وجهة نظر

النيوليبرالية وميكانيزمات السيطرة والتأثير: تأمل في سلطة الإخضاع

سعيد ألعنزي تاشفين

تقول شوشانا زوبوف: “الرأسمالية الرقمية أخطر أدوات التحكم والاستحواذ”.

يجوز القول إننا فعلاً في نسق المجتمع الإعلامي والمعلوماتي الذي يطغى، أو في نسق مجتمع المشهد (La société du spectacle)؛ نتيجة لتطور تقنيات الإعلام والتواصل واكتساب المعطيات بسهولة، سيما مع استئساد الخط التحويلي لنُظُم النيوليبرالية باسم النظام العالمي الجديد. حتى إن بعض الباحثين تحدث عن الثورة الإعلامية الكبرى باعتبارها تحولاً نوعيًا جديداً كلياً – كَمّاً وكيفاً – كما ذهب إلى ذلك توفلر الذي اعتبر فتح السماوات أخطر تحول حصل في مسار الرأسمالية منذ إرهاصاتها الأولى خلال القرن الخامس عشر الميلادي. وغير بعيد من توفلر هذا، ذهب داريوش شايغان إلى استثمار تحليلات توفلر للتقعيد لحديثه عن ثورة كوزمولوجية جديدة. إنها كوزمولوجيا ما بعد كوبيرنيك وغاليلو، وبيولوجيا ما بعد شارل داروين وجون باتيست لامارك، وسيكولوجيا ما بعد سيغموند فرويد، وإبستمولوجيا ما بعد غاستون باشلار؛ وبكثير من النزعة الاستهلاكية الرأسمالية هذه المرة. وكلها تجليات بارزة لطفرات كبرى نجحت الرأسمالية في التأصيل لها بعد مسارات طويلة من الإعداد لنسف كل أشكال الممانعة القابعة في مختلف البنيات التقليدية لصالح الضبط المرن والإخضاع الذكي ضمن تكتيكات الاستحواذ المتعدد على مقدرات العالم على أساس القولبة الديموغرافية بالإخضاع الناعم داخل لولبية الهويات السائلة غير الخاضعة لأي قياس أخلاقي-قيمي وفق المؤشرات الكلاسيكية، كما أبرز زيغمونت باومان (Zygmunt Bauman).

إننا نعيش فعلاً مرحلة جديدة من سيرورات العالم تتسم بمأسسة الفوضى الخلّاقة وعدم التقيد بروابط متماسكة باسم الحرية كما حددت فيضها (نظرية النوافذ المفتوحة والفيض السياسي) هذه الرأسمالية الجديدة التي يخطط لها رواد المُجمَّع المدني الصناعي الأمريكي، كوجه بارز للمجمع العسكري الصناعي الأمريكي الخفي، المتحالف مع الشركات العابرة للقارات ضمن ما سماه فوكوياما بوصفات صناعة الإنسان الأخير في سياقات نهاية التاريخ كمفهوم/عنوان بارز لأطروحة رعيل الإدارة الأمريكية النيوليبرالية من طينة لويس برنارد، وصامويل هنتنغتون، وفرنسيس فوكوياما كوجوه فكرية-استراتيجية تخدم أجندات المجمع الصناعي العسكري وفق مخططات ديك تشيني، ودونالد رامسفيلد، وكولن باول، وكونداليزا رايس، المدافعين عن انتصار الليبرالية الجديدة وموت كل الإيديولوجيات وبداية عهد النظام العالمي الجديد. ذلك أنه، بصرف النظر عن الخلفية الإيديولوجية لهذه الفكرة (فكرة نهاية التاريخ) التي وُلدت مسنودة من لدن البنتاغون لإعلان دفن الممانعة السياسية وتحوير العالم تحت إيقاع الرأسمال الوحيد، يبدو أن لعبة التسطيح وفق نَهَم النزعات الاستهلاكية طالت كل المجالات والأبعاد، حتى إنه لم يعد هنالك أي مقدس مُحصَّن عن الاختراق بما في ذلك الدين الذي يخضع للتصريف الفُرْجَوي ضداً على مضامينه الديونتولوجية، والعرض المفتوح تنميطاً للطلب المقولَب، والجسد بما هو معطى أنثروبولوجي متحول وفق متطلبات المجتمع الاستهلاكي الذي حوَّل البشر إلى رقم رخيص في لعبة السلعنة الكبرى يُباع ويُشترى كغيره من السلع والخدمات.

هكذا نجد صفة المجتمع الاستهلاكي تضمر معيارية اجتماعية جديدة وفق ما تخطط له النيوليبرالية كرأسمالية شعبوية مسنودة من لدن ماكينة إشهارية ضخمة تروم إخضاع كل الأنساق لمقولة اقتصاد السوق خدمة لرهانات التدجين الممنهج من مدخلات الإعلام والنَمْدَجة وتحويل الإنسان إلى فرجة بلا سقف قيمي. ولقد أخذت الرأسمالية الشعبوية هذه الصفة عبر منح مكانة مركزية للجهل الشجاع، وللغباء الجريء، وللانحلال العدواني، وللافتراس الممنهج؛ بما يؤسس لاحتلال كل المنصات عبر بروباغندا سخية تضمن عائدات الاقتصاد الافتراضي من خلال “الأدسنس (AdSense)”، وتحميه مقولة الحرية (الفوضى الخلاقة) التي تستهدف تبخيس الرموز وهدم المعيارِيات الكبرى باسم “الثورة الناعمة” التي «قتلت الإله» كضامن ديونتولوجي أعلى في مقصلة الحرية (مسرح الشيطان تيولوجياً) التي أضحت مرادفاً للفوضى الموجهة، وما الإله أنثروبولوجياً هنا غير مجموع القيم فوق-الربحية التي تشكل الأنا الأعلى المعياري الذي عملت ماكينة النيوليبرالية على نسفه في بُهْرُج اللايقين الذي يَنزع شرعية كل المرجعيات العليا ويُقيم مكانها آليات الاستباحة لصالح الربح.

وضمن السياق نفسه يتم تبوِيء السطحيين في كل شيء، والجهلاء بشجاعة، والغوغاء المُستَئْسِدُون، واللصوص الرسميون، وجحافل الفارغين والعرضيين؛ مكانة مركزية في نسق دينامية النيو-سلطة بما هي سلطة خفية تخرب من تحت مختلف السلط التقليدية بما فيها سلطة الأسرة التي أضحت مقاولة، وسلطة الأب الذي أصبح “باطرون” يَكُدّ ويَدّخر لصالح الورثة أصحاب الأسهم ضمن ريع النموذج الجديد للأب/الباطرون، وسلطة الإدارة والبيروقراطية التي تتفسخ بهدوء، وسلطة الدولة نفسها في كل أبعادها الاقتصادية والسياسية والثقافية والرمزية في معرض النفخ في أعدائها لنسفها (خلق دول فاشلة). وكل ذلك حتى يتسنى صناعة نماذج ناجحة وبحماية صلبة خارج ماكينة الضبط المعياري (نزع هيبة الدولة بما هي أنا أعلى معيارية)، بما يَشُدّ عَضُد صرح تركيبة النَمْدَجَة وفق بروفايل النيوليبرالية بأدواتها المتعددة والمتجددة باستمرار للتحكم في ماهية الإنسان الأخير كفكرة استعملها أول مرة الجينيالوجي نيتشه وسخّرها فوكوياما للتسويق لانتصار الغرب. ولا غرو أن تفريخ عدد هائل من رواد اليوتيوب، والفايسبوك، والتيك توك، والإنستغرام على أساس السطحية، وتحفيز نوع محدد من “الفن” الفارغ من المحددات الجمالية والتربوية، وتقديم شكل معين من الوجوه الفارغة كـ**”بروفايلات”** النموذج المبحوث عنه؛ كلها أسلحة دمار ناعمة تخطط لشرعنة كل الحروب المرنة من أجل تبخيس الدول ومؤسساتها، وتفكيك المجتمعات وزعزعتها، وتسفيه العلم والعلماء وعزلهم، وازدراء المثقف أو احتوائه، وسلعنة الأسرة وتحويلها إلى مقاولة تجعل الوالدين في خدمة الأبناء وليس العكس. ثم، في السياقات كلها، إحلال اللامعنى محل كل المعايير العليا بقصد خلق اللاجدوى من كل شيء، أي بلوغ مرحلة العبثية في كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية وفي علاقات الشعوب بالدول. وبالمقابل يحصل دعم ذكي لتحفيز الجهل المؤسَّس بواسطة إفراغ المؤسسات من قيمتها، وتكريس الجهل المقدس عبر مساندة التديُّن الفُرْجَوي بلا ماهية أخلاقية عليا (تسفيه الأنا الأعلى)، وتشجيع السطحية لاحتلال الصدارة كبديل تكتيكي قائم لتكريس الخواء الحضاري لصالح الإنسان الرقم في معادلة الاستهلاك الصلب. ولا يبتعد ما يقع في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي عن الحرب الكبرى المعلنة، هنا وهناك، من أجل إعادة ترتيب هيرارشية العالم؛ فسابقاً تُصنع الأسلحة لخوض الحروب، وراهناً تُخلق الحروب لبيع الأسلحة. وتِبَاعاً يُصنع الإنسان السائل الفاقد لأي جوهر معياري، إنسان من دون نبض قيمي؛ حتى إن الفرد يقصد أهم فندق من أجل التقاط صورة لنشرها في مواقع التواصل الاجتماعي لتلبية حاجة نفسية مرضية، والمقدس الديني أصبح بدوره خاضعاً للاستعراض الشكلي حتى أضحت صور مكة المكرمة لدى مُعتمرٍ أو حاج تُنشر ليس درءاً للرياء بل بحثاً عن الشهرة و**”البوز”**، كما تُنشر صور صلاة الجمعة من داخل المسجد رياءً وبلا خجل، وكما تُنفضح المطابخ والمسابح الخاصة، بل وغرف النوم التي لم تعد تحمي الحميمية، بل وحتى قاعات الرياضة من أجل الاستعراضية المرضية أي قصد ممارسة “السنوبيزم / Snobisme” و “الإكزيبيسيونزم / L’exhibitionnisme” لدرجة أن ممارسة الرياضة ليست بهدف تطويع الجسد وتربية قواه الغضبية والشهوانية، بل من أجل تمرير عُقد سيكولوجية حاملة لنقائص الماضي الجريح. وهذه الثنائية بين السياسي-الاقتصادي والرمزي-المضمر ممنهجة بإيقاع ماكينة دقيقة من قِبل رأسمالية النزعة الاستهلاكية المستثمِرَة في تعليب العقول وتنميط الأجساد وفلكرة الدين وتبضيع السياسة وتشييء الوجدان وصناعة الإنسان الأخير بوسائط مختلف حروب الاستحواذ الناعمة. وتمتد المحرقة الكبرى في كل شيء لدرجة أن شيوخ الدين – عينة للتأثير – في أرذل أعمارهم لا يغادرون مواقع اليوتيوب ضمن حروب الردود والتفاعل من خلال خطابات متأزمة تفضح حجم التسطيح والفُرْجَوية والبحث الباثولوجي عن الشهرة من دون مضامين عليا محترمة. إننا فعلاً، وبشكل مباشر، في عمق قوالب النظام السيبرنيطيقي الرأسمالي الجديد كما أفاد جونسون.

لقد اتجه خبراء علم النفس التجاري والسياسي إلى أن مختلف التحولات، التي أشير إليها أعلاه، والتي تطال مختلف مستويات الكل الاجتماعي (البنية ثم النسق)، تستهدف خلق الإنسان الاقتصادي (Homo economicus) المنذور للاستهلاك لدرجة تمويت الهويات المحلية (عمليات القتل المعنوي للمرجعيات) تحت تعسف لعبة الإغواء أولاً، ثم التحيز النمطي ثانياً، والإخضاع من تحت ومن فوق ثالثاً؛ وهو ما يحصل في تحريف الطوبونيميا لمسح الذاكرة وصناعة الضياع، وفي أسماء المواليد الجدد لتكريس الخجل من الانتماء ومسح الامتداد، وفي الأذواق والموائد والأطعمة والألبسة والغناء والأزياء من خلال لعبة تدجين ضخمة تقودها الرأسمالية الشعبوية لتوطيد هويات وجودية هجينة غير قابلة لاستيعاب المعاني إلا عبر ردود فعل متأزمة داخل ظلام الكهف، أو عبر انسيابية تحديث خطابات الطوطم باسم الدم والعرق والجغرافيا الحتمية وارتكاسيات الذاكرة ورجحان ميولات الانتقام والثأر والتشفي والانتصاف، أو بمحاصرة العقل (العقل جسد صغير عند نيتشه) عبر تضخيم الجسد (الجسد عقل كبير عند نيتشه) الذي استثمره فوكوياما لصالح “السوبرمان النيوليبرالي”.

ختاماً؛ لقد سبق لكارل ماركس أن أفاد إلى أن المجتمع الحديث يذهب نحو توسع دائرة البضائع والانتشار الهشيمي للتسليع المعمَّم (La commercialisation) من خلال تحول الوقت الحر إلى وقت شُغل (موظفوا الساعات الإضافية)، وتحول الموضوعات إلى خيرات وممتلكات (كل شيء يُباع)، والأنشطة الحرة إلى خدمات (كل خدمة تُباع)، والتطوع الإنساني إلى ريع و**”هَمْزَة”**، والإنسان إلى ماكينة لجمع المال بجهد كبير ثم صرفه فيما بعد في الصيدليات والمستشفيات الرأسمالية التي حولت المرضى إلى زبناء، أو تقسيمه، في أحسن الظروف والأحوال، كتركة بين ورثة الهالك (مستهلكي الاحتياط) ليُصرف بواسطتهم في الاستهلاك من جديد من قِبل هؤلاء الورثة الذين يتشكلون كرأسماليين جدد يستفيدون من التقشف والادخار الذي استنزف عمر الهالك ليصبح في خدمة أبناء الفُرص المنتظرة في رمشة عين (اخْدِمْ يا التاعس على الناعس). ونجد ماكس فيبر، في الاتجاه ذاته مع ماركس، ينتقد المجتمع الرأسمالي لكونه خاضع لعملية تدبير حسابي يتوسع بالتدريج ليشمل كل دوائر الحياة الاجتماعية (العمل، الحق، الوعي)، وبما لا يجد مكاناً لأية حرمة لكون الرأسمالية تنشد الإخضاع المطلق خدمة لعقيدة الرأسمال الذي لا شريك له. وهو ما ذهب أيضاً إليه هربرت ماركوز في نظرية الإنسان ذي البعد الواحد.

وصْفوة الفهم، إن سلعنة الإنسان من أخطر تمظهرات النيوليبرالية، حيث تحوَّل الفرد من كائن ذي قيمة إلى مجرد أداة إنتاج أو موضوع استهلاك. فتفككت كل الروابط، واستئسدت لعبة اللامبالاة والعزلة، وتشيَّأت العلائق؛ ولقد صدق زيغمونت باومان (Zygmunt Bauman) حين أكد أن من تجليات الهوية السائلة حصول ضياع مستمر، وتشظّي الانتماء الجماعي، والشعور بالاغتراب والعزلة، وفقدان المعنى، وضياع الاتجاه في الحياة، وخضوع الأفراد لضغوط التأقلم المتواتر. وأعتبر أن كل هذه الطفرات الحاصلة في تكنولوجيا الاتصال والتواصل ليست بلا مقابل.

ولا مراء أن صناعة الإنسان المستباح والمتاح، في قوالب اللاجدوى، تحت تعسف الإخضاع لشروط النيوليبرالية؛ هو المقابل الذي تقدمه البشرية اليوم في هذا الكون الذي تحول إلى سوق مفتوحة في انشطارية الهيمنة السيبرنيطيقية القائمة على لَبِنَات الاستعمار الناعم للعالم من لدن الرساميل الخفية التي تشكل جوهر الرأسمالية الشعبوية المتحكم فيها عن بعد بـ”تليكوموند”** العُلَب المغلقة في دهاليز الشركات العابرة للقارات والمتعددة الجنسيات المتحكمة برقاب كل شيء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *