ميموزا.. النافذة التي نطل منها على المستقبل

«ميموزا» رواية تحكي لنا عن الماضي لنحيا المستقبل؛ هذا هو الانطباع الذي رافقني أثناء إبحاري في خضم صفحاتها التي تناهز ستمائة صفحة، إلا أني استطعت الهروب إلى تفاصيلها رغم المشاغل والالتزامات لأقف عند ختام الكتاب الأول منها الخاص بطفولة ذ. الوديع وشبابه، والذي يشرف على ثلاثمائة صفحة. كنت قد اقتنيتها ثلاثة أيام قبل مشاركة كاتبها الأستاذ صلاح الوديع منصة مركز إكليل بطنجة، في ضيافة جمعية بيت المبدع بدعوة كريمة من الأستاذة الشاعرة زوهرة الحميمدي التي تحرص وأعضاء الجمعية على تأثيث فضاءات المدينة باستقبال ضيوف من العيار الثقيل خدمة للإبداع والحراك الثقافي، ومن تقديم الشاعر المبدع أحمد الحريشي الذي تزيد بلاغته وأسلوبه المتفرد هذه اللقاءات رونقا خاصا.
بين صفحات الرواية
لقد كتب ذ. الوديع روايته بذاتية الشاعر وموضوعية المؤرخ ليحكي لنا عن تفاصيل الحقبة التي عاشها، والتي تعد من أحلك سنوات المغرب المعاصر، الموسومة بسنوات الجمر والرصاص. هذه العبارة الأخيرة تعني لي الكثير باعتباري ممن تفتح وعيهم السياسي على شعارات العهد الجديد بقيادة الملك محمد السادس ألبسه الله رداء العافية.
سنوات الجمر والرصاص، العنوان الذي تنافست الصحافة المستقلة آنذاك على كشف تفاصيله عبر الحوارات والمتابعات والتقارير حول أعمال هيئة الإنصاف والمصالحة، والاستجوابات لمن عايشوا تلك الفترة المظلمة. كنت أتابع بشغف هذه القصص والحكايا المرعبة والمخيفة، والتي أوحت لي بأننا نغادر عهدا مظلما إلى آخر يحمل تباشير الحرية.
«ميموزا» الوديع، التي استطاعت أن تأخذ بتلابيبي وتقحمني عوالم الوديع أبا وأبناء وأسرة، اختارت النضال سمة لها، والكفاح من أجل الاستقلال في فترة الاستعمار، وللحق والعدالة الاجتماعية شعارا لها، وفضّلت أن تبعث بأفرادها تباعا إلى المعتقلات حبا للوطن.
لقد سافرت مع صلاح الطفل من سلا إلى تطوان ثم الخميسات حيث كان يلقي التحية على ميموزا صباحا في طريقه إلى المدرسة، وتأسفت لوفاة نعيمة التطوانية، تلك الطفلة التي منحته حلاوة الحب، لكن نتيجة لارتفاع منسوب حلاوتها اختطفها داء السكري رحمها الله، لتركني أتابع الوديع في مغامراته وهو ينجو من الموت مرارا، ملاحقا الحياة بكل تقلباتها.
لقد خشيت عليه حينما كاد السيل أن يجرفه لينجو مرة أخرى بأعجوبة ومحفظته المدرسية، وضحكت حينما علت بصمات أحدهم على المناشير بعد ليلة طويلة من طبعها بحذر وخوف من البوليس، وتملكني إحساس بالرعب حينما دخلت معه أقبية درب مولاي الشريف الباردة، حيث رائحة الموت والدم وأصوات المعذبين، لأرفع عيني إلى السماء واضعا الرواية على صدري قائلا: «إلهي أسألك ألا تعيد على وطننا تلك السنين، ولا تسمح بأن يفتح علينا بابها».
ركز الوديع على دور الأسرة فيما يشبه الاحتفاء، انطلاقا من الوالد الوديع الآسفي إلى الأم ثريا السقاط رحمهما الله إلى باقي أفرادها، مؤكدا أهمية وجودها وتراصها، فهي معهد التكوين الأول الذي يدفع الفرد نحو التطور والترقي واكتساب المهارات الاجتماعية والفكرية. ويمكن تلمس ذلك في قيمة العلم والمعرفة السائد آنذاك داخلها من خلال التشجيع على المطالعة وقراءة الكتب. وهي كذلك مشتل الأحرار، ويتجلى ذلك في مشاهد عديدة، منها وقوف السيدة ثريا السقاط أمام رجال البوليس السري في رحلة بحثها عن زوجها الآسفي الذي اعتقل نحو المجهول، في مشهد ملهم أزال من قلب صلاح كل خوف من عناصر البوليس السري والضباط، لتسري في عروقه شجاعة والدته وعنفوانها.
المدرسة العمومية حاضرة في الرواية، ويحتفي بها الكاتب نظرا لما كانت تقدمه للمتعلم من علم ومعارف، وكذلك ما تزرع فيه من حب للوطن والاهتمام بقضاياه، ويستشف ذلك من خلال عبارات الوفاء التي رصع بها الوديع فقراته حول أساتذته ومعلميه.
في الرواية كذلك أسماء عملاقة قد تبدو للوهلة الأولى متشاكسة الاتجاهات متباينة الرؤى، لكن جميعها تركت بصمة في قلب الوديع، من العلامة المختار السوسي الفقيه الذي أصر على أن يلتحق الوديع الأب بالقرويين للدراسة وأشرف على ذلك، إلى عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي وغيرهما الكثير ممن أثروا مساره.
تخبرنا الرواية أيضا عن المغرب الذي كان، وعن الأحلام الكامنة فيه، وعن الرؤى التي بفضلها نتنسم نسائم الحرية اليوم، ولا نملك إلا الوقوف تقديرا واحتراما لمن قدموا في سبيلها زهرات شبابهم وأرواحهم؛ الرؤى التي حملتها النخب الوطنية وتبناها آنذاك اليسار: يسار العدالة الاجتماعية والتحرر والتقدمية. يسار لم يكن غريبا أن تجد بين صفوفه الفقهاء مناضلين بجوار السياسيين. ونستحضر هنا فضيلة الشيخ المحدث الصوفي سيدي عبد العزيز بن الصديق الغماري الذي ناضل من خلال صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ثم الاتحاد الاشتراكي إلى جوار عبد الرحمن اليوسفي. فالمغرب الذي كان يقف فيه السياسي إلى جوار الفقيه، والفقيه إلى جوار السياسي دون حرج، لأن الحق هو الحق، والعدالة هي العدالة، والحرية هي الحرية.
وباعتباري ابن شعبة الدراسات الإسلامية، أدرك حقيقة حضور اليسار كشعارات ومقولات في الفكر الإسلامي المعاصر، والعكس صحيح أيضا، ويعود ذلك إلى التأثر والتأثير القائم بين الاتجاهين. ويمكن تتبع ذلك في أعمال رواد الفريقين الذين انتقلوا من ضفة إلى أخرى. ومن هنا أدلف إلى نقطة مهمة فاتني الإشارة إليها في مداخلتي، وهي حضور الدين والتراث في الرواية. فالأستاذ صلاح لا يخفي في مواضع عديدة إيمانه بحرية التدين، وأن الدين لا يملك أحد استبعاده من حياة الناس اليوم ولا غدا، لكنه في الوقت نفسه يخشى من توظيف السياسة في الدين والعكس.
إلى جانب تصويره رؤيته للتراث من خلال حوارية يعقدها بينه وبين الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، باعتباره جده البعيد الذي يفتخر بكونه قدم اجتهادات مهمة توافق روح الإسلام وعدله، وعاش حياة الكفاف والدفاع عن حقوق المظلومين. إلا أنه في الوقت نفسه رويت عنه أخبار حول تعامله مع المسيحيين والإماء وغير ذلك، وهي مما تضمنته كتب التراث. لكن من موقعي كباحث أتفهم الانتقادات التي وجهها الأستاذ الوديع في قالب أدبي.
هذا المشهد الغارق في الرمزية يستبطن مسألة التعامل مع التراث باستبقاء جميله ومساءلة الآخر بمرجعية حقوقية كونية. وفي نظري، أعتقد أن دوام النظر والانفتاح على التراث أكثر فأكثر سيكشف أن الأخبار المشار إليها لا تصمد أمام الوقائع التاريخية، وأنه حتى بقبولها فإن الأستاذ الوديع نفسه يكثف في عبارة وجيزة ما قاله على لسان الخليفة عمر: «ذلك كان زمنا آخر»، وكأنه يشير إلى عدم إمكان استجلاب تلك الأحكام للسياقات المعاصرة. هذا نقاش طويل ومساراته متشعبة استطاع تلخيصه في هذه الأسطر ببراعة.
ختاما
لقد منحتني هذه الجلسة وقراءتي لهذا العمل فرصة لمعانقة ماضي بلادي وتقدير ما نعيشه اليوم من حرية، والسعي إلى رفع منسوبها والدفع لعدم انتكاسها، إيمانا منا بالمغرب الحر الذي يسعنا جميعا باختلاف مرجعياتنا ورؤانا، والتي رغم تباينها تضم مساحات شاسعة من القيم المشتركة، ومساحات أخرى وإن بدت متباعدة فإن النقاش الجاد والمسؤول قادر على ردم هوتها. لقد أدى الأستاذ صلاح الوديع دوره ووضع رؤاه وتجربته أمامنا في محاولة تعد على أطراف الأصابع، فالفاعل السياسي في المغرب يمضي دون أن يخط حرفا واحدا ليخبر من بعده، في تصرف عجيب ينم عن عدم تقدير للمسؤولية التاريخية التي يتحملها. لذلك نجدد الشكر للأستاذ صلاح الوديع على بوحه النبيل وعلى الآفاق التي فتحها أمامنا.
اترك تعليقاً