26 سنة من الحكم.. المغرب يجني ثمار الرؤية الملكية في التنمية والاستثمار

منذ اعتلائه عرش المملكة المغربية سنة 1999، قاد الملك محمد السادس مسيرة إصلاحات عميقة وتحولات استراتيجية شاملة، وضعت المغرب على سكة التقدم والحداثة.
ولم تكن هذه التحولات عشوائية أو ظرفية، بل جاءت نتيجة رؤية استراتيجية بعيدة المدى، تجسد إرادة ملكية قوية لتغيير واقع البلاد اقتصاديا واجتماعيا، وإرساء نموذج تنموي جديد يقوم على التنوع، والعدالة المجالية، والاستثمار في الإنسان والبنية التحتية.
ونجح الملك محمد السادس في تحويل الاقتصاد المغربي من اقتصاد تقليدي يعتمد بدرجة كبيرة على الزراعة والأنشطة غير المهيكلة، إلى اقتصاد منفتح ومتنوع يعتمد على قطاعات ذات قيمة مضافة عالية مثل الصناعة، الطاقات المتجددة، السياحة، التكنولوجيا، واللوجستيك.
فقد تم إطلاق استراتيجيات اقتصادية كبرى مثل مخطط المغرب الأخضر سنة 2008، والذي أعاد الاعتبار للقطاع الفلاحي من خلال تحديث أساليب الإنتاج، وتطوير سلاسل التوزيع، وتحسين دخل الفلاحين، خاصة في العالم القروي. تلاه مخطط الجيل الأخضر 2020-2030، الذي واصل البناء على المكتسبات، مع التركيز على العنصر البشري.
من أبرز رهانات العهد الجديد، دخول المغرب في مرحلة التحول الطاقي، عبر الاستثمار في الطاقات المتجددة. ويبرز مشروع نور ورزازات كأكبر محطة للطاقة الشمسية في العالم، مما جعل المغرب يُصنف كأحد رواد الطاقة النظيفة على المستوى العالمي، وبشهادة مؤسسات دولية كالبنك الدولي والوكالة الدولية للطاقة.
كما واصل المغرب، تحت قيادة الملك، تطوير محطات الطاقة الريحية والمائية، في أفق الوصول إلى إنتاج 52 في المائة من حاجياته الطاقية من مصادر متجددة بحلول سنة 2030.
واعتمد المغرب سياسة صناعية طموحة، جعلت منه وجهة مفضلة للمستثمرين العالميين، خصوصا في مجالات صناعة السيارات والطيران والنسيج والإلكترونيك. فقد أصبحت المملكة اليوم أكبر مُصدر للسيارات في إفريقيا، وهو إنجاز لم يكن ليُحقق لولا الاستقرار السياسي، وتوفر البنيات التحتية كالموانئ والطرق، خصوصا ميناء طنجة المتوسط الذي يحتل مكانة متقدمة عالميا.
هذه الاستراتيجيات الصناعية دعمتها رؤية ملكية لإرساء سيادة اقتصادية على مستويات حيوية، حيث شدد الملك محمد السادس في عدة خطب على ضرورة تعزيز الإنتاج المحلي، وتطوير الصناعة الوطنية لتقليص التبعية الخارجية، كما حصل خلال جائحة كورونا حين تمكن المغرب من تصنيع الكمامات وأجهزة التنفس والمستلزمات الطبية محليا.
ولم تقتصر الثورة الاقتصادية على المدن الكبرى فقط، بل حرص الملك محمد السادس على ضمان العدالة المجالية من خلال إطلاق مشاريع مهيكلة في مختلف جهات المملكة.
وبرز ذلك في مشاريع مثل الجهوية المتقدمة، ومخططات التنمية الجهوية، وبرامج فك العزلة عن المناطق القروية والجبلية، إضافة إلى مشاريع المدن الجديدة والمناطق الصناعية.
وشكلت البنية التحتية ركيزة أساسية في هذه النهضة، حيث تم تدشين آلاف الكيلومترات من الطرق السيارة، وخط القطار فائق السرعة “البراق”، إلى جانب توسيع وتحديث المطارات والموانئ.
لم تكن الاستراتيجية الاقتصادية الملكية معزولة عن البعد الاجتماعي، بل ترافقت مع برامج كبرى أبرزها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أُطلقت سنة 2005، وتهدف إلى محاربة الفقر والهشاشة، وتمكين الفئات الهشة من الاندماج الاقتصادي والاجتماعي.
وفي السنوات الأخيرة، تعززت هذه الرؤية عبر إطلاق مشروع تعميم الحماية الاجتماعية، الذي يشكل أكبر إصلاح اجتماعي في تاريخ المغرب، ويهدف إلى ضمان التغطية الصحية، والتقاعد، والتعويضات العائلية لأزيد من 22 مليون مغربي.
كل هذه الإصلاحات مكنت المغرب من تعزيز موقعه كقوة اقتصادية صاعدة في القارة الإفريقية، وشريك موثوق على الساحة الدولية، بفضل دبلوماسية اقتصادية فعالة يقودها الملك شخصيا، عبر زياراته المتعددة لدول إفريقيا، وتوقيع عشرات الاتفاقيات الاقتصادية جنوب-جنوب، مما ساهم في توسيع نفوذ المغرب في أسواق واعدة.
لقد استطاع الملك محمد السادس أن يخلق ثورة استراتيجية هادئة وشاملة، وضعت المغرب في مصاف الدول الصاعدة، عبر مشاريع ضخمة، ورؤية واضحة، وإرادة ملكية ثابتة.
ومع التحولات الجارية إقليميا ودوليا، يواصل المغرب تعزيز نموذج تنموي جديد أكثر شمولا واستدامة، تكون فيه السيادة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية في قلب كل السياسات العمومية.
المرحلة المقبلة تفرض تحديات كبرى، لكن المغرب، تحت القيادة الرشيدة للملك محمد السادس، أثبت أنه قادر على رفع الرهانات، وتحويل التحديات إلى فرص من أجل بناء مغرب الغد، مغرب الكرامة، والعدالة، والتنمية.
وفي هذا الصدد، قال رشيد الساري، رئيس المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة، إن المغرب شهد منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش سنة 1999 تحولا جذريا في طريقة التخطيط الاستراتيجي، حيث اعتمدت المملكة نهجا جديدا يقوم على رؤية بعيدة المدى واستراتيجيات قطاعية شاملة، بهدف إحداث تنمية شاملة ومتوازنة تطال مختلف ربوع البلاد.
وأوضح الساري، في تصريح لجريدة “العمق المغربي”، أن التوجه الاستراتيجي الذي تبناه المغرب في عهد الملك محمد السادس مكن من إطلاق مشاريع كبرى غيرت ملامح الاقتصاد الوطني، مشيرا إلى أن البلاد شهدت خلال العقدين الماضيين طفرة نوعية في البنية التحتية واللوجستيك، ما ساهم في تحسين جاذبية المغرب للاستثمارات الأجنبية وتعزيز موقعه الإقليمي والدولي.
وأضاف أن المغرب أصبح اليوم يضرب به المثل في إفريقيا والعالم العربي من حيث تطوره في ميادين حيوية، أبرزها قطاع صناعة السيارات والطائرات، وهي قطاعات لم يكن للمملكة فيها حضور يذكر سابقا. لكن، وبفضل الرؤية الملكية القائمة على التصنيع المحلي وتعزيز الشراكات مع الفاعلين الدوليين، أصبح المغرب من بين المصدرين الرئيسيين للسيارات إلى أوروبا ومن بين الدول السباقة في احتضان صناعات الطيران الدقيقة، وهو ما يعكس عمق التحول الصناعي الذي عرفه الاقتصاد الوطني.
وتابع الساري أن هذه الدينامية الشاملة كان لها صدى إيجابي على المستوى الدولي، حيث أصبحت المؤسسات المالية والرياضية العالمية تنظر إلى المغرب كشريك موثوق، ما أهله لاحتضان تظاهرات رياضية كبرى مثل كأس العالم للأندية، والمضي قُدمًا في الترشح لاحتضان كأس العالم 2030 إلى جانب إسبانيا والبرتغال.
وفي السياق نفسه، شدّد الساري على أن المغرب لا يراهن فقط على القطاعات التقليدية، بل دخل بقوة في المجال الرقمي، عبر بلورة استراتيجيات رقمية موجهة نحو المستقبل، تهدف إلى رقمنة الإدارة وتحفيز المقاولات الناشئة (Startups) وإدماج الشباب في الاقتصاد الرقمي، وذلك في أفق 2030، مشيرا إلى أن التحول الرقمي بات خيارا استراتيجيا لضمان التنافسية ومواكبة التحولات العالمية.
أما فيما يتعلق بالتحديات البيئية، فقد أبرز الساري أن المغرب واجه أزمة الماء باعتماد رؤية واضحة تترجمها “الخريطة المائية 2020-2027″، والتي تُعد من أكبر المخططات الاستراتيجية في هذا المجال، بميزانية تقدر بـ41 مليار درهم. وتقوم هذه الخطة على محاور رئيسية، من بينها بناء محطات لتحلية مياه البحر، وتشييد سدود جديدة، ومعالجة المياه العادمة، إلى جانب الربط بين الأحواض المائية، بهدف ضمان الأمن المائي في ظل التغيرات المناخية المتسارعة.
وفي قطاع السياحة، أشار الساري إلى أنه تم إطلاق استراتيجية جديدة للفترة ما بين 2023 و2026، تروم إعادة إنعاش القطاع بعد تداعيات جائحة كورونا، وتحقيق أرقام قياسية على مستوى عدد السياح والعائدات المالية. وقد خصص لهذه الاستراتيجية غلاف مالي ضخم بلغ 120 مليار درهم، بهدف توفير مناصب شغل جديدة، وتقليص معدلات البطالة، وجذب مستثمرين جدد في المجال السياحي، خصوصاً في المناطق التي تزخر بمؤهلات طبيعية وثقافية فريدة.
كما لم يغفل الساري الحديث عن قطاع الموانئ، مؤكداً أن المغرب خطا خطوات كبيرة في هذا المجال، سواء من حيث بناء موانئ جديدة أو إعادة تأهيل وتوسعة الموانئ الحالية. ولفت إلى أن ميزانية تقارب 38 مليار درهم تم رصدها لتحديث البنيات التحتية المينائية، ما يعزز موقع المملكة كمركز لوجستي إقليمي ومحوري في حركة التجارة العالمية، لا سيما بفضل ميناء طنجة المتوسط الذي أصبح من أكبر موانئ البحر الأبيض المتوسط.
وفي سياق حديثه عن الرؤية الشاملة للدولة، أكد الساري أن النموذج التنموي الجديد، الذي وُضع بتعليمات ملكية سامية، يعد خارطة طريق استراتيجية نحو مغرب المستقبل، حيث يستهدف تحسين جودة الحياة، وتطوير التعليم والصحة، وفك العزلة عن المناطق القروية، مع التركيز على العدالة الاجتماعية والمجالية.
وقال إن هذا النموذج ليس مجرّد رؤية حكومية ظرفية، بل يجسد رؤية ملكية تعلي من شأن الاستمرارية، وترتكز على مقاربة تشاركية تجمع بين مختلف الفاعلين.
وأضاف الخبير الاقتصادي أن الكثير من المخططات التي تم إطلاقها خلال السنوات الماضية لا يمكن نسبها لحكومة بعينها، بل هي جزء من رؤية أشمل تتبناها الدولة المغربية، والتي تعمل وفق منطق الاستدامة والتوازن بين القطاعات، بعيدا عن الحسابات السياسوية الضيقة، وهو ما يفرض وضع دراسات معمقة، ومخططات طويلة الأمد تأخذ بعين الاعتبار التحديات الداخلية والمتغيرات الخارجية.
واختتم الساري حديثه بالتأكيد على أن المغرب انخرط بقوة في مسار تنويع مصادر الطاقة، من خلال استثمارات ضخمة في مجال الطاقات المتجددة، وعلى رأسها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بالإضافة إلى الانفتاح على آفاق جديدة مثل الهيدروجين الأخضر، الذي يرتقب أن يصبح من بين المصادر الأساسية لتعزيز السيادة الطاقية للمملكة، والمساهمة في الحد من انبعاثات الكربون، بما يتماشى مع الالتزامات المناخية الدولية.
اترك تعليقاً