من جهلها.. عن فوكو وحرية العبيد

عندما تكون العبودية مختارة “بحرية” كما يفهم الفيلسوف الفرنسي Étienne de La Boétie في كتابه Discours de la servitude volontaire؛ فإن شروط الإمكان المعرفية التي يلح عليها ميشيل فوكو في سياق مختلف تكون فقيرة.
إن فهم فلسفة تدعو للحرية لا تتأتى لمن تربى داخل العبودية وتسلق داخل دوالبها للوصول إلى منصب واعتقد انه يتمثله.
لذلك ربط الفيلسوف الفرنسي بين الحرية والمعرفة. ولذلك كانت الآفاق الفلسفية تتمأسس بين أن تكون الحرية هي شرط التفكير الفلسفي، أو أن الفلسفة هي الوسيلة لفهم وتحديد معنى الحرية. وكانت العبودية عائقا للتفكير.
ولذلك فعندما تكون المعرفة مدفوعة الأجر والأجر هنا ليس ماديا بل قد يكون وظيفة اجتماعية فإن النقد يكون نوعا من الإيديولوجيا؛ لأن شروط الإمكان المعرفية les conditions de possibilité على حد تعبير فوكو تكون غائبة بفعل سلطة السيد الذي يؤطر المعنف الذي أطال عنه فرانس فانون الحديث.
من هنا نفهم سياق المعرفة الذي يربطه باشلار ب”تربية العقل”. فالعقل الذي تربى داخل شروط معرفية بئيسة لا يدرك السياقات المعرفية العلمية؛ ويتطاول على قدسية المعرفة مادام لم يترب داخلها ودخلها من مدخل التبعية والخضوع الذي يتنافى مع الفكر العلمي الحر.
من هذا المنطلق نفسر الطلاق المعرفي بين مفهوم المعارف العامة les connaissances communes التي يذكرها باشلار ويكتسبها “الكتبة” les écrivants على حد تعبير رولان بارت والمعرفة العلمية la connaissance scientifique التي وضعها باشلار مقابلا والتي ينتجها الكتاب les écrivains في تصور بارث.
فگاستون باشلار يضع حدودا فاصلة بين المفهومين ليؤسس عليه فوكو فلسفة دقيقة تفرق بين تاريخ الأفكار الذي يملأ عقول التقليديين والعبيد؛ والبناء الإبستمولوجيي الدقيق.
إن ميشيل فوكو يعتبر الحرية عدم غياب للسلطة، بل هي ممارسة داخل علاقات القوة. وهو يربط السلطة بمفاهيم دقيقة جدا لا يمكن فهمها دون فهم الشبكة المفاهيمية الدقيقة التي تتبناها فلسفة فوكو: فهي “ليست شيئًا يمتلكه الأفراد أو الجماعات، بل هي شبكة علاقات متغيرة تؤثر في تشكيل الأفراد وسلوكهم”.
وهذا يعني أن سلوك المعرفة العامة التي تربت داخل العبودية لن تفهم طقوس المعرفة العلمية التي تمنحك سلطة الكلمة في سياق مفاهيمي ويميولوجي معين؛ قد يجعلك منتج الخطاب يتصرف وكأنه في حضيرة لأنه لا يدرك أن تربية العقل شروط معرفية وشروط إمكان سياقية أساسا.
فالحرية ليست حالة سلبية من التحرر من القيود، عند فوكو. لذلك يفهمها الذي تربى خارج الممارسة التكفيرية الباشلارية نوعا مختلفا يكون فيه التعبير العبودي نوعا من الركل.
إن الحرية عند فوكو ممارسة نشطة لبناء الذات وتشكيلها داخل هذه الشبكة، من خلال ممارسات الرعاية الذاتية والمقاومة.
ولفهم علاقة حرية التفكير من وجهة فلسفية أخرى لابد من العودة لقراءة تصور الفيلسوف الكندي آلان دونو، مؤلف كتاب “نظام التفاهة”، فهو يقدم وصفة ما أحوجنا نحن الاكاديميون- الذين أحاطت بنا الرداءة من كل فج عميق بسبب المحسوبية التي تربي العبيد وتنصبهم في مواقع بناء المعرفة- حيث يرى :إن لم يفهم الأكاديميون ضرورة التحفظ العقلاني والتوازن والغموض، فإن دروسا وظروفا قاسية ستحيط بنا، لأن الباحثين الكبار الذين يُزعج عملهم ويفكك حقيقة التخلف المعرفي ويدعو بحرية فكرية سوف يتكالب عليهم رواد التخلف و”المثقفون الإعلاميون” كما يسميهم جاك دريدا. فهم تصدروا المجالس دون حياء في وقت كان يستحيي المقريزي أن يتصدرها.
وسيدفع المثقف ثمن المعرفة الابسستيمولوجية غاليا؛ وستتم مضايقتهم وربما ضردهم من مؤسسات “مأسسة الجهل” كما يسميها الفيلسوف أركون.
اترك تعليقاً