وجهة نظر

قراءة في الخطاب السياسي.. كيف تخفي اللغة السياسية فراغ المعنى؟

في زمن تتكاثر فيه الخطب وتتناسل التصريحات، تصبح اللغة السياسية ساحة تُخاض فيها معارك المعنى أكثر مما تُعرض فيها الحلول. لا يعود الخطاب السياسي مجرد أداة للتواصل أو وسيلة لعرض البرامج، بل يتحوّل إلى مسرح لغوي ، ويُعاد فيه إنتاج الذات السياسية كرمز لا كمشروع. الكلمات، التي يُفترض أن تنير الطريق، تغدو ستائر كثيفة تحجب الرؤية. وتصبح الشعارات المكرورة – من قبيل “الإجماع الوطني”، “الرهانات المصيرية”، “الإرادة الشعبية” ،”الرجة الدمقراطية “، – مجرد صدى لغوي، لا يحمل مضمونًا بقدر ما يؤشر على فراغ.

هذه القراءة لا تهدف إلى نقد اللغة السياسية من باب البلاغة الجمالية، بل تسعى إلى تفكيك بنيتها الخطابية، وكشف ما تستبطنه من تمثّلات للذات والآخر، ومن أنماط في الأداء والتأثير، تساهم – عن وعي أو بدونه – في صناعة خطاب يُراكم الرموز ويؤجل الفعل، ويقنع دون أن يُحاور. فمتى تصبح الكلمات أقنعة؟ ومتى يتحوّل الخطاب السياسي من وعدٍ بالتغيير إلى ممارسة للهيمنة الرمزية؟
*عندما تتكلم الكلمات بأكثر مما تقول:*

1 . الكلمات التي تكرّر ذاتها لتخفي فراغها:

في قلب الخطاب السياسي الراهن، نجد ما يمكن تسميته بـ”الكلمات-الدرع”: كلمات تُستعمل كآليات دفاعية لحماية المتكلم من المساءلة، أكثر من كونها أدوات توضيح أو شرح. كلمات مثل “الاستحقاق”، “الإجماع”، “المرحلة المفصلية”، “الإرادة الوطنية”، تتكرر بتواتر ملفت، ولكن عند تفكيكها لا نجد وراءها برنامجًا واضحًا أو خارطة طريق مفصّلة، بل إحالة دائمة إلى معانٍ غائمة وعامة.
هذا التكرار المتواصل لا يُنتج المعنى، بل يُراكم الغموض. فحين تُستخدم المفردة لتكرار نفسها بدل الإحالة إلى واقع خارجي، تُصبح الكلمة تمارس دورًا شكليًا، لا وظيفيًا. هي موجودة لتملأ الفراغ، لا لتملأ الفعل.

2. الذات المتكلمة :

المتحدث السياسي في الخطاب الراهن لا يكتفي بأن يكون صاحب موقف، بل يتحوّل تدريجياً إلى مؤدٍّ لدور رمزي. هو لا يُعبّر عن ذاته فحسب، بل يقدّم صورة مُحكمة البناء عن نفسه، مزيج من الصلابة والشعبوية والتقوى أحيانًا أو الثورية أحيانًا أخرى، حسب السياق.

إنه لا يتحدث، بل يُقدّم نفسه بوصفه المعنى: فبدل أن يكون الخطاب وسيلة للتواصل، يصبح وسيلة لإعادة إنتاج الذات في موقع التفوق الأخلاقي أو السياسي.

هكذا تصبح العبارات المُكررة (“لقد خُدعنا”، “سنقوم بواجبنا”، “لن نساوم على المبادئ”) لا مجرد وعود، بل أداءً تمثيليًا يقصد منه تثبيت صورة مثالية عن الذات، تحتمي بالرمز وتتجنب الواقع.

3. هندسة الخطاب: الإيقاع لا الحجة

الخطاب السياسي كثيرًا ما يُبنى على الإيقاع اللفظي والجرس الصوتي أكثر من بنائه على التسلسل المنطقي أو الحجاجي. الجُمل القصيرة، الحازمة، التي تُلقى بوتيرة عالية، هي وسيلة لفرض سلطة المعنى لا لبنائه بالتدرج.

في هذا الإيقاع، لا تهم التفاصيل، بل يهمّ التأثير اللحظي. السياسي هنا يُمارس ما يشبه الإلقاء المسرحي، حيث يُفترض أن تُدهش الجملة المستمع، لا أن تقنعه. وهو ما يجعل الخطاب أحيانًا أشبه بمقطع تعبوي لا نقاش فيه.

4. تمثلات الآخر: المعركة لا التعدد:

من أعمق المؤشرات على بنية الخطاب السياسي، الطريقة التي يُمثَّل بها “الآخر” – سواء كان حزبًا أو رأيًا مخالفًا أو حتى المواطن المنتقد. في كثير من الأحيان، يُختزل الآخر في ثلاث صور:

المُربك للمسار؛

الجاحد بالمنجزات؛

المندس أو المشوش.

بهذا التمثيل، يُعاد بناء خريطة رمزية تنقسم الي فئتين : فئة تصفق وفئة ترفض :

هذه الازدواجية لا تفتح باب النقاش، بل تُغلقه من البداية، وتمنح المتكلم حصانة رمزية، وتحرم الآخر من شرعية التواجد.

5. التضخم الرمزي مقابل التقلص الإجرائي

غالبًا ما نلحظ أن الخطاب السياسي يعاني من تضخم في التعبيرات الرمزية: الحديث عن “الرهانات الكبرى”، “التحديات المصيرية”، “التحولات التاريخية”، دون أن يقابل هذا الحجم الخطابي تصور إجرائي واقعي أو تحليل عقلاني للمشكلات.
هذا التفاوت بين علو النبرة وضآلة الفعل يُنتج ما يمكن تسميته بـ”الخطاب المُفارق”: خطاب يقول أكثر مما يستطيع، ويَعِد بأكثر مما يملك، ويتكلم من موقع السيطرة على المستقبل بينما يفتقر إلى أدواته في الحاضر.

اللغة كمرآة للعجز البنيوي

حين تتكرر الكلمات دون جديد، ويتكرس السياسي في صورة المنقذ أو الضحية، ويُغيب الآخر إلا كعدو، ويتضخم الرمز على حساب البرنامج، فإن الخطاب يفقد جوهره بوصفه وسيلة تواصل، ويُصبح أداة تبرير، أو ستارًا يُخفي العجز عن تقديم مشروع قابل للتحقّق.

هذا النوع من الكلام لا يُقنع، ولا يُلهِم، ولا يُجند. بل يدفع المتلقي – وخصوصًا الأجيال الجديدة – إلى الانسحاب من الفضاء العمومي، لأن اللغة التي يُخاطب بها لم تَعُد تشبهه، ولم تعد تقول ما يشعر به، ولا ترسم له طريقًا نحو المستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *