المنظومة الصحية في المغرب على المحك: قراءة نقدية بين مؤشرات الأداء وواقع المعاناة

أوّلًا: عندما تتحوّل الأرقام إلى مرايا صادمة… هل نحن بصدد قطاع صحي أم أمام بنية وهمية؟
ماذا يعني أن يحل المغرب في المرتبة 94 من أصل 99 دولة ضمن مؤشر الرعاية الصحية العالمي لعام 2025، الصادر عن منصة “Numbeo”؟ وهل يكفي توصيف “ضعف الأداء” لفهم دلالة هذا الترتيب؟ ما الذي تخفيه الفجوة العريضة بين الهيكلة المؤسسية التي حازت 80.6 نقطة، وبين مستوى جودة الخدمات الصحية الفعلية الذي لم يتجاوز 47 نقطة؟ أليست هذه الهوة الصريحة مؤشرًا على ما يمكن تسميته بـ”الانفصال الرمزي” بين التخطيط والسياسات من جهة، والتجربة المعاشة للمرضى من جهة أخرى؟
هذا التناقض لا يبدو محصورًا في لعبة الأرقام، بل يتجاوزها ليعكس خللًا بنيويًا في فلسفة تدبير القطاع، حيث تُبنى التصورات وفق مقاييس معيارية غير متجذّرة في الواقع الاجتماعي، بل ربما مضادة له. وهنا، لا يعود السؤال متعلقًا فقط بترتيب في قائمة دولية، بل بجدوى المنظومة الصحية في صيغتها الحالية: هل تنتمي إلى المجتمع فعلاً أم تحلّق فوقه في خطابٍ بيروقراطي مفرغ من الروح؟
ثانيًا: من “كفاءة الطواقم” إلى “راحة المرضى”: مؤشرات تتحدث عن أزمة أكثر من كونها تصفها
يتأسس المؤشر الدولي على استطلاعات رأي معمّقة أجريت خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وجاءت النتائج لتعكس واقعًا تتداخل فيه الاختلالات التقنية بالبنى الذهنية والاجتماعية:
* كفاءة الطواقم الطبية: 49.4%
* سرعة الإجراءات: 45.3%
* دقة التشخيص: 47.8%
* جودة المعاملة: 46.8%
* مدة الانتظار: 33.88% (الأدنى)
* تكلفة العلاج: 46.0%
* راحة المرضى: 56.7% (الأعلى نسبيًا).
إذا اعتبرنا هذه النسب مجرّد إشارات إلى أداء منظومة خدماتية، فإن القراءة الإحصائية وحدها تفي بالغرض. لكن، إن اعتبرناها تمظهرًا لتمثّل مجتمعي أعمق حول موقع “الصحة” في الوعي الجماعي المغربي، فإن هذه المؤشرات تنذر بانكسار الثقة لا فقط في المستشفى، بل في الدولة ذاتها كضامن للكرامة البيولوجية للمواطن.
فهل يُعقل أن تُصبح “مدة الانتظار”، وهي المؤشر الذي يُفترض أن يعكس فعالية الاستجابة الصحية، قريبة من خط العطب؟ أليس هذا مؤشّرًا على أن المرضى لا يُعانون فقط من الألم العضوي، بل من انسداد في الزمن العلاجي نفسه؟ هل يمكن الحديث عن “كفاءة طبية” حين تكون سرعة الإجراءات بطيئة، والتشخيص مشوشًا، والمعاملة موضع شك؟
ثالثًا: من المؤسّسة إلى المواطن: أين تنكسر الحلقة؟ أم أن الانكسار هو القاعدة؟
في ظل هذه الأرقام، تنشأ أسئلة أكثر عمقًا: لماذا يبدو المغرب متأخّرًا حتى بالمقارنة مع دول مثل كينيا وغانا ونيجيريا، رغم الفوارق البنيوية والاقتصادية؟ هل تكمن المشكلة في غياب الموارد، أم في سوء توزيعها وتسييرها؟ وهل يُعامل حق الصحة في المغرب كأولوية مواطنية أم كامتياز إداري محدود؟
ما يكشفه التقرير، بطريقة غير مباشرة، هو أن المنظومة الصحية لا تعاني فقط من أعطاب وظيفية، بل من أزمة أخلاقية في جوهرها. إذ يتحول الحق في العلاج، لا إلى خدمة، بل إلى “مقام تفاوضي” بين المواطن وبيروقراطية صحية لا تعترف إلا بالمحظوظين أو المقرّبين أو القادرين على الدفع.
هذا التدهور لا يعكس فقط خللًا في البنية التحتية أو تدبير الموارد، بل تصدّعًا في التصور العمومي لوظيفة الدولة الاجتماعية. حين يُنظر إلى المواطن كمستهلك مرهَق لا كذاتٍ تستحق الرعاية، فإن كل مؤشرات الأداء تصبح بلا معنى فعلي.
رابعًا: من “إصلاح القطاع” إلى تفكيك نمط التفكير: هل الدولة فاعلة أم متفرّجة؟
يفترض بعض الخطاب الرسمي أن هذه الوضعية يمكن تجاوزها بإصلاحات تقنية أو ببرامج استعجالية. لكن، هل من الممكن فعلاً ترميم القطاع بنفس المنطق الذي أنتج أزمته؟ ألا يتطلب الأمر تفكيكًا جذريًا للعقلية التدبيرية التي تُقارب الصحة بوصفها عبئًا ماليًا لا استثمارًا في الكرامة الوطنية؟
الإشكال لا يقتصر على المؤسسات الصحية، بل يمتد إلى المنظومة السياسية التي تؤطر الحق في الصحة. كيف نفهم الفارق الشاسع بين الخطابات الرسمية التي تُبشّر بـ”جيل جديد من المستشفيات”، وواقع المواطن الذي لا يجد موعدًا أو دواءً؟ ألا يكشف هذا الانفصام عن عقل بيروقراطي يعيد إنتاج الرداءة في شكل خطط؟
المفارقة أن الدولة، وهي تُعلن عن مشاريع إصلاحية متتالية، لا تمتلك بعد أدوات مراقبة فعلية لأثر هذه المشاريع. فهل نحن أمام إصلاحات حقيقية، أم أمام هندسة رمزية تهدف إلى تسويق صورة التغيير لا التغيير نفسه؟
خامسًا: نحو إعادة التفكير في مفهوم “الصحة”: من الخدمة إلى الكينونة
ربما آن الأوان لإعادة طرح السؤال من جديد، ولكن من خارج الصندوق المؤسساتي: هل ما نملكه اليوم هو “منظومة صحية” فعلًا؟ أم مجرّد بنية إدارية لتدبير الأعطاب؟
* كيف يمكن تحويل “الصحة” من خدمة بيروقراطية إلى حقّ تأسيسيّ في العقد الاجتماعي؟
* كيف نسترجع الثقة بين المواطن والدولة انطلاقًا من “لحظة المرض” بوصفها لحظة هشاشة وجودية تحتاج إلى حماية وليس إلى إثبات جدارة؟
إن الحديث عن صحة عمومية لا يمكن أن يختزل في البنيات أو الأجهزة، بل يجب أن يؤسَّس على رؤية إنسانية قائمة على الكرامة، والرعاية، والعدالة البيولوجية. وإذا كانت الدولة تفشل في ذلك، فهل تستحق أن تُسمّى “حامية” أم “مُفرّطة” في أبسط شروط الحياة؟
خلاصة واستنتاجات تأمليّة: ما الذي يمكن إنقاذه؟ ومن يملك شجاعة السؤال؟
ليست القضية في ترتيب دولي عابر، بل في التراكم التدريجي لانعدام الثقة في قدرة الدولة على توفير الحماية. حين يُصبح الذهاب إلى المستشفى فعلًا محفوفًا بالقلق، لا يختلف كثيرًا عن الذهاب إلى قاعة انتظار عبثي، يكون الخلل قد تجاوز الوظيفة ووصل إلى جوهر الدولة الحديثة ذاتها.
فهل هناك من يملك شجاعة مساءلة هذا العطب دون الاختباء خلف الشعارات؟ وهل من الممكن قلب المعادلة: من خطط إصلاحية فوقية إلى مراجعة جذريّة تُنصت إلى صوت المواطن لا إلى صدى المنصّات الدولية؟
وربما، قبل أن نسأل: كيف نُصلح المنظومة الصحية؟، علينا أن نتجرأ على سؤال أعمق:
هل هذه “منظومة” أصلًا؟ أم مجرد نظام تأجيل جماعي للألم؟
* عبد الله مشنون
كاتب صحفي مقيم في ايطاليا
اترك تعليقاً