مجتمع

حينما يعزل الهاتف أفراد الأسرة.. خبراء يرصدون تداعيات نفسية وتربوية مدمرة للشاشات

في زمن باتت فيه الهواتف الذكية رفيقا لا يفارق أيدينا، تغيرت ملامح الحياة اليومية داخل البيوت، فقد أصبحت الشاشة الصغيرة تجذب الانتباه أكثر من أحاديث الأهل، وأحيانا يحل التواصل الرقمي محل الحوار العائلي.

فبين من يرى فيها وسيلة للتواصل، ومن يعتبرها تهديدا للعلاقات، يطرح السؤال نفسه: هل قتلت الهواتف الذكية الروابط الأسرية؟ أم تحمل أيضا فرصا لتعزيزها؟.

لا شك أن هذه الأجهزة وفرت إمكانيات واسعة للبقاء على اتصال دائم، حتى بين أفراد الأسرة الموزعين في أماكن مختلفة، لكن، في المقابل، يحذر مختصون من أن الاستخدام المفرط للهاتف خلال الوقت العائلي يقلل من جودة التفاعل الإنساني المباشر.

آثار نفسية وإدمان خفي

تقول الدكتورة حنان الإدريسي، طبيبة متخصصة في علاج الإدمان بالدار البيضاء، إن تزايد استعمال الشاشات بشكل مفرط اليوم يشكل تحديا كبيرا للصحة النفسية، ليس فقط لدى الأطفال والشباب، بل حتى عند الكبار وداخل الأسرة ككل.

وأضافت في تصريحها لجربدة “العمق”، قائلة: “نشهد استعمارا حقيقيا للشاشات في حياتنا الأسرية، إذ غزت العلاقات والتواصل والأدوار والبرامج اليومية”.

وتشير الأبحاث الحديثة -منها دراسة Twenge & Campbell (2018) على أكثر من 40 ألف طفل ومراهق- إلى أن الإفراط في استعمال الشاشات يرفع معدلات القلق والاكتئاب ويضعف التركيز والنوم والمهارات الاجتماعية.

كما أبرزت مراجعة علمية (Elhai et al., 2017) أن الاستعمال المفرط للهواتف لدى البالغين يرتبط بزيادة الاكتئاب والقلق، خاصة بسبب ما يسمى “إدمان التحقق المستمر”، أي فحص الهاتف بشكل متكرر ومن دون سبب حقيقي، مما يولد توترا داخليا دائما.

وترى الإدريسي أن “الإدمان الرقمي” لا يقل خطرا عن إدمان المخدرات، فهو يغذي العزلة ويؤثر على العلاقات داخل الأسرة، إذ ينشغل كل فرد بعالمه الافتراضي على حساب التفاعل الوجداني المباشر، وهذا ما يخلق فجوة بين الآباء والأبناء ويقوض الحوار الأسري.

وتحذر المتحدثة من ظاهرة تعرف بـ”Phubbing” أو “تجاهل الآخر بسبب الهاتف”، والتي تجعل الأطفال يشعرون بتراجع قيمتهم عند والديهم، مما يؤدي إما إلى انسحاب عاطفي أو سلوكيات احتجاجية.

وختمت الخبيرة التربوية بالتأكيد على أن “التوازن الرقمي لم يعد ترفا، بل ضرورة ملحة لحماية الصحة النفسية والحفاظ على روابط أسرية قوية” حسب تعبيرها.

أثر مباشر على نمو الأطفال 

من جانبه، أكد الخبير التربوي أحمد دكار أن تأثير الهواتف الذكية على الأطفال يتجاوز حدود الترفيه إلى التأثير المباشر على بناء الشخصية والنمو السليم.

وقال دكار في تصريح لجريدة “العمق”، إن “أطباء الأطفال وعلماء النفس يجمعون على أن الاستعمال المبكر والمفرط لهذه الأجهزة ينعكس سلبا على النمو اللغوي والاجتماعي للأطفال”.

وأوضح أن السماح للطفل باستعمال الهاتف قبل سن الثالثة يؤثر سلبا على تعلم اللغة، باعتبارها أداة أساسية للتواصل، مضيفا أن الاعتماد على الهواتف لإسكات الطفل عند الغضب أو البكاء يضعف قدرته على التفاعل الاجتماعي، ويؤدي إلى اضطرابات في النوم والتركيز، وهو ما ينعكس لاحقا على مستواه الدراسي وحياته اليومية.

وشدد دكار على أن “الأسرة هي الحلقة المركزية في مواجهة هذا التحدي، إذ لا يكفي منع الطفل من الهاتف، بل يجب أن يكون الآباء أنفسهم قدوة في الاستعمال الواعي”.

وأضاف الخبير التربوي قائلا: “كثيرا ما نجد الأسرة مجتمعة حول مائدة الطعام، لكن كل فرد يعيش في عالمه الخاص عبر شاشة الهاتف، مما يعمق العزلة داخل البيت”.

وأشار إلى أن الدراسات الحديثة تربط بين الإدمان على الهواتف وظهور أعراض شبيهة بالتوحد لدى الأطفال، إلى جانب ضعف المردودية الدراسية وتراجع المهارات الاجتماعية.

لذلك، يرى المتحدث، أن على المدرسة أن تلعب دورا مكملا عبر إدماج مواضيع توعوية حول الصحة الرقمية، لكن يظل الرهان الحقيقي على دور الأسرة في منح الوقت والإنصات والتوجيه.

وختم دكار تصريحه بالقول: “إذا كان الأب والأم غارقين في الهاتف، فمن الطبيعي أن يقلدهم الطفل. الحل يبدأ من القدوة، ومنح الأبناء وقتا حقيقيا للحوار والأنشطة المشتركة”.

* الصورة تعبيرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *