المغرب العميق

آيت بوكماز.. كنوز ثقافية منسية تقصي “الهضبة السعيدة” من خريطة السياحة

كشفت دراسة علمية أن وادي آيت بوكماز، الذي طالما اعتبر أحد ألمع الوجهات السياحية الجبلية في المغرب، يشهد تراجعا مقلقا في أعداد زواره على مدى العقدين الماضيين، مرجعة السبب الرئيسي إلى الإهمال الممنهج لتراثه الثقافي الغني والاعتماد المفرط على منتج سياحي وحيد هو الرحلات الجبلية. وأظهرت الدراسة التي أجراها الدكتور حسن خلاف، الباحث والمهتم بقضايا التنمية الترابية في المناطق الجبلية، أن الفاعلين في القطاع السياحي بالمنطقة، سواء المحليين أو الحكوميين، لم ينجحوا في تحويل الموروث الثقافي المادي وغير المادي للوادي إلى مورد حقيقي قادر على تعزيز جاذبية المكان وتنويع عرضه السياحي، مما وضع مستقبل السياحة في “الهضبة السعيدة” على المحك في ظل منافسة وطنية وعالمية متزايدة.

وأوضحت الوثيقة البحثية بالأرقام حجم الأزمة التي يعانيها القطاع السياحي بالوادي، حيث أشارت إلى أن متوسط عدد السياح لكل مرشد محلي سنويا انخفض بشكل ملحوظ، كما تقلص عدد ليالي المبيت في دور الضيافة المحلية رغم طاقتها الاستيعابية المحترمة. ونقلت الدراسة حالة من عدم الرضا والتذمر تسود بين أصحاب دور الضيافة الذين أكدوا أن عائداتهم المالية لم تعد كافية حتى لتغطية تكاليف استثماراتهم، حتى في مواسم الذروة. ووفقا للمعطيات التي قدمها البحث، فإن هذا الوضع الاقتصادي المتدهور يعود بشكل مباشر إلى محدودية المنتج السياحي المقدم، والذي لم يعد قادرا على تلبية تطلعات شرائح متنوعة من السياح الباحثين عن تجارب ثقافية عميقة وأصيلة تتجاوز مجرد الاستمتاع بجمال الطبيعة والتضاريس.

وأبرزت الدراسة التي اعتمدت على مقابلات معمقة مع المرشدين السياحيين المحليين، أن خطابهم الموجه للسياح يركز بشكل شبه كلي على الجوانب الطبيعية، مثل وصف التضاريس والمناظر الخلابة والتنوع البيئي للوادي، وهي مهارات اكتسبوها بحكم ارتباطهم بمنتج الرحلات الجبلية. في المقابل، كشف التحليل الذي أجراه الدكتور خلاف وجود ضعف كبير في قدرة هؤلاء المرشدين على تقديم التراث الثقافي المحلي، سواء المادي منه كالمخازن الجماعية التاريخية “إكودار” والنقوش الصخرية، أو غير المادي كالطقوس والعادات الاجتماعية وفنون الطهي وتقاليد الزراعة. وأقرت غالبية المرشدين، حسبما وثقت الدراسة، بافتقارهم للمعرفة الكافية والمهارات اللغوية اللازمة لصياغة خطاب “ثري وجذاب” يمكنه تحويل هذا التراث الصامت إلى منتج سياحي قائم بذاته، قادر على إثراء تجربة الزائر وجذبه.

ورصدت الدراسة الأكاديمية التي اطلعت عليها جريدة “العمق” جذور هذه المشكلة في السياسات التنموية الأولى للسياحة الجبلية بالمنطقة خلال منتصف الثمانينيات، والتي قادتها الدولة بالتعاون مع جهات فرنسية، حيث تم التركيز بشكل حصري على استغلال المقومات الطبيعية للوادي وتضاريسه لتعزيز سياحة المغامرات والرحلات. وأشار البحث إلى أن هذا التوجه كان مبنيا على اعتقاد سائد آنذاك بأن التراث الثقافي هو حكر على المدن العتيقة الكبرى كمراكش وفاس، ولا يصلح كمورد اقتصادي في المناطق القروية والجبلية. وأضافت الدراسة أن هذا التصور لا يزال سائدا لدى بعض الفاعلين المحليين والمجالس المنتخبة، التي تنظر إلى التراث كعبء على الميزانية بدلا من اعتباره أصلا استثماريا يمكن أن يدر دخلا ويخلق فرص عمل جديدة للمجتمع المحلي.

وحذرت الدراسة من خطر آخر يهدد أصالة الوادي، وهو ما أسمته بـ “تسليع التراث الثقافي”، حيث يلجأ بعض الفاعلين المحليين، مدفوعين بالرغبة في تحقيق الربح السريع وبضغط من وكالات أسفار خارجية، إلى تقديم نسخة مزيفة ومصطنعة من الثقافة المحلية لتلبية توقعات بعض السياح. وأكدت الوثيقة البحثية أن هذه الممارسة الخطيرة تحول ثقافة المجتمع وكرامته إلى مجرد “سلعة” للعرض، وتفرغ التراث من معناه الحقيقي، وتهدد العلاقة الصحية القائمة على الاحترام المتبادل بين الزوار والسكان. وشددت على أن أي خطاب سياحي يجب أن ينبع من المجتمع المحلي نفسه ويحافظ على مصداقيته وأصالته، لضمان تجربة حقيقية للسائح وحماية الهوية الثقافية للوادي.

ودعت الدراسة في خلاصاتها إلى ضرورة إحداث تحول جذري في المقاربة المعتمدة لتنمية السياحة في آيت بوكماز، عبر الانتقال من منطق المنتج الواحد إلى استراتيجية تعتمد على تنويع العرض السياحي. واقترحت ما أطلقت عليه بناء خطاب “توريث” فعال، أي خطاب يروي قصة التراث المحلي بجميع أبعاده، ويجعله مسموعا ومفهوما ومتاحا للتجربة. وأكدت أن هذه المهمة ليست حكرا على المرشدين السياحيين وحدهم، بل تتطلب انخراطا جماعيا وفعالا لجميع مكونات المجتمع المحلي، من جمعيات وسكان وحرفيين، ليكونوا هم حماة تراثهم والسفراء الحقيقيين له.

وخلصت الدراسة التي أنجزها الباحث حسن خلاف إلى أن الاستثمار في التراث الثقافي المحلي عبر بناء خطاب سياحي أصيل ومتكامل لن يساهم فقط في تعزيز جاذبية وادي آيت بوكماز وقدرته التنافسية، بل سيشكل رافعة حقيقية للتنمية المحلية. وأوضحت أن هذا التوجه من شأنه أن يفتح آفاقا اقتصادية جديدة، ويساهم في التخفيف من حدة الفقر عبر توزيع عائدات السياحة على نطاق أوسع داخل المجتمع، فضلا عن دوره الجوهري في صون الهوية الثقافية الفريدة للوادي وتعزيز قيم الاعتراف والاحترام المتبادل بين الثقافات، وتحويل ماض ثمين إلى أداة لتحسين الحاضر وبناء المستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *