعامة أساسية لتحقيق الطموحات التنموية للمملكة.
أولا: السياق العام وأهمية الخطاب الملكي
ألقي الخطاب الملكي لعام 2016 في سياق سياسي واجتماعي مهم، جاء بعد تجربة الولاية التشريعية الأولى التي تلت إقرار دستور 2011. وصف جلالة الملك تلك الولاية بأنها “تأسيسية” تميزت بالمصادقة على القوانين المتعلقة بإقامة المؤسسات. إلا أن الخطاب حوّل التركيز نحو المرحلة التالية، مؤكدًا أنها “أكثر أهمية من سابقاتها”، وتتطلب “الانكباب الجاد على القضايا والانشغالات الحقيقية للمواطنين، والدفع قدما بعمل المرافق الإدارية، وتحسين الخدمات التي تقدمها”.
تكمن أهمية هذا الخطاب في كونه لم يكن مجرد بروتوكول دستوري لافتتاح السنة التشريعية، بل كان بمثابة رسالة ملكية شاملة ومباشرة موجهة ليس فقط للبرلمان، بل للحكومة والأحزاب والمؤسسات والمواطنين على حد سواء. وقد شدد الخطاب على أن الهدف الأسمى لكل المؤسسات هو خدمة المواطن، وأن أي مؤسسة لا تقوم بهذه المهمة هي “عديمة الجدوى ولا مبرر لوجودها أصلا”. هذا التأكيد يضع خدمة المواطن في صميم أولويات العمل الحكومي والتشريعي والإداري، ويعكس رؤية ملكية تهدف إلى إرساء إدارة فعالة تلامس تطلعات المواطنين وتلبي احتياجاتهم.
ثانيا: التشخيص الملكي لأعطاب الإدارة العمومية
قدم الخطاب الملكي تشخيصًا دقيقًا وشجاعًا للعوائق التي تواجه المواطن في علاقته بالإدارة، مسلطًا الضوء على مجموعة من النقائص الجوهرية. يمكن تلخيص هذا التشخيص فيما يلي:
1. انحراف عن المصلحة العامة
أشار الخطاب إلى أن “البعض يستغلون التفويض الذي يمنحه لهم المواطن… في إعطاء الأسبقية لقضاء المصالح الشخصية والحزبية، بدل خدمة المصلحة العامة، وذلك لحسابات انتخابية”. هذا الانحراف يُبرز تآكل قيم العمل السياسي النبيل ويُفقد المواطن الثقة في ممثليه.
2. قصور الأداء الإداري والخدماتي
تطرق الخطاب بوضوح إلى أن الإدارات العمومية “تعاني من عدة نقائص، تتعلق بالضعف في الأداء، وفي جودة الخدمات التي تقدمها للمواطنين”. هذا القصور يشمل:
التضخم وقلة الكفاءة: مع غياب روح المسؤولية لدى العديد من الموظفين.
الثقافة القديمة: التي تعتبر الوظيفة العمومية “مخبأ يضمن لهم راتبا شهريا، دون محاسبة على المردود الذي يقدمونه”.
تعقيد المساطر وطول الآجال: بدءًا من الاستقبال السيء، مرورًا بتعقيد التواصل، وصولًا إلى معالجة الملفات والوثائق، مما يجعلها “مسار المحارب”.
3. عدم استجابة الإدارة لانتظارات المواطن
سلط الخطاب الضوء على لجوء المواطنين إلى جلالة الملك لحل مشاكل بسيطة، معتبرًا ذلك “خللا في مكان ما”، مرجحًا أن يكون السبب هو “انغلاق الأبواب أمامهم، أو لتقصير الإدارة في خدمتهم، أو للتشكي من ظلم أصابهم”. هذا يعكس غياب آليات فعالة للإنصات والاستجابة لشكايات وتساؤلات المواطنين.
4. مظاهر محددة للخلل الإداري
مشاكل نزع الملكية: حيث يتم تأخير التعويضات أو بخس قيمتها، أو تحويل الأراضي المنزوعة لأغراض تجارية بدل المصلحة العامة القصوى.
معيقات الاستثمار: رغم إحداث المراكز الجهوية والشباك الوحيد، لا تزال الإدارة تعقد الأمور على المستثمرين، مما يؤدي إلى ضياع فرص التنمية والتشغيل.
عدم تنفيذ الأحكام القضائية: خاصة تلك الصادرة ضد الإدارة، مما يمس بحقوق المواطنين والمقاولات.
الشطط في استعمال السلطة والنفوذ: وتعقيد المساطر وطول آجال منح الوثائق الإدارية، مما يسبب مشقة كبيرة للمواطنين، لا سيما الجالية المغربية بالخارج.
عدم تسديد الديون: خاصة للمقاولات الصغرى والمتوسطة، مما يؤثر سلبًا على الاقتصاد الوطني.
إشكالية تطبيق مدونة الأسرة: حيث لا يزال العديد من المواطنين، خاصة بالخارج، يجهلون مضامينها وحقوقهم وواجباتهم.
ثالثا: التوجيهات الملكية السامية للإصلاح
لم يكتفِ الخطاب بتشخيص الوضع، بل قدم رؤية متكاملة للإصلاح، مؤكدًا أن “النجاعة الإدارية معيار لتقدم الأمم”. تضمنت هذه الرؤية عدة محاور أساسية:
1. تغيير السلوكيات والعقليات
دعا الخطاب إلى ضرورة “تغيير السلوكيات والعقليات، وجودة التشريعات، من أجل مرفق إداري عمومي فعال، في خدمة المواطن”. هذا يشمل تجاوز النظرة السلبية للوظيفة العمومية كـ “مخبأ” والتحلي بروح المسؤولية الوطنية.
2. تأهيل وتكوين الموظفين
شدد الخطاب على “إعطاء عناية خاصة لتكوين وتأهيل الموظفين، الحلقة الأساسية في علاقة المواطن بالإدارة، وتمكينهم من فضاء ملائم للعمل، مع استعمال آليات التحفيز والمحاسبة والعقاب”. الهدف هو بناء موظف كفؤ ومسؤول ومحفز.
3. تعميم الإدارة الإلكترونية (الرقمنة)
دعا جلالة الملك إلى “تعميم الإدارة الإلكترونية بطريقة مندمجة، تتيح الولوج المشترك للمعلومات بين مختلف القطاعات والمرافق”. الهدف من ذلك هو تبسيط حصول المواطن على الخدمات، وتقليص الحاجة إلى التنقل والاحتكاك المباشر بالإدارة، مما يساهم في “محاربة ظاهرة الرشوة، واستغلال النفوذ”.
4. تفعيل الجهوية المتقدمة واللاتمركز الإداري
اعتبر الخطاب “الجهوية المتقدمة” حجر الزاوية الذي يجب أن ترتكز عليه الإدارة “في تقريب المواطن من الخدمات والمرافق، ومن مركز القرار”. كما شدد على ضرورة “بلورة وإخراج ميثاق متقدم للاتمركز الإداري، يستجيب لمتطلبات المرحلة”، وذلك لتوزيع الصلاحيات وربط المسؤولية بالمحاسبة على المستوى المحلي والجهوي.
5. التنسيق والتعاون بين المؤسسات
أكد الخطاب على ضرورة انخراط “الجميع، حكومة وبرلمانا، أحزابا ونقابات، جمعيات وموظفين، للتحلي بروح الوطنية والمسؤولية، من أجل بلورة حلول حقيقية للارتقاء بعمل المرافق الإدارية، والرفع من جودة الخدمات التي تقدمها للمواطنين”.
رابعا: الحاجة الماسة لاستعادة مضامينه التوجيهية
بعد مرور ما يقرب من تسع سنوات على إلقاء هذا الخطاب الملكي البارز، لا تزال العديد من التحديات التي شخصها جلالة الملك قائمة، وإن كان هناك تقدم ملحوظ في بعض الجوانب. إن استعادة مضامين هذا الخطاب اليوم لا تمثل مجرد استذكار، بل هي ضرورة ملحة وحيوية لمستقبل الإدارة العمومية المغربية، وذلك للأسباب التالية:
1. استمرارية التحديات الجوهرية
على الرغم من الأوراش الإصلاحية والمجهودات المبذولة، لا تزال مشاكل مثل تعقيد المساطر، وضعف التنسيق بين الإدارات، وطول آجال معالجة الملفات، والشكاوى المتعلقة بسوء الاستقبال، تظهر في تقارير المؤسسات الوطنية وتجارب المواطنين اليومية.
2. تعزيز الثقة بين المواطن والإدارة
تظل الثقة ركيزة أساسية لأي مشروع تنموي. الخطاب الملكي شدد على أن لجوء المواطن إلى الملك هو دليل على خلل في الإدارة. استعادة هذه التوجيهات تعني العمل على بناء إدارة جديرة بالثقة، قادرة على حل مشاكل المواطنين دون اللجوء إلى تدخلات عليا.
3. دعم النموذج التنموي الجديد ومناخ الاستثمار
المغرب اليوم في صلب مشروع النموذج التنموي الجديد الذي يرتكز على اقتصاد تنافسي وجاذب للاستثمار. لا يمكن تحقيق هذا الهدف دون إدارة فعالة، شفافة، ومحفزة. العراقيل التي أشار إليها الخطاب عام 2016 بخصوص الاستثمار ما زالت تؤثر على جاذبية المملكة، مما يجعل استعادة التوجيهات الملكية المتعلقة بتبسيط المساطر وتفعيل الشباك الوحيد أمرًا ضروريًا.
4. مواكبة التحولات الرقمية والمتطلبات الدولية
يشهد العالم ثورة رقمية كبرى، والمغرب يسعى للانخراط فيها بقوة. توجيهات الخطاب بشأن تعميم الإدارة الإلكترونية أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى لمواكبة التطورات الدولية وتقديم خدمات رقمية سلسة وفعالة، تقلص الاحتكاك البشري وتحد من الفساد.
5. تفعيل اللاتمركز والجهوية كمحركات للتنمية
أشار الخطاب إلى أن اللامركزية والجهوية واللاتمركز الإداري هي ركائز أساسية. استعادة هذه المضامين تعني ضرورة تسريع وتيرة تفعيل اللاتمركز الإداري الفعلي ومنح الجهات صلاحيات أوسع، بما يمكنها من خدمة المواطنين والمستثمرين بكفاءة أكبر على المستوى الترابي.
خاتمة
يُعد الخطاب الملكي لعام 2016 بمثابة وثيقة مرجعية شاملة لرؤية إصلاح الإدارة العمومية في المغرب. لقد قدم تشخيصًا دقيقًا للمشاكل التي تعتري علاقة المواطن بالإدارة، وحدد خارطة طريق واضحة المعالم للإصلاح. على الرغم من الإنجازات المحققة في بعض المجالات، فإن الحاجة إلى استعادة مضامين هذا الخطاب وتفعيلها بشكل كامل لم تعد مجرد خيار، بل أصبحت ضرورة استراتيجية قصوى.
إن تحقيق الأهداف التنموية الكبرى للمملكة، وتعزيز الثقة بين المواطن والمؤسسات، وضمان العدالة والإنصاف، مرهون بقدرة مختلف الفاعلين (الحكومة، البرلمان، الأحزاب، الإدارة، والمجتمع المدني) على الانخراط بجدية ومسؤولية في تنزيل هذه التوجيهات الملكية. الإدارة الفعالة ليست رفاهية، بل هي عماد أي إصلاح وجوهر تحقيق التنمية والتقدم الذي يصبو إليه الشعب المغربي الوفي.
اترك تعليقاً