منتدى العمق

سماسرة القيم في بورصة النفاق

في عالم السياسة والاقتصاد حيث فن الممكن بكل تقديراته، كما في أسواق الخضر والفواكه حيث فن التسويق بكل تلاوينه، يعلو الصخب حين يكثر الكلام ويقل الهدوء. لكن العجب كل العجب حين نرى أُناسا وكأن على رؤوسهم الطير متفقين على بيع كل شيء، من المبادئ إلى الأوهام، ومن الأحلام إلى الأوطان، ثم تراهم مختلفين فقط على الأسعار! إنها فلسفة عبثية تُعلّمنا أن البيع ليس جريمة في ذاته، لكن الجريمة أن يختلف السماسرة على كم يساوي الضمير في بورصة النفاق. هنا ندخل عالما ساخرا، حيث المساومة ليست على قطعة أثاث، بل على مستقبل أمة بأكملها .. تُرى كم يساوي الوطن عند هؤلاء العملاء .. ؟! ففي بورصة النفاق ترتفع أسهمه لتنزل قيمة الوطن.
في المزاد العلني للأوطان
حين يُقام المزاد العلني للأوطان، لا تسمع إلا صوت الدلال يصرخ: “من يزايد؟ من يزيد؟” وتجد القوم يرفعون أصابعهم لا لشراء، بل لبيع .. بيع الضمير بأبخس الأثمان ..!

إنهم يبيعون أرض الوطن كأنها أرضية سيراميك، ويعرضون التاريخ كأنه قطعة أثرية في متجر عتيق بزجاج شفاف أمام العلن. كلهم متفقون: “لنترك المبدأ جانبا، ولنركز على الربح.” وهنا المفارقة: فلو كان الوطن غاليا، لما دخل أصلا إلى قاعة المزاد.
إنها مهزلة كبرى حين تتفق الجماعة المرابية على أن كل شيء قابل للبيع، لكن حين يصل النقاش إلى السعر، تتطاير الأقنعة، ويظهر كل واحد بحساباته الخاصة. أحدهم يريد الدولار، والآخر يفضل اليورو، وثالث يقنعه مجرد مقعد وهمي في منظمة دولية. يا لها من صفقة خاسرة تُشبه بيع الذهب مقابل علكة .. ! إنها تجارة القيم حيث يغيب الضمير وتحضر الخديعة .. خديعة الوطن .. !

في سوق القيم
من زاوية فلسفية ساخرة، يمكن القول إن البيع في حد ذاته ليس مشكلة؛ فالحياة كلها عمليات تبادل. لكن المشكلة الكبرى حين يكون المعروض للبيع هو القيم والمبادئ. فكيف يُسعَّر الشرف؟ وبأي عملة يُقوَّم التاريخ؟ وهل للكرامة بورصة عالمية تُحدد مؤشراتها صباح كل يوم؟

إن المضحك المبكي ينجلي في هؤلاء السماسرة الذين يتعاملون مع الأوطان كما يتعامل تاجر البازار مع سجادة قديمة وهو يساوم “إن أعطيتني الثمن المناسب، فهي لك، وإلا فأنا أحتفظ بها في المخزن حتى يأتي زبون آخر يحسن العطاء”. فهكذا تتحول السياسة إلى كوميديا سوداء .. كذب وبهتان، بيع القيم وشراء الذمم، أبطالها تجارٌ تُبّع يحسنون فن الكذب على خشبة مسرح السوق، وجمهورها تابعون يدفعون الثمن من جيوبهم ودمائهم في النهاية. فالوطن حين يسعر في بورصة النخاسة تذهب معه القيم إلى الأبد.
في الختم، هكذا، يبقى السؤال معلقا: هل الاختلاف على الأسعار دليل على بقاء شيء من القيمة، أم أنه مجرد استمرار لمسرحية هزلية عنوانها “بيع كل شيء بلا مقابل”؟
الحقيقة أن الضحك هنا أرحم من البكاء، والسخرية أكثر إنصافا من الجد. فالتاريخ لا يرحم من جعل من نفسه بائعاً في سوق القيم، وخائنا لأمانة الوطن، بل سيُسجل في خانة “البريمي” .. المستعمل والمنتهي الصلاحية.
إلى هؤلاء المرابين نقول: “بعتم كل شيء .. لكنكم ما اتفقتم يوما على كم يساوي الوطن.” .. فالوطن أكبر منكم ولا يقدر بثمن .. !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *