الاستثمار في الكرة والمنشآت.. المغرب يبني مجده الرياضي على أرض التنمية

تبنّى المغرب، منذ سنوات، مقاربة مُندمجة تمزج بين السعي إلى تحقيق الإنجاز الرياضي والانكباب على إحداث ثورة في البنى التحتية، مُحاولا استثمار الأحداث الرياضية في تحفيز التنمية والرفع من الإشعاع الإقليمي والدولي، ضمن سياسةٍ واضحة المعالم ومُصمّمة وفق حسابات تنشد الاشتغال على كافة المجالات في آن واحد، وجعلها تمضي بالتوازي مع بعضها البعض، في انسيابية وسلاسة.
وارتبط عُنصرا الرياضة والبُنى التحتية، بشكل وثيق، في السنوات الأخيرة، عند إقبال المملكة على احتضان أحداث قارية ودولية، وما رافق ذلك من تسريع وتيرة تشييد الملاعب وتحديثها، وتوسيع المطارات وبناء المراكز الاستشفائية، إلى جانب مشاريع أخرى جرى الدّفع بها إلى الأمام. وتمّ هذا بالتزامن مع الأغلفة المالية التي ضُخّت من أجل تطوير الكرة الوطنية، وبصورة خاصة المنتخبات بكافة أصنافها وفئاتها.
وكان لافتا أن تتجسَّد هذه الأهمية التي يوليها المغرب إلى تحسين النتائج الرياضية، في مجال كرة القدم، في المسار الاستثنائي الذي خطّه المنتخب الوطني ضمن نهائيات كأس العالم 2022 بقطر، وبلوغه نصف النهائي، في سابقة وطنية وقارية لم تحدث منذ الانطلاق منذ تنظيم المونديال سنة 1930 بالأوروغواي. وتتعزّز هذه القاعدة، رغم وجود ثغرات تحتاج إلى إصلاح في التسيير والتدبير، -تتعزز- في نماذج نجاح شملت منتخبات وطنية أخرى، من قبيل التتويج بكأس أمم أفريقيا تحت 17 سنة وإحراز كأس أمم أفريقيا لكرة القدم داخل القاعة في ثلاث نسخ متتالية.
أما في الجانب الآخر، المرتبط بالمنشآت والمرافق والطفرة التي شهدتها، يحضر “مركب محمد السادس لكرة القدم” مُتصدِّرا مشهد المنجزات المحققة في هذا المجال، إذ يُشكّل مرجعا عالميا على صعيد المركبات الرياضية، وقد تم تدشينه من طرف الملك محمد السادس سنة 2019، بتكلفة وصلت إلى 63 مليار سنتيم، وأضحى فضاء يأوي كافة المنتخبات المنضوية تحت لواء جامعة الكرة، كما يفتح أبوابه للأندية الوطنية المشاركة في المسابقات القارية.
وتنبثق هذه الرغبة في النهوض بالنتائج الكروية وعصرنة البنى التحتية من رؤية ملكية تبحث عن استغلال كل الهوامش والجزئيات لإحراز التقدم، وشكّلت الرسالة الملكية للمشاركين في المناظرة الوطنية للرياضة بالصخيرات، سنة 2008، إطارا مرجعيا يرسم معالم الاستراتيجية الواجب اعتمادها، والتي استندت إلى عدة مرتكزات من بينها إعادة النظر في نظام الحكامة المعمول به في تسيير الجامعة والأندية، وكذلك توفير البنيات التحتية الرياضية.
ومما جاء في رسالة الملك محمد السادس، آنذاك: “إن الوضع المقلق لرياضتنا الوطنية، على علاته الكثيرة، يمكن تلخيصه في إشكالات رئيسية، وهي بإيجاز: إعادة النظر في نظام الحكامة المعمول به في تسيير الجامعات والأندية، وملاءمة الإطار القانوني مع التطورات التي يعرفها هذا القطاع ، وكذا مسألة التكوين والتأطير، ومعضلة التمويل، علاوة على توفير البنيات التحتية الرياضية، مما يقتضي وضع استراتيجية وطنية متعددة الأبعاد للنهوض بهذا القطاع الحيوي”.
محطةٌ لتسريع ورش التنمية
بينما تدنو المملكة من تنظيم منافسات كأس أمم أفريقيا، شهر دجنبر القادم، وتخطو صوب استضافة نهائيات كأس العالم سنة 2030 رفقة إسبانيا والبرتغال، يتم تهيئ ملاعب جديدة للتداريب، والتي سيصل عددها مع حلول سنة المونديال حوالي 57 ملعبا، علاوة على إعادة بناء “المركب الرياضي الأمير مولاي عبد الله” بالرباط وتأهيل الملاعب الكبرى لمراكش وفاس وطنجة وأكادير و”مركب محمد الخامس” بالدار البيضاء، ثم تشييد “ملعب الحسن الثاني” ببن سليمان.
وفي هذا الصدد، يقول عبد المالك أبرون، رئيس لجنة البنية التحتية بالجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، إن هذه “النهضة التي همت المنشآت شملت كذلك مراكز التكوين داخل التراب الوطني والتي بلغ عددها 14، بالإضافة إلى إصلاح الملاعب الصغرى والمتوسطة من خلال تقوية الإنارة واعتماد العشب الطبيعي ذي الجودة المرتفعة والعالية”.
ذات المتحدث، استطرد في تصريحات خاصة لجريدة “العمق المغربي”، بالقول: “كل هذه المنجزات الواضحة مُستمدة من الرؤية الملكية السامية، خاصة في الرسالة الموجهة إلى المشاركين في المناظرة الوطنية للرياضة سنة 2008، ونحن الآن نجني الثمار بواسطة ما نحققه، فتنظيم كأس العالم إنجاز تاريخي وتم الإعلان عنه من طرف جلالة الملك، بل هذا توجهه، وأنا واثق من أننا سنتجاوز آخر نسخة مونديالية أُقيمت بقطر من حيث جودة المنشآت والمرافق”.
وتتعدّى هذه المكتسبات ما يرتبط بالبنى التحتية الرياضية الصرفة، وتمتد إلى مرافق حيوية مثل المطارات، التي يجري العمل على مضاعفة طاقتها الاستيعابية السنوية مع حلول سنة 2030، من قبيل “مطار محمد الخامس الدولي” الذي سيستقبل 23 مليون مسافر سنويا و”مطار مراكش المنارة الدولي” بما يفوق 14 مليون مسافر كل سنة، فضلا عن إعادة تهيئة مطارات في مدن أخرى مثل فاس والرباط وطنجة والناظور.
كما تشمل هذه الأوراش المجال الصحي من خلال المستشفيات والمراكز الصحية، بإحداث 200 مركزا صحيا والرفع من عدد الأسِرّة، وذلك في إطار السياسة الرامية إلى تجهيز وإعادة تأهيل أكثر من 1400 مركزا صحيا. ويُشكّل أيضا تمديد الخط فائق السرعة من القنيطرة إلى مراكش جزءا من هذه الدينامية، إلى جانب أشغال توسيع وصيانة الطرق السيار عبر مختلف النواحي والمناطق.
النتائج الكروية تتحرّك
في العقد الأخير، لم تكن النتائج الكروية الوطنية بمعزل عن الدينامية التي كانت تسري في مجال البنيات التحتية، إذ ساهمت الرسالة الملكية في المناظرة الوطنية في المرور إلى نظام الاحتراف في الدوري المحلي، بينما عرفت المنتخبات الوطنية قفزة نوعية على مستوى الحصيلة، من بين معالمها العودة إلى نهائيات كأس العالم بعد غياب دام لـ20 سنة، في دورة روسيا سنة 2018.
ورغم الاستعصاء الذي لازال يُلازم المنتخب المغربي في رفع لقب كأس أفريقيا للمرة الثانية، إلا أن الكرة الوطنية طردت نحس التوقف عند الدور الأول عام 2017 بعد 13 سنة من الانتكاسات في هذه المسابقة، بعد أن تأهل “أسود الأطلس” إلى ربع نهائي نسخة الغابون، في الوقت الذي يستمر فيه هدف التتويج باللقب الثاني متلكئا، مما يفتح باب الأمل في تحقيق ذلك ضمن نسخة السنة الحالية بالمملكة.
وعرفت كذلك نتائج الأندية الوطنية في المسابقات القارية تحوُّلا أثبتته الأرقام، حيث أحرز الوداد الرياضي ثنائية في دوري أبطال أفريقيا سنتيْ 2017 و2022، وحاز الرجاء الرياضي على لقبيْن في كأس الكونفدرالية الأفريقية، وثلاثة لنهضة بركان في ذات المسابقة، وسط وضع صعب تعيشه الأندية الوطنية داخليا على مستوى التدبير المالي ومنهجية التسيير.
وتحرّكت بدورها الفئات السنية الأخرى للمنتخبات الوطنية وانخرطت في مسار تصاعدي، وبرز ذلك في إحراز المنتخب المغربي تحت 17 سنة لقب كأس أمم أفريقيا في السنة الحالية، وتتويج المنتخب الوطني الأولمبي باللقب القاري عام 2023، قبل ظفره بالميدالية البرونزية السنة الفارطة في دورة باريس.
الأصناف الكروية الأخرى شملتها هذه الدينامية، ولعل أبرزها المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة، الذي أحرز كأس أمم أفريقيا لـ”الفوتسال” في آخر ثلاث دورات، كما بلغ ربع نهائي كأس العالم في النسختيْن الأخيرتيْن، علاوة على انبعاث الدوري المحلي والمنتخب النسوي وفئات سنية تنشط في هذا الصنف الكروي.
وتُراهن المملكة على الرفع من درجة الإنجاز الرياضي، لتسويق نفسها كقُطب كروي إقليمي ودولي، وهو ما يُفسّر الإنفاق المالي والقدرة الاستثمارية الواضحة المُخصّصة للكرة الوطنية، باعتبارها “قوة ناعمة” يُحاول المغرب استعمالها لتحقيق مآرب وأبعد مما هو رياضي.
وتُحاول الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم تجويد نتائج المنتخبات والأندية الوطنية، وجعلها تتطابق مع التظاهرات التي سيستضيفها المغرب في السنوات الخمس القادمة، التي ستُشكّل فيها المملكة مسرحا لأحداث رياضية كبرى.
ورغم بعض الثغرات التي تشوب هذه العملية المتعلقة بالنتائج الكروية، غير أن الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم والمؤسسات ذات الارتباط، تبدو عازمة العقد على الذهاب قدما في هذا المسار، بما يتطلّبه من صبر وأناة في تجويد الممارسة وتحسين النتائج، حتى تُصبح هذه الأخيرة إحدى الروافد التي يستند إليها المغرب في التسويق لنفسه داخل المنتظم العالمي والكروي.
اترك تعليقاً