وجهة نظر

تفاعلا مع نص لعالم الاجتماع عبد الصمد الديالمي السوسيولوجيا في عصر الأنثروبوسين: برنامج قوي أم برنامج ضعيف؟

في السياق

تفاعلا مع الشعار العام للمنتدى العالمي للسوسيولوجيا “معرفة العدالة في عصر الأنثروبوسين”، كتب د. عبد الصمد الديالمي نصا بعنوان “المكانة المحورية للسوسيولوجيا في عصر الأنثروبوسين”. وعوضا عن مباشرة الموضوع بتمهيد تأطيري أو إشكالي، آثر د. عبد الصمد الديالمي أن يعرج على موقفه الثابت من المنتدى العالمي للسوسيولوجيا، الذي تنظمه الجمعية الدولية لعلم الاجتماع قائلا: “لم أشارك في هذا المنتدى، ولم أفكر قط، في يوم من الأيام، أن أشارك فيه؛ نظرا لمشاركة الإسرائيليين. وبصفتي جامعيا، أعتبر المشاركة في هذا المنتدى بمثابة تواطؤ مع الإبادة التي تمارسها إسرائيل في غزة لدواع استعمارية وإمبريالية، وتواطؤ، أيضا، مع الجرائم العنصرية والاستعمارية التي تقترفها إسرائيل في الضفة الغربية. وعليه، لم أكن لأسامح نفسي، وأجالس إسرائيليين صهاينة، ثم أحاضر إلى جانبهم في موضوع ما فتئوا ينتهكونه منذ عام 1948”

أود أن أشير، في البداية، إلى الارتباك الذي طبع جل المواقف الداعية إلى مقاطعة المنتدى، سواء كانت من وحي امتزاج الدين بالسياسة، أو كانت بوحي من اختلاط العلم بالإيديولوجيا؛ ففي كل الأحوال، لم نفلح في التمييز فيها بين الشكل والمضمون، وظل الغموض واللبس يعتوران المواقف، وتزاحمت العبارات داخل الثغر الواحد مترنحة بين شجب الحضور في ذاته، والاعتراض البعدي على فحوى الملخصات والمداخلات.

أما عبد الصمد الديالمي، الذي فضل أن يتحدث في الموضوع بصفته جامعيا، فقد جاء موقفه على قدر من الوضوح جلي، لا يختلط على المتلقي بما يمكن أن يشوش على صفائه ونقائه. لقد عبر عبد الصمد الديالمي عن مقاطعته للجمعية الدولية أصلا؛ نظرا لمشاركة الإسرائيليين فيها. وَلَإِنْ اعترض على مشاركة الإسرائيليين، فليس انقيادا عاطفيا لحالة وجدانية عامة تشكلت في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر سنة 2023، حيث عاثت إسرائيل دمارا في العمران وتقتيلا في الأطفال، بل لأن إسرائيل، بحسب ما جاء على لسان د. عبد الصمد الديالمي، ما انفكت تنتهك العدالة في عصر الأنثروبوسين منذ عام 1948.

وإذا التمس السائل إطارا إبستيمولوجيا أو سوسيولوجيا لموقف كهذا، فسيجده في ذيل النص الذي قدمه عبد الصمد الديالمي في الموضوع؛ حيث جاء على لسانه ما يلي: “لا مجال للتفكير في الأنثروبوسين دون أن نطرح السؤال حول العدالة: العدالة الإيكولوجية، والعدالة الإبستيمية، والعدالة الاجتماعية. وفي نهاية الأمر، إن التفكير في العدالة، في زمن الأنثروبوسين، يقضي بالتفكير مع الجنوب، وبه ومن خلاله. إن السوسيولوجيا المنغمسة في الواقع منفتحة على العالم، وتساهم فيه بقوة حينما تكون متعددة ومتضامنة؛ أي ملتزمة”.

بعد هذا التقديم الموجز لموقف د. عبد الصمد الديالمي والإطار الشارح له، يقفز إلى الذهن سؤال يبدو أنه لا يحتمل التريث أو الإرجاء: ما كل هذا التعاظم في الكلام؟ وأي راديكالية هذه؟ ومن يقول هذا الكلام؟ وكيف يصير العالِم أكثر راديكالية؛ فيزايد على الفلسطينيين أنفسهم، الذين يُعتبرون عضوا رسميا في الجمعية الدولية لعلم الاجتماع لما يربو على العقد من الزمن؟ !!!

لقد كنت وما أزال مهتما بكل ما يكتبه د. عبد الصمد الديالمي، ومتابعا لخرجاته الإعلامية أيضا، ولم أعثر، في يوم من الأيام، على أي اهتمام لهذا العالِم، الذي صادف ميلاده عام “النكبة”، بالقضية الفلسطينية، أو انتماء إلى منظمة تدعم القضية الفلسطينية، وتسهر على مد يد المساعدة للفلسطينيين والتخفيف من معاناتهم، ولم أقرأ له أو أسمع له حديثا عن سوسيولوجيا البيئة، أو كلاما عن الأنثروبوسين.

وفي الوقت الذي كنا -نحن طلابا ونقابيين وجمعويين -نتعرض لمضايقات من طرف أجهزة الدولة بسبب مناصرتنا للقضية الفلسطينية، خصوصا بعد الخطاب المعروف للراحل الملك الحسن الثاني رحمه الله، كان الأستاذ عبد الصمد الديالمي، حينئذ، يلتمس منا أن نعالج الأمور بهدوء وبعيدا عن لغة الالتزام النضالي؛ لأن السوسيولوجيا على حد تعبيره ـ هو نفسه ـ علم بارد. فمتى بدأ عبد الصمد الديالمي يهتم بسوسيولوجيا ملتزمة ومتضامنة مع الشعوب، لاسيما وأن الظلم، برأيه، قد بدأ منذ العام 1948؟

فيما يخص القضايا المتعلقة بالأنثروبوسين والمخاطر التي تحذق بالبيئة، أود أن أذكر بأنني قد أشرفت، شخصيا، على تنظيم ندوة دولية في الموضوع أياما قبل إعلان الحجر الصحي بسبب انتشار فيروس كورونا، بمعية زملاء طبعا، وكان من مخرجاتها كتابٌ يجمع بين دفتيه 255 صفحة من الحجم الكبير، يحمل عنوان: “البيئة والتنمية المستديمة: أدوار جديدة، وآفاق واعدة للعلوم الاجتماعية”، قمت بتنسيق محتوياته إلى جانب الزميل محمد الدرويش بعد إعلان استكتاب مفتوح طبعا لجميع المهتمين. ومن الواضح، من خلال عنوان الكتاب، أن النقاش الإبستيمولوجي كان حاضرا بقوة، وأن الأمر لم ينحصر في إعلان مواقف ثابتة. غير أن د. عبد الصمد الديالمي كان، وقتئذ، على ما يبدو، شاردا لم يكلف نفسه لا المشاركة، ولا حتى الكتابة في الموضوع على هامش الحدث كما فعل الآن.

وفضلا عن هذا، نظمت أكاديمية المغرب مناظرة العلوم الإنسانية والاجتماعية، رهانات وآفاق بتاريخ 7-8 فبراير 2024 واحتل فيها الأنثروبوسين محور اهتمام العديد من الباحثين والعلماء، لكن دون أن أجد للأستاذ عبد الصمد الديالمي أثرا؛ فمرة أخرى، متى بدأت هذه السوسيولوجيا الملتزمة بقضايا الشعوب والبيئة تثير اهتمام د. عبد الصمد الديالمي، الذي يعلم حق العلم أن إسرائيل لا تنتهك حقوق الفلسطينيين فحسب، بل تنتهك العدالة البشرية في زمن الأنثروبوسين منذ عام 1948 !!!

إن الجميع يعرف جيدا ما يثير اهتمام د. عبد الصمد الديالمي، ولا يمكن لأي شخص، برأيي، أن يزايد عليه في موضوع تخصصه، بل إنه، فيما أجري معه من حوارات عمومية، كان يمتلك من الجرأة ما يجعل موضوع تخصصه وحياته يمتزجان؛ وهذا يحسب له لا عليه. غير أن السوسيولوجيا التي أنتجها أبعد ما تكون عن القضية الفلسطينية، أو عن إشكالية البيئة، أو الإيكولوجيا، بل هي سوسيولوجيا دوركايمية باردة لا علاقة لها بما يعتمل من قضايا ساخنة على الساحتين الوطنية والدولية، اللهم إذا اعتبرنا مبحث الجنسانية ساخنا بالمعنى الحرفي للكلمة. ولعمري إني أعد سوسيولوجيا عبد الصمد الديالمي في موضوع الجنسانية والصحة الإنجابية من أكثر السوسيولوجيات توفيقا فيما يخص الحياد والمسافة العقلية كما تصورها وتطلبها إيميل دوركايم، خصوصا والجميع يعلم مدى حساسية الموضوع، والصعوبة التي يطرحها موضوع الجنسانية على مستوى الموضعة l’objectivation.

لقد كنا-نحن الطلبة المتعلقون بأستاذهم عبد الصمد الديالمي-نثور في وجه كل من يستعمل كلمات مثل “البغاء” أو “الدعارة”، ونطلب منهم، بحكمة العلماء التي تعلمناها على يد أستاذنا، الممزوجة بقدر من الترفع والتعالي، بأن يستعيضوا عنها بعبارة باردة تصف أكثر مما تحكم؛ ألا وهي “العمل الجنسي”. لذلك أجدني على حال من الاستغراب شديد، وقد أخذ مني الفضول مأخذا لمعرفة الدوافع الحقيقية الكامنة خلف كل هذه الراديكالية غير المفهومة، وهذا الالتزام غير المعهود، الذي انتهك حرمة سوسيولوجيا كمية باردة عنوانها البارز: الابتعاد عن أحكام القيمة والالتزام باحترام المسافة العقلية.

أي مكانة محورية للسوسيولوجيا في عصر الأنثروبوسين؟

يعبر د. الديالمي بلغة تقريرية سعيدة ومنشرحة عن محورية المقاربة السوسيولوجية فيما يثيره عصر الأنثروبوسين من مشاكل وقضايا عالقة. هذا بينما تعتبر البيئة، اليوم، إلى جانب مواضيع أخرى طبعا، من المواضيع التي تضع المقاربة السوسيولوجية على المحك، بل وتشكك في وجاهة مصادراتها الأساسية ومقدماتها الإبستيمولوجية. لذلك، وعلى خلاف ما يبعثه أسلوب د. الديالمي من طمئنينة في نفوس السوسيولوجيين بشأن المكانة التي تستأثر بها السوسيولوجيا في عصر الأنثروبوسين، أرى أَنَّ عَلَى هذا العلم الفتي-قياسا إلى باقي العلوم-إذا ما توخى أن يحافظ على مكانته المحورية بين العلوم، أن ينسلخ عن مقدماته الأساسية، ويعيد بناء براهينه، ويشحذ مفاهيم جديدة، ويعمل على إعداد أدوات جديدة لجمع المعطيات وتحليلها. قُصر الكلام، يتعين على السوسيولوجيا، في مواجهتها للمشكلات التي تطرحها البيئة في عصر الأنثروبوسين، أن تعيد تعريف ذاتها من جديد.

إن ضرورة التدخل السوسيولوجي وفائدته في مواجهة المشاكل والصعوبات التي يطرحها عصر الأنثروبوسين تجدان مسوغاتهما، برأي د. الديالمي، في ازدواجية الآثار التي يخلفها هذا العصر على حياة المجتمعات؛ فهي لا تنحصر في الجوانب المادية الفيزيائية، بل تطال أيضا الجوانب المعنوية (الطريقة التي تفكر بها المجتمعات نفسها). ولعمري لو كان التمييز في آثار الظواهر بين ما يطال منها الجوانب المادية لحياة المجتمعات البشرية وما يطال منها الحياة المعنوية، هو ما يَبُتُّ في ضرورة السوسيولوجيا وفائدتها، لكان أفلاطون أو أرسطو أول سوسيولوجي على الإطلاق.

لكن د. الديالمي لا يتوقف عند هذا المعيار العام (وجود آثار مادية ومعنوية على حياة المجتمعات) لتقدير ضرورة التدخل السوسيولوجي وفائدته في عصر الأنثروبوسين، بل يعتبر أول مساهمة للسوسيولوجيا في هذا المجال هي تفكيك مقولة “البشرية” من خلال نقد فكرة وجود بشرية متجانسة مسؤولة عن الأزمة البيئية. وقد اهتدى د. الديالمي إلى هذا الموقف بفضل الاستعانة بأطروحات كل من “أندرياس مالم” و”جيسون مور” (Andreas Malm et Jason Moor) اللذين يعترضان على عمومية مصطلح الأنثروبوسين ويكشفان المنطق البشع للرأسمالية الصناعية، الذي يضعنا أمام تفاوتات صارخة تحدث في العمق خلخلة على مستوى الدورات الإيكولوجية.

يعني د. الديالمي بتفكيك مقولة “البشرية” إقحام مقولات السوسيولوجيا الكلاسيكية ومتغيراتها في تحليل المخاطر المحدقة بالبيئة؛ من قبيل علاقات السلطة، والتفاوتات الاجتماعية؛ حيث إن عصر الأنثروبوسين لا يضع الجميع، في مواجهة المخاطر، على قدم المساواة، بل تتفاوت هذه المخاطر بحسب الطبقة الاجتماعية والنوع والعرق والموقع الجغرافي.

لنفترض الآن أن هذا الأمر هو ما يحدد أهمية المقاربة السوسيولوجية في عصر الأنثروبوسين، ولنفترض أيضا أن هذا الموقف وجيه لا يخاصم الصواب، فعن أي تجديد إبستيمولوجي، وعن أي تحديات إبستيمية في عصر الأنثروبوسين يتحدث د. الديالمي؟ هل في تفتيت موضوع المخاطر البيئية في عصر الأنثروبوسين إلى أبعاده الاجتماعية انطلاقا من المقولات السوسيولوجية المعهودة مثل الطبقة، والنوع، والعرق، والموقع الجغرافي، ورهانات السلطة أي جدة إبستيمولوجية أو تحد إبستيمولوجي؟

على كل حال، إذا كان الكشف عن التفاوتات الاجتماعية والجغرافية في التعرض للمخاطر هو ما يميز المقاربة السوسيولوجية، ويمنحها المكانة المحورية التي تستأثر بها في زمن الأنثروبوسين، فليس في الأمر أي جدة على مستوى التأطير والتحليل، اللهم أن التفاوت في التعرض للمخاطر التي تهددنا، قد يكون أحيانا، أو قل في كثير من الأحيان، لحساب وفائدة الطبقات الفقيرة والمجالات الجغرافية الهامشية. ولقد لاحظنا، خلال انتشار فيروس كورونا، كيف أن المدن الكبرى، المتميزة بكثافة سكانية عالية، وتقطنها طبقة برجوازية صغيرة ومتوسطة، هي التي كانت أكثر عُرضة للمخاطر بالمقارنة مع المداشر الهامشية والفقيرة، التي كانت تستجيب، بطبيعتها، لشروط السلامة والوقاية من خطر الإصابة بالفيروس وقتذاك، وفي مقدمتها شرط التباعد. ولعل هذا ما يفسر الإقبال المتزايد لأفراد الطبقة المتوسطة على اقتناء مسكن في أحواز المدينة بعيدا عن المركز الحضري المختنق؛ وذلك بمجرد أن وضعت المعركة مع الفيروس أوزارها.

سوسيولوجيا البيئة، برنامج قوي

في إطار سوسيولوجيا العلوم ما بعد الوضعية، يميز ديفيد بلور بين البرنامج القوي والبرنامج الضعيف. ونظرا للتعقيدات البالغة التي تحيط بهذا التمييز، وما أثاره، بحسب مؤسسيه ديفيد بلور وباري بارنز (David Bloor et Bary Barnes)، من سوء فهم لدى عدد من السوسيولوجيين، وبخاصة برونو لاتور (Bruno Latour)، سوف أنآى بنفسي عن نقاش قد يفتح من الأقواس التوضيحية ما لا يحتمله المقام الذي نحن بصدده، لكن دون أن أخل بشروط الصحة حينما يكون التبسيط مطلبا حيويا.

إن ما يذهب إليه د. الديالمي من تفتيت لإشكالية البيئة في عصر الأنثروبوسين إلى أبعادها الاجتماعية، وجعلها، بلغة الإحصاء، متغيرا تابعا يسمح لنا بتفسيره بفضل الاستعانة بمتغيرات مستقلة أو تفسيرية، يجعل من سوسيولوجيا البيئة برنامجا ضعيفا يشهد على اجتياح السوسيولوجيا لقطاع جديد، وضمه لمناطق نفوذها، وتهذيبه بفضل مقولاتها ونماذجها التحليلية الجاهزة؛ وفي هذه الحالة لا وجاهة لأي حديث عن أي تجديد إبستيمي. هذا بينما تدعونا التهديدات البيئية في زمن الأنثروبوسين إلى إعادة صوغ منطلقاتنا وأطرنا المعرفية حتى تكسب من الملاءمة والدقة ما يشفع لها بمواجهة هذه التهديدات.

يتحول متغير البيئة في هذا السياق من متغير تابع يتم تفسيره بمتغيرات مستقلة تعبر عن مختلف أبعاد الحياة الاجتماعية، إلى متغير مستقل تفسيري يسمح لنا بفهم الاتجاهات الجديدة للاجتماع البشري انطلاقا من التحديات التي تضعها المسألة البيئية أمام جميع المجتمعات. وعليه، فمن حق سوسيولوجيا البيئة، التي نضعها ضمن قائمة البرامج القوية، أن تبرز، ما لإشكالية البيئة من سلطة فعلية على تشكيل العلاقات الاجتماعية وإعادة تشكيلها، ومن ثمة إعادة تعريف المجتمع نفسه، وليس العكس.

نوه د. الديالمي بغياب التجانس الذي قد نتوسمه في مصطلح “البشرية”، لكنه لم يتوقف عند العودة القوية لمفهوم “الجنس البشري” أو “النوع البشري” (l’espèce humaine) في عصر الأنثروبوسين، كما لم ينتبه إلى أن المنظرين في هذا المجال يوثرون استعمال المجتمعات بالجمع بدل المجتمع بالمفرد، على اعتبار أنها تجارب وحالات خاصة تجسد، على نحو عَرْضِي (transversal) مصيرا واحدا ومشتركا.

صحيح أن توزيع المخاطر على مكونات المجتمع لا يخضع لمقومات العدالة، لكن المخاطر البيئية، على كل حال، لا تستثني مجتمعا دون آخر، والتغيرات المناخية أو الاحتباس الحراري لا ينتقي المجتمعات الفقيرة دون المجتمعات الغنية، بل يضع النوع البشري برمته في مواجهة الخطر، ويهدده بالانقراض. ولقد أعلن جان بابتيست لامارك (Jean-Baptiste Lamarck)، في قول مأثور يصعد إلى عام 1820 أن “الإنسان، بأنانيته التي تغشيه عن مصالحه، وبتفضيله التمتع بكل ما في حوزته، دونما اكتراث للمستقبل ولبني جنسه، إنما يقضي على شروط بقائه واستمراره، ويساهم في تدمير نوعه”.

إن عدم انتباه د. الديالمي إلى العودة القوية لمفهوم “النوع البشري”، وتركيزه على مقولات من قبيل الطبقة والموقع الجغرافي، يعكس مدى تخلف سوسيولوجيا عبد الصمد الديالمي عن مواكبة الإشكالات التي يطرحها عصرنا الحالي، وهي إشكالات تتعدى الأزمات البنيوية للمجتمع الصناعي، والأزمة المعممة للمؤسسات داخل الأنظمة الديمقراطية، لتطال الأسس المعرفية والفلسفية التي نهضت عليها الحداثة الغربية نفسها. ود. الديالمي يتجاهل هذا الأمر حينما يستدعي أولريش بك (Ulrich Beck) ومفهوم “مجتمع المخاطرة” ليستند إليه في دعم ما يذهب إليه من محورية السوسيولوجيا في عصر الأنثروبوسين. إنه لا يبالي بالقيمة الكشفية لمقولات مثل “شامل” أو “إجمالي” (global)، و”كوسموبوليتي” التي يعج بها قاموس أولريش بك، والتي تنتهي به إلى تحول ميتودولوجي عام من “وطنية ميتودولوجية” le nationalisme méthodologique إلى كوسموبوليتية منهجية؛ حيث إن التهديدات البيئية (التسابق نحو امتلاك الطاقة النووية، التلوث، التغير المناخي) لا تستثني مجتمعا دون آخر، ولا قومية دون أخرى، بل هي من إنتاج ديناميات الحداثة نفسها، والتي تفرض نفسها على جميع المجتمعات بدون استثناء.

غير إن د. الديالمي يصر على عدم فك الارتباط بين الحداثة والصناعة حينما يقول إن “التهديدات البيئية تنتجها ديناميات الحداثة الصناعية الغربية نفسها” غافلا عن أهم شيء في أطروحة أولريش بك؛ وهو أن المجتمع الصناعي طور من أطوار الحداثة الغربية، ومجتمع المخاطرة طور آخر. وبينما ينتج المجتمع الصناعي البؤس، ينتج مجتمع المخاطرة المخاطر. ولعل الخاصية الأساسية والجوهرية التي يتسم بها المجتمع الحديث اليوم، من حيث هو حصيلة تاريخية وثمرة لنضج فكرة الحداثة، برأي أولريش بك، هي التحول الكبير من مجتمع البؤس (la societe de la misère) إلى مجتمع المخاطرة (la societe des risques).

لقد تمحور مجتمع البؤس حول استغلال الإنسان للإنسان ودارت رحاه حول تيمة الشغل؛ فكانت الجماعات البشرية التي يتشكل منها هذا المجتمع تتوزع على طبقات متصارعة تتفاوت في القوة والنفوذ، لكنها تحتكم، على المستوى الأخلاقي العام، لفكرة العدالة الاجتماعية. وعمدة المشاكل، في هذا المجتمع، هي البحث عن شروط عادلة في الحصول على شغل، واقتسام رغد العيش بتكافؤ، إلى حد ما، بين مختلف طبقات المجتمع.

أما في مجتمع المخاطرة، فالأمر يختلف على نحو جذري؛ لأن مشكلة المشروعية الأخلاقية ستطرح بحدة: فبينما يمكن تبرير التفاوت في الاستفادة من الثروة بمبرر الاستحقاق، يصعب، بل يستحيل تبرير التفاوت الاجتماعي في التعرض للخطر بنفس المبرر؛ وهذا يعني حدوث صدع عميق في المشروعية. فهل من حقنا أن نقول بأن هذه الفئة الاجتماعية أولى بالموت من تلك، أو المسنين أولى به من الشباب؟ وهل من حقنا أن نقرر في مصير البشرية كما تقرر خلايا الجسم في مصيرها حينما تأكل جزءا منها لكي يستمر الجزء الآخر في الحياة (l’autophagie)؟

يبدو، إذن، أن حدة المشكلة الأخلاقية في مجتمع المخاطر تضع مشروعية المجتمع الحديث على المحك، بل إنها تقوض أركانه الفلسفية، وتعيد الحضارة البشرية، التي قادها الغرب منذ القرن السابع عشر، إلى نقطة الصفر.

سوسيولوجيا البيئة والتحديات الإبستيمولوجية الفعلية

يجد المشتغل بقضايا البيئة في عصر الأنثروبوسين نفسه أمام فلسفة جديدة؛ أي نظرة جديدة للكون، تستمد مشروعيتها من مبادئ ومسلمات النزعة الإيكولوجية. ولا يبدو أن هذا المنظور الجديد بإمكانه أن يحتل الصدارة دون أن يحدث قطائع مع التصورات الكلاسيكية، التي لم تعد تتمتع بكامل بداهتها وراهنيتها، ودون أن يحكم على عدد من القضايا، التي كانت تبدو مستقلة ومحورية، وفي طليعتها “الإنسان” نفسه، بالاندماج داخل رؤية إجمالية وكلية للعالم؛ حيث الطبيعة هي المبدأ الموجه للوجود برمته.

عن أي علاقات اجتماعية مستقلة يمكن الحديث في زمن الأنثروبوسين؟ وعن أي تفاوت طبقي، أو هيمنة اجتماعية؟ ما هي طبيعة العلاقات الاجتماعية التي يمكن أن تعالجها سوسيولوجيا البيئة، إذا علمنا أن البيئة في الأصل ليست بشرية، ومن ثمة ليست اجتماعية؟

يبدو لي أن الجدة على المستوى الإبستيمولوجي تبدأ من النقطة الآتية: تدرس سوسيولوجيا البيئة المبادلات التي تقيمها المجتمعات مع وسطها الطبيعي؛ ولذلك، فإن الرهانات والتحديات التي تطرحها لا يمكن التعبير عنها بلغة “التغير الاجتماعي” فحسب، بل بلغة إبستيمولوجية جديدة تأخذ في عين الاعتبار التقاء “المنظور السوسيولوجي” بالمسألة الطبيعية (la question naturelle).

يمكن التأريخ لهذا اللقاء بصدور “المقال-البيان” لكل من دونلاب وكاتون (Dunlap et Catton) سنة 1978، حيث الأهمية القصوى في تظافر البعدين الثقافي والإبستيمولوجي وتلاحمهما. يتعلق الأمر، في هذا البيان، بشكل من أشكال المطالبة بتخليص السوسيولوجيا الكلاسيكية من براثن النزعة الإثنو-مركزية التي تطوقها، وتمكين السوسيولوجيا من استيعاب طرق جديدة للنظر تلوح في الأفق، وتطل علينا طلائعها من خلال المواقف والآراء والذهنيات الجديدة التي تَتَقَحَّمُ المجتمعات البشرية قادمة إليها من عالم البيئة، وفي مقدمة هذه المواقف ما يمكن أن نطلق عليه “الحداثة التفكرية” (la modernité réflexive).

يمكن أن نضع “مجتمع المخاطرة” لأولريش بك ومختلف الشروحات التي قدمت له، وأيضا مختلف الأعمال التي أنجزها غيدنز في بريطانيا، وبرونو لاتور في فرنسا، في قائمة أطروحات “الحداثة التفكرية” (la modernité réflexive). ولعل القاسم المشترك بين كل الأطروحات، التي تدخل في هذه الخانة، هو المكانة المحورية التي تحظى بها الرهانات البيئية في التعريف بصيرورة الحداثة.

بالنسبة لهؤلاء العلماء والباحثين، تضعنا المشاكل والرهانات البيئية، وبناؤها اجتماعيا، أمام حقبة جديدة وغير مسبوقة من التطور الاجتماعي عبر التاريخ؛ حيث تُخلي النزعة الصناعية (l’industrialisme) مكانها للنزعة التفكرية (la réflexivité)، أو قل بالأحرى، للإدماج المستمر والدائم للنتائج المتوقعة للفعل البشري داخل الفعل الحاضر؛ وذلك من خلال تعميم المخاطر الرئيسية.

سوف يكون على البشرية أن تواجه تحديات مجتمع جديد. وحتى ترفع هذه التحديات، سوف يكون عليها لزاما أن تتسلح بأدوات نظرية جديدة، وأن تنشئ مؤسسات اجتماعية جديدة تعنى بمواجهة المخاطر المعممة؛ ذلك أن المؤسسات القديمة، كما المفاهيم القديمة، لم يعد في وسعها مواجهة تعقيدات الوضعية الحالية.

لا شك إن اهتمام العلوم الاجتماعية بموضوع البيئة، في زمن الأنثروبوسين، يمنح لهذه العلوم نَفَساً جديداً (un second souffle)، آفاقا جديدة للمساءلة والاستشكال؛ حيث إن اتصالها بموضوع البيئة، وبراديكم البيئوية يضعها في نقطة تقاطع مع العلوم الطبيعية. ولعل هذه الطبيعة المزدوجة للمقاربة والمنظور، هي ما يفرض على العلوم الاجتماعية أن تقوم بثورة إبستيمولوجية على مستويات أربعة على الأقل:

 بناء الموضوع البيئي بوصفه موضوعا جديدا للبحث والتقصي، وحقلا إشكاليا جديدا لمساءلة الطبيعة المُحَوَّلَة اجتماعيا، ثم رصد انعكاسات هذه الطبيعة على المجتمع والعمليات الاجتماعية.

 تحديد نقاط الالتقاء مع العلوم الطبيعية، وفتح ورش معرفي ونظري لا يدعو إلى الإفادة من تداخل التخصصات فحسب، بل إلى ممارسة نقدية إبستيمولوجية للحدود الصارمة التي أقامها العلم الحديث بين مختلف العلوم من جهة، وفروعها من جهة أخرى.

 إعادة النظر في تاريخ تشكل العلوم الاجتماعية؛ بما هو تاريخ انفصالات وقطائع بين الطبيعة والثقافة من جهة، وبين الثقافة والمجتمع من جهة أخرى.

 مراجعة في العمق لبراديكم “الواقعة الاجتماعية”، الذي لا يقبل أي تفسير للاجتماعي إلا بالاجتماعي.

خلاصة

يبدو أن المسألة البيئية تضع العلوم الاجتماعية أمام ورش إبستيمولوجي وميتودولوجي واعد؛ يتعلق الأمر بمحو معمم للحدود بين الاجتماعي والطبيعي، من شأنه أن يضع العلوم المعنية بالمشاكل التي تقع على التخوم بين البيئة والمجتمع أمام الحاجة الملحة لإعادة تعريف المواضيع التي تعالجها والحدود التي تفصل بعضها عن بعض. إن علوم الحياة والأرض والعلوم الاجتماعية مدعوة، اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى إعادة صوغ أسلوبها، وإعادة بناء مناهجها، في مساءلة الطبيعة والمجتمع، على قاعدة متفق حولها وبطريقة مندمجة. ولعل ما ينتظرنا، على هذا المستوى، يتعدى مجرد القيام بإصلاحات سطحية، ليتصل بطموح أكبر يتمثل في القيام بثورة كوبيرنيكية، يتحول، على إثرها، مركز المعرفة الاجتماعية من المسألة الاجتماعية (la question sociale) إلى المسألة البيئية (la question environnementale). بهذا المعنى، تكون المسألة البيئية مصفوفة المرور (la matrice de passage) لإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية وتعريف المجتمع، وليس العكس.

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *