ويبقى الأثر…

مع نهاية العطلة الصيفية من كل سنة، واقتراب حلول موسم الدخول المدرسي، يتجدد الحديث عن أدوار المدرس بوصفه حلقة مهمة في العملية التعليمية-التعلمية. هذه الأدوار تتمثل في توصيل المعلومات والمفاهيم للطلاب بطرق مبسطة، بالإضافة إلى تحفيزهم وتوجيههم لتحقيق أهدافهم الأكاديمية، مع تكييف طرق التدريس لتناسب احتياجاتهم المختلفة. كما أن جميع أطياف المجتمع تتحدث عن المهارات التي يجب أن تكون جزءًا من شخصية المدرس الناجح، كقدرته على تحقيق المرونة في التعامل والتكيف في مختلف الظروف التي يشتغل بها، بالإضافة إلى التواصل الفعال مع رؤسائه، زملائه، طلابه، وأولياء أمورهم، دون إغفال ضرورة المعرفة العميقة بالمواد التي يدرسها، مما يستلزم تدريبًا وتكوينًا مستمرين وقدرة كبيرة على التثقيف والتعلم الذاتي. تتعدد أيضًا الألقاب التي يُوصَف بها المدرس، كالأستاذ والمعلم، وفي نموذج المدرسة الرائدة، أصبحنا نتحدث عن الميسر. لكنني، وبوصفي مدرِّسة حاليًا وطالبة سابقًا، يمكنني أن أجزم أن كل هذه الألقاب هي تقزيم للدور الحقيقي للمدرس، وأن هذه الأدوار التي تلقيناها في مراكز التكوين وطورناها بممارسة التدريس على مدار سنين عديدة ليست إلا جانبًا فقط من مهمتنا الأساسية والحقيقية، والتي تكتسي طابعًا أعمق بكثير مما يُروج له.
إن المدرس في نظري هو ذلك الأثر الذي يتركه في نفوس طلابه، والذي لا يستطيع الزمان محوه. علاقتنا بمدرسينا أعمق من أن تُختزل في تلقين المعارف في زمن أصبح فيه الحصول على المعلومات أسهل من الحصول على رشفة ماء.
لا تخلو جلسة عائلية أو بين الأصدقاء في مختلف بقاع العالم من الحديث عن ذلك الأثر الذي تركه معلموهم فيهم، وعن تأثيرهم – إيجابيًا كان أم سلبيًا – في طريقة تفكير طلابهم، والمساعدة على تحديد مساراتهم، وحتى في تغيير قناعاتهم، والمساهمة في بناء قيمهم وشخصياتهم. فتجد تلك الجلسة تنتهي بالدعاء مع بعض المدرسين والدعاء على البعض الآخر. وعيي بهذه الحقيقة هو ما يعزز إحساسي بالمسؤولية الملقاة على عاتقي، وهو ما يجعلني ويجعل الكثير من زملائي الذين وصلوا لنفس درجة وعيي بهذا الأمر في سعي مستمر لتحقيق درجة الإخلاص في العمل، رغم التحديات التي تواجهنا ونحاول التغلب عليها. ذلك الأثر يحفر بشكل إيجابي عندما تتحقق مجموعة من الشروط، فالطالب يكون شديد الملاحظة والتأثر بشخصية المدرس: بهيئته وحضوره، بتعبيراته وطريقة كلامه، بتصرفاته وردود أفعاله، بمواقفه وقناعاته، بمدى صدقه، إخلاصه، واحترامه للزمن المدرسي، بتمكنه المعرفي وبسعيه لتطوير نفسه، بمرونته وتدبير خلافاته، بموازنته بين الجد والهزل، وبقدرته على تحقيق أهدافه التعليمية والتربوية دون إشعار المتعلم بالخوف أو الملل، بمحاولاته المتكررة لفهم المشكلات النفسية لدى طلابه والتعامل معها، وبنشره لقيم التسامح والعطاء والإبداع داخل وخارج أسوار مدرسته.
ذلك المدرس الذي بقي أثره عالقًا في أذهاننا وأنفسنا هو إنسان قبل كل شيء، اختار كلماته بعناية، واستطاع أن يجدد ويغير في وسط لم يساعد و لم يشجع على التغيير والتطور، لم يؤمن بأن المستحيل موجود، بل ساهم إلى جانب الآباء في تربية النشء. و على الضفة الأخرى نجد مدرسًا يحمل صفات معاكسة تمامًا لما ذكرته سابقًا، يترك هو الآخر أثرًا لا يُنسى لكنه أثر سلبي وسيئ نرفضه، وتتغير ملامحنا بمجرد تذكره لأننا نشعر بالامتعاض والظلم وقلة الحيلة. ففي الوقت الذي كنا فيه صغارًا نحتاج للتربية والتعليم وحضور القدوة في حياتنا، يأتي ذلك المدرس غير المسؤول ليغرقك في الظلام والجهل عوض إخراجك إلى نور المعرفة. لكنه نجح أن يعلمك درسًا مهمًا في الحياة وهو ألا تكون على شاكلته.
لا شك أنك، عزيزي القارئ، وبمجرد قراءتك لهذه السطور تذكرت وجوه الأساتذة الذين تركوا فيك الأثرين الإيجابي و السلبي. أنا أيضًا تذكرت أستاذين ساهما وبشكل كبير في رسم حدود لشخصيتي وفي بناء مجموعة من قيمي. الأول درسني في القسم الثالث ابتدائي، وكغيري من تلاميذ هذا المستوى في سنوات التسعينيات، فقد كنا على موعد ولأول مرة مع اللغة الفرنسية، ولا يخفى على أحد مقدار شوقنا آنذاك لدراسة لغة أجنبية. هذا الأستاذ – إن تحققت له هذه الصفة – كان موظفًا شبحًا آنذاك، يشتغل في الصحافة بالموازاة مع عمله في التدريس، وكان يتغيب الأسبوع كاملًا ويحضر يوم الجمعة على الساعة 12 زوالًا ليدرسنا في مدة لا تتجاوز 45 دقيقة أسبوعيًا. سنة دراسية كاملة ضاعت من الزمن المدرسي ومن أعمارنا، لم يوضع فيها الحجر الأساس لتعلم لغة أدرسها اليوم بصفتي أستاذة. ناهيك عن الفجوة العميقة التي حصلت لي في تعلم مادة الرياضيات. كان زملائي الأطفال يستمتعون باللعب واللهو في غياب الأستاذ، وكنت أنا وصديقتي التي تزاول اليوم مهنة الطب نرتقب دخول الأستاذ من الباب، وأحاسيس غريبة تتملكنا ولأول مرة كالحسرة والعجز والظلم وخيبة الأمل. كانت مشاعرا تخزن في دواخلنا، فنحن لم نكن نفهمها أو نعرف كيفية التعامل معها. نتصفح الكتب المدرسية بألوانها الزاهية ورائحتها المميزة، وكلنا فضول لمعرفة الحوار الذي يدور بين تلك الشخصيات ،فقد كنا على علم بأسمائهم فقط من المرات القلائل التي درسنا فيها الأستاذ : صفاء، نبيل، مينة، الأب والأم، الجد والجدة.
لم أكن أعي حجم الجريمة التي تُقترف في حقنا، لكنني كنت أتساءل في صمت لماذا يدرس الآخرون ولا ندرس نحن؟ هذا الأستاذ كان رجلا طويلًا ووسيمًا يتمتع بخفة ظل غريبة وبشخصية مرحة وضحكة دافئة. لن أنسى كيف كان بعضنا يرتمي في حضنه ببراءة الأطفال فرحًا بمجيئه، لكن لا أحد منا كان يملك الشجاعة للسؤال عن سبب غيابه المتكرر أو لإخبار أولياء أمورنا بذلك. كان شخصًا محبوبًا لدى جميع التلاميذ لأنه كان دائم الابتسام لا يغضب ولا يضرب، نجح في أن يعلمني دروسًا كثيرة من أبرزها أنه عرفني بالمشاعر التي قد يحسها التلاميذ إن لم أقم بواجبي، وأن التعليم سيرورة إذا تخلى المدرس الواحد فيها عن دوره فإن العواقب تكون وخيمة على المسيرة الدراسية للطالب. كما أنني فهمت أن للشر صورًا متعددة منها خيانة الأمانة وعدم الإخلاص في العمل، وأن الشرير ليس بالضرورة شخصًا بشعًا يصرخ ويضرب، بل يمكن أن يكون على هيئة شخص محبوب ووسيم يبتسم للجميع.
في المقابل يبرز الأثر الطيب لأستاذي الطيب والذي درسني اللغة العربية في مستوى الأولى إعدادي. أثر إيجابي وأشد عمقًا وتأثيرًا من نظيره السلبي. لا أريد أن يفهم من كلامي تمييز بين الأساتذة حسب السلك المدرس لكن قصتي مع أساتذتي جاءت على هذا المنوال. أول ما يخطر ببالي حين أتذكر أستاذي هو استقامته النادرة واحترامه الشديد للزمن المدرسي، كان يضبط ساعته اليدوية على مراحل الدرس، وإن بقي شيء من الوقت فهو لا يبخل علينا بأنشطة إضافية موازية تدعم التعلمات ، كنشاط تلخيص القصص مثلًا الذي أكسبنا حبًا للمطالعة وتمكنا من استخراج الأفكار الرئيسة والفرعية من نص مقروء. أستاذي حببنا في اللغة العربية بشكل لا يوصف، كانت حصته تمر بسرعة وبدون ملل، ولم أذكر يومًا أنه استخدم ألفاظًا أو عبارات لا تراعي خصوصية مرحلتنا العمرية والنفسية، فقد كان يختار كلماته وكأنها أطايب التمر، بل وكانت لغته، هيئته، وأسلوبه على قدر كبير من الرقي. تعدى دور المدرس فلعب دور المربي. كما أنه كان شديد الملاحظة لسلوكياتنا داخل الفصل وفي ساحة الإعدادية ولا يجد حرجًا في تعديلها وإسداء النصح لنا بطريقة مرنة وسلسة نتقبلها بصدر رحب. حباه الله بالهيبة والوقار والحضور والذكاء. ولا شك لدي أن هذه الصفات من ثمار إخلاصه في العمل وكرمه في التعامل وفي إرشاد المتعلمين وتوجيههم. بعد أكثر من 20 سنة، أستطيع القول أن أستاذي لم يكن أثرًا فقط بل كان خيرًا وبركة وقدوة. وإن كان قد نجح في تمرير درس ينفعني مدى الحياة فهو: الأستاذ الناجح هو الأستاذ الصادق في عمله. خصوصًا أنني سليلة بيت، الأب فيه أستاذ صادق ومخلص في عمله، وأعلم جيدًا كيف ترافق البركة أبناء أستاذ بهذه المواصفات ويتمتع بهذه المميزات.
في الختام، لا بد لي من القول أن غالبية المدرسين وفي جميع الأسلاك التعليمية بدون استثناء يبذلون مجهودات جبارة سنويًا في مهنة توصف بمهنة المتاعب. لكن التركيز يجب أن ينصب على ذلك الأثر النفسي الذي نتركه في المتعلم والذي لا يخضع لتقويمات أو اختبارات وطنية أو دولية، لكننا وبصدقنا في أداء مهمتنا السامية نساهم في بناء مواطنين شرفاء وأناس متزنين. وإن كانت لدي رسالة أحب أن أوجهها للتلاميذ والطلاب فهي ضرورة التدرب على مهارة أخذ كل ما هو إيجابي من سلوكيات ومواقف ومعارف وترك كل ما هو سلبي، فالأستاذ يبقى إنسانًا يخطئ.
اترك تعليقاً