وجهة نظر

أنس الشريف: من شهادة الشاهد إلى شهادة الشهيد

أنس الشريف أيقونة معركة طوفان الأقصى والصوت الصادح في كشف حقيقة الإبادة والتجويع والتدمير الممنهج في غزة. جسد بأدائه الصادق وإطلالته المتميزة وشجاعته صوت المظلومين والمقهورين والمجوعين. جاب منازل الشهداء ناشرًا قصصهم ومعاناتهم وبطولاتهم وصمودهم، تعرفه أحياء غزة حجرا حجرا، وأشجارها وشوارعها ومعالمها العمرانية التي محي أثرها وهدمت أركانها وسويت بالأرض، كما تعرفه قلوب الأطفال والنساء والشيوخ، لأن صوته منغرس في وجدانهم ومحفور في نبضهم، يذكر العالم بنداء الحرية والحقيقة والعدالة من قلب الحصار والألم والمعاناة.

الحرب على الصورة والسردية

إن اغتيال طاقم الجزيرة في غزة – المراسلين أنس الشريف ومحمد قريقع، والمصورين إبراهيم ظاهر ومؤمن علويّة، والسائق محمد نوفل – ليس مجرد “حادث” في سجل الاحتلال الدموي، وإنما جريمة حرب مكتملة الأركان، اعترف بها العدو مباشرة، كاشفًا عن وجهه الإجرامي بلا أقنعة، ومؤكدا من جديد بأنه التجسيد الفكري والعملي لأقصى درجات الشر المطلق في عالم اليوم.

إننا أمام فعل انتقامي مدروس ومخطط له، يسعى إلى ضرب صوت الحقيقة، ويستهدف الصوت والصورة معًا، فالاحتلال يدرك أن الكاميرا التي تُحاصر دباباته أشد خطرًا على مشروعه وسرديته الزائفة من صوت البنادق. لذلك فغاية الاستهداف في هذه اللحظات العصيبة يدخل في إطار كسر موجة “سردية المظلومين” المنبعثة من رماد الإبادة، قبل أن تتحول إلى مدّ حضاري كاسح يفضح الاحتلال ويحاصره ويعيد تشكيل الوعي العالمي.

لقد أرادوا الانتقام الشخصي من أنس الشريف، الذي صار بحق صوت غزة وعينها التي لا تنام، وأرادوا في الوقت ذاته إسكات كل من يحمل كاميرا أو ميكروفونا أو حتى ذاكرة حية. أرادوا أن يُطفئوا النبض الذي يوثق، والعدسة التي تكشف، والقلم الذي يفضح. فجاء الاستهداف في توقيت بالغ الدلالة؛ قبيل تنفيذ خطط إبادية متوحشة إضافية ضد غزة، حيث يُراد ارتكاب مجازر أكثر في صمت مطبق، بعيدًا عن عدسات الصحفيين وشهادات المراسلين.

هذه ليست المرة الأولى التي يعلن فيها الاحتلال حربه على الصحافة، لكنه في هذه المرة أراد قطع شريان السردية الذي يربط غزة بالعالم. فقد سبق أن اغتال شيرين أبو عاقلة برصاصة الغدر، وإسماعيل الغول وغيرهم من أعلام الصحافة الذين دفعوا حياتهم ثمنًا للحقيقة مثل: طارق أيوب وأطوار بهجت. واليوم، يواصل الاحتلال سلسلة جرائمه، في حرب صارت هي الأكثر دموية للصحفيين في العصر الحديث؛ إذ بلغ عدد شهداء الإعلام بفلسطين منذ اندلاع الحرب أكثر من 228 صحفيًا، وهو رقم لم يسجَّل في أي نزاع مسلح آخر أو حروب إبادة سابقة.

إن الهجوم الوحشي على خيمة الصحفيين أمام مستشفى الشفاء ليس تفصيلاً عابرًا، بل مشهدًا فاضحًا لهشاشة حضارية يعيشها كيان يتباهى بقوته المادية لكنه يرتعد من فكرة، ويرتجف أمام كلمة، ويهتز أمام صورة؛ لأنه يعرف أن الكلمة حين تتجسد في إرادة حرة ووعي حضاري تشكل قوة رمزية وسيميائية، قادرة على تفكيك أعتى منظومات القوة المادية ونزعة الشرعية عنها وتعريتها. وفي خضم التجويع الإبادي، يأتي اغتيال الراوي — الإعلامي —لتجوع الذاكرة بعد تجويع الجسد ويجفف الوعي وتنسف السردية بعد تدمير العمران. هذه ليست لقطة عابرة من الحرب، بل استراتيجية ثابتة وواضحة المعالم في كل حروب الكيان من أجل تغييب الحقيقة عبر القتل الصامت والتطهير الشامل، في أقبح صوره بأفق التهجير الكامل والتجويع المنظم.

وفي قلب هذا الاستهداف الممنهج للإعلاميين والصحفيين، كان أنس الشريف يدرك تمامًا أن صوته جزء من معركة أكبر على الذاكرة والسردية والصورة، كان الشهيد يعي مركزية وظيفته الإعلامية وأهمية نقل الجرائم والمجازر والمعاناة إلى العالم، وأن رسالته وسرديته موجعة للكيان وفاضحة لكذبه، وكاشفة لتزويره، لذلك كتب وصيته وهو يدرك جيدا بأنه مستهدف في أية لحظة، وقد قال في وصيته: “عشتُ الألم بكل تفاصيله، وذُقت الوجع والفقد مرارًا، ورغم ذلك لم أتوانَ يومًا عن نقل الحقيقة كما هي، بلا تزوير أو تحريف، عسى أن يكون الله شاهدًا على من سكتوا ومن قبلوا بقتلنا، ومن حاصروا أنفاسنا ولم تُحرّك أشلاء أطفالنا ونسائنا في قلوبهم ساكنًا، ولم يُوقِفوا المذبحة التي يتعرّض لها شعبنا منذ أكثر من عام ونصف”، ثم يضيف: ” يعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهدٍ وقوة، لأكون سندًا وصوتًا لأبناء شعبي، مذ فتحت عيني على الحياة في أزقّة وحارات مخيّم جباليا للاجئين”.

إن توقيت هذا الاغتيال يشي بمرحلة جديدة من خطة الاحتلال؛ بالانتقال من سياسة القتل والتجويع والتهجير القسري إلى الهندسة الشاملة للمشهد الإعلامي عبر إسكات كل رواية ميدانية مستقلة، تمهيدًا لفرض روايته على العالم بلا منازع. إنها حرب على الحاضر والوعي معًا، هدفها قتل الشهود قبل ارتكاب الجريمة، حتى يبقى الاحتلال هو القاضي والشاهد والجلاد في آن واحد.

الوصية الأخيرة: أمانة الأرض والذاكرة

كان أنس الشريف يختتم كل منشوراته بعبارة: “لا تنسوا غزة”، وكأنه يعرف أن صوته قد يُغتال في أي لحظة، فجاءت وصيته لتخلّد الرسالة: “أوصيكم بفلسطين، درةَ تاجِ المسلمين، ونبضَ قلبِ كلِّ حرٍّ في هذا العالم. أوصيكم بأهلها، وبأطفالها المظلومين الصغار، الذين لم يُمهلهم العُمرُ ليحلموا ويعيشوا في أمانٍ وسلام، فقد سُحِقَت أجسادهم الطاهرة بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ الإسرائيلية، فتمزّقت، وتبعثرت أشلاؤهم على الجدران”.

تلك العبارات اليوم تتحول إلى وصية استراتيجية وإنسانية خالدة، تذكّرنا بأن المعركة ليست على الأرض فقط، بل على الذاكرة والسردية وحق الشعوب في أن تُروى قصتها بلسانها، لا بلسان الجلاد. وها هو الشهيد يخاطبنا في وصيته قائلا: “أوصيكم ألّا تُسكتكم القيود، ولا تُقعِدكم الحدود، وكونوا جسورًا نحو تحرير البلاد والعباد، حتى تشرق شمسُ الكرامة والحرية على بلادنا السليبة”.

رحل أنس الشريف جسدًا، لكن صوته سيبقى يتردّد في سماء غزة، يطارد صمت العالم، ويذكّر أن الحكاية لم تنتهِ ما دام في الأرض شهيد يبعث من جديد، ومقاوم مؤمن بالحرية ومرابط يحمل الأمانة.

إن وصية أنس الشريف، بكل ما تحمله من صدق ووضوح، لا يمكن قراءتها بوصفها نداء إنسانيا موجَّها للعالم، وإنما جزءا أصيلا من معركة السردية، حيث الصراع يتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة ليبلغ فضاء الذاكرة والوعي. في هذا المستوى، تتحول دماء الشهداء وقصصهم وأصواتهم ووصاياهم إلى أدوات لتفكيك السردية الاستعمارية وكسر احتكار الحقيقة، وتصبح الوصية ذاتها نصًّا مقاوِمًا يشتبك مع التاريخ ويفرض على الأجيال القادمة مسؤولية الحفظ والتوريث والبناء التراكمي. لأن طوفان السردية وانتفاضة الصورة الناطقة بالإبادة— الذي يجسد أنس الشريف أحد رموزها — يهدف إلى تحرير المخيال الإنساني من هيمنة المركز الاستعماري، واستعادة الحق في أن تُروى القصة بأصوات أصحابها، لا بكلمات المحتل وشاشاته وصوره المزيفة. وهنا، يصبح اغتيال أنس الشريف فعلًا يائسًا من كيان يدرك أن أكبر هزائمه ليست في الميدان فقط، بل في معركة الحكاية التي لن تتوقف ما دام في الأمة مقاوم وشهيد ووصية. وهكذا، يتحول أنس الشريف من شاهد على الإبادة إلى ركيزة في ذاكرة الطوفان، حيث تبقى كلماته سلاحًا يواجه محاولة الصهيونية احتلال التاريخ واحتكار الرواية وسرقة اللغة وتزييف الوعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *