الدعاية الانتخابية الناعمة وإصلاح القوانين الانتخابية: أي موقع في أفق 2026؟

منحت وزارة الداخلية للأحزاب السياسية مهلة تنتهي مع نهاية شهر غشت الجاري لتقديم مذكراتها ومقترحاتها بشأن إصلاح القوانين الانتخابية تمهيدا لاستحقاقات 2026، هذا النقاش وإن بدا في ظاهره تقنيا مرتبطا بتقسيم الدوائر أو نمط الاقتراع، فإنه يطرح في عمقه سؤالا استراتيجيا حول طبيعة الحملات الانتخابية في زمن الرقمنة: كيف يمكن تأطير الدعاية الانتخابية الناعمة بما يحافظ على مبدأ تكافؤ الفرص، ويمنع انزلاق الديمقراطية إلى مجرد مسرح للصور والرموز؟
شهدت الدعاية الانتخابية تحولات جذرية ففي حين ركزت الأدبيات الكلاسيكية على الخطاب المباشر والبرامج والشعارات، برزت اليوم أنماط غير مباشرة تراهن على بناء صورة ذهنية إيجابية للمرشح عبر الوسائط العاطفية والرمزية لم يعد المشهد السياسي يدار بالكلمة فقط بل بالصورة أيضا، ولم يعد الرهان على عقل الناخب وحده بل على عاطفته ولاوعيه الجمعي، هذه الممارسات لها جذور قديمة من النقوش الرومانية والرموز الدينية في العصور الوسطى إلى هيمنة التلفزيون في القرن العشرين، غير أن الثورة الرقمية في القرن الحادي والعشرين منحتها زخما غير مسبوق وجعلتها أداة مركزية في الحملات الانتخابية.
في المغرب، برزت هذه الظاهرة بوضوح خلال انتخابات 2021 ففي المدن اعتمدت بعض الأحزاب على الفيديوهات القصيرة، الصور الرمزية، والميمات الشبكية لاستقطاب الناخبين الشباب الذين ينفرون عادة من الخطاب السياسي التقليدي، وفي القرى استعملت القوافل الطبية والأنشطة الخيرية والرموز الدينية كوسائط انتخابية غير مباشرة لبناء رأسمال رمزي للمرشحين، وهكذا اتخذت الدعاية الناعمة شكلا هجينا يجمع بين اقتصاد الصورة الرقمية في المجال الحضري واقتصاد القرب الاجتماعي في المجال القروي.
أما في المناطق القبلية فقد برزت أشكال أخرى من الدعاية الناعمة تستند إلى الروابط التقليدية والرموز الجماعية فالمرشح يسعى إلى الاندماج في الحياة اليومية للجماعة عبر المشاركة في المواسم والأعراس والجنائز والأنشطة التضامنية، كما يوظف الرموز الثقافية والهوية المحلية مثل اللغة أو اللباس التقليدي لتعزيز الشعور بالانتماء، وتبقى صور الأعيان وشيوخ القبائل وهم يعلنون دعمهم للمرشح من أبرز أدوات الشرعية الناعمة في هذا السياق إذ تحمل قوة رمزية كبيرة لدى الناخبين.، غير أن هذا النمط رغم فعاليته في تجسير العلاقة بين السياسي والمجتمع، يظل محفوفا بمخاطر إعادة إنتاج الولاءات التقليدية على حساب البرامج والسياسات العمومية، مما قد يضعف مسار بناء ثقافة ديمقراطية حديثة قائمة على الاختيار الحر.
ولا يمكن فهم قوة هذه الممارسات دون استحضار علم النفس السياسي، فالصورة والرمز يخاطبان العاطفة أكثر من العقل، مشهد بسيط كابتسامة مرشح مع طفل يولد ما يسمى بأثر الهالة، حيث يسقط الناخب الانطباع الإيجابي على مجمل شخصية المرشح كما أن تكرار الصور الرمزية يعزز الانحياز للتكرار، فيما تعمل الميمات وفق آلية العدوى الاجتماعية، حيث يتبنى الأفراد الرسائل السياسية فقط لأنها منتشرة داخل شبكاتهم، هذه الديناميات النفسية تجعل الدعاية الناعمة سلاحا مؤثرا لكنها في الآن نفسه خطرة إذا لم تؤطر.
إن إدماج هذا الموضوع في ورش إصلاح القوانين الانتخابية يفرض نفسه لعدة اعتبارات، فمن جهة تتيح الدعاية الناعمة فرصا حقيقية لتوسيع المشاركة السياسية وجذب الفئات الشابة غير المسيسة، ومن جهة أخرى تحمل مخاطر على جودة الاختيار الديمقراطي، لأنها قد تضعف النقاش العمومي، وتكرس الشعبوية وتمنح أفضلية غير عادلة للفاعلين الذين يملكون موارد مالية وإعلامية ضخمة.
وبناء على ذلك فإن أي إصلاح جاد للقوانين الانتخابية لا يمكن أن يقتصر على الجوانب التقنية المرتبطة بتقسيم الدوائر أو طرق الاقتراع بل يجب أن يمتد ليشمل المجال الرمزي والرقمي الذي بات يتحكم في تشكيل صورة المرشحين في أعين الناخبين، ففي ظل توسع الحملات عبر المنصات الرقمية تبرز الحاجة إلى تأطير قانوني صارم لاستخدام الوسائط الحديثة، يضمن الشفافية في الإعلانات الممولة ويكشف مصادرها حتى لا تتحول إلى قنوات خفية للتأثير غير المشروع.
كما يصبح من الضروري وضع ضوابط للأنشطة الخيرية والاجتماعية التي يباشرها بعض المرشحين قبيل الانتخابات، حتى لا تتحول إلى شكل من أشكال الإحسان الانتخابي المقنع الذي يربط التصويت بالمصلحة الآنية بدل الاختيار السياسي الحر، وفي السياق نفسه يظل الرهان على الشباب قائما ما يستدعي تعزيز التربية الإعلامية والسياسية داخل المدارس والجامعات والمجتمع المدني، حتى يتسلح المواطن بقدرة نقدية تخوله التمييز بين المعلومة الحقيقية وصناعة الوهم الرقمي.
ولا تكتمل هذه الإصلاحات دون إحداث آليات للرقابة المستقلة على الحملات الرقمية، بما يضمن نزاهة التنافس في الفضاء الافتراضي الذي صار امتدادا للساحة العمومية التقليدية فغياب الرقابة يفتح الباب أمام الأخبار الزائفة والرسائل المضللة وهو ما يقوض مبدأ الثقة الانتخابية، وإلى جانب ذلك ينبغي ضمان تكافؤ الفرص بين الأحزاب في الولوج إلى الوسائط الإعلامية، سواء التقليدية منها أو الرقمية، بما يمنع احتكار سوق الرموز من قبل بعض الفاعلين ويتيح مجالا متكافئا للتأثير السياسي.
بهذا المعنى، فإن الإصلاح الانتخابي المنتظر لا ينبغي أن يفهم كعملية تقنية بحتة، بل كرهان استراتيجي على مستقبل العلاقة بين الصورة والمضمون في الديمقراطية المغربية، فالمطلوب ليس فقط تحديث النصوص بل أيضا بناء ثقافة انتخابية جديدة تحافظ على جاذبية الوسائط الحديثة دون أن تفرغ السياسة من معناها الحقيقي.
لقد قدمت التجارب الدولية دروسا مهمة في هذا المجال، فقد نجح باراك أوباما سنة 2008 في تحويل الحملة الرقمية إلى رافعة للتغيير السياسي عبر شعار Yes We Can، بينما ركز إيمانويل ماكرون سنة 2017 على تسويق صورة الرئيس العصري الشاب، أما المغرب فقد قدم في انتخابات 2021 نموذجا مغايرا يقوم على الجمع بين البعد الرقمي الحضري والبعد الاجتماعي القروي والبعد الرمزي القبلي. وهذا التمايز يبرز أن الدعاية الناعمة ظاهرة عالمية تتخذ أبعادا محلية، مما يفرض على المشرع المغربي الانتباه إلى خصوصياتها.
الديمقراطية ليست رهينة فقط بسلامة النصوص القانونية بل أيضا بقدرتها على تنظيم المجال الرمزي الذي تتشكل داخله اختيارات الناخبين، واستحقاقات 2026 لن تكون مجرد امتحان لصناديق الاقتراع، بل اختبارا لمدى قدرة المغرب على التوفيق بين جاذبية الصورة ومصداقية المضمون، وبين الفرجة السياسية ومتطلبات الاختيار الديمقراطي الحر.
اترك تعليقاً