وجهة نظر

بعد “خطبة الوداع”.. ناصر الزفزافي يؤسس للمصالحة

لقد عملتُ بهدوء على رصد منطق الدينامية الإجتماعية التي احتضنتها مدينة الحسيمة بالريف المغربي الأوسط مند بدايتها، سعيا إلى تفكيك الشفرات سواء في الشكل الذي أخذته هذه الدينامية ، أو في المضمون من خلال التصنيف الكمي والكيفي لزخمها وحيثياتها. ولا أريد الأن أن أنجرف نحو تقويم مسار دينامية اجتماعية صاخبة حرصا مني على احترام حق الأغيار في التعبير على مطالبهم من جهة ، ومن جهة ثانية لرفض الوقوع في عيب تجاوز حقوق الأخرين في تأطير قناعاتهم ؛ مستحضرا مصالح الوطن العليا من دون أي شرخ في إقامة العدل في التحليل ما بين مطالب فئة من المغاربة تنشد التنمية والرقي ، والتخوفات المشروعة للدولة من انزلاق المطالب الإجتماعية نحو ما قد يمس بالنظام العام . ولهذا ، أزعم أن قوة الدينامية في الكم الجماهيري ، إضافة إلى امتدادها الزمني ؛ يسمح بحصول انزياحات ، هنا أو هناك ، وهو ما انتهى حسب التقديرات إلى اعتماد القضاء لإدارة الإنزياحات كما هو معمول به دوليا في تجارب كثيرة مقارنة . وما يهمني الأن ، منهجيا ، ليس العودة إلى ما يسمى ” حراك الريف ” ضمن إجترار الفهم والمعنى ، سيما أن وقتا غير يسير قد مضى عليه . بالأحرى أروم فقط الإنطلاق من مراسيم جنازة الفقيد الزفزافي الأب قصد بناء ملاحظات وترتيب استنتاجات تخدم مطالب الساكنة ، وفي الوقت نفسه تخدم النظام العام وصورة المغرب ؛ وكلاهما من صلب الوطنية المواطنة . وهذه بعض الملاحظات التي أراها دقيقة ، قُبيل عرض التوصيات كاستنتاجات مفروض طرحها جهرا لكل فائدة ممكنة .

الملاحظة الأولى: السماح لناصر الزفزافي بالخروح المؤقت من السجن قصد زيارة والده المريض توجه حكيم من الدولة، ينطلق من حس إنساني مطلوب لتلطيف الأجواء ولأنسنة التوتر بين معتقلي الحسيمة والدولة، وهو ما استحسنه ناصر نفسه بدليل قبول المقترح وزيارة والده أولا ثم تشيعيه ثانيا. وهنا أضع فرضية عكسية مفادها : ماذا لو رفض ناصر الزفزافي زيارة والده كشكل من أشكال الإحتجاج !! أو ماذا لو رفض تشييعه على مرأى ومسمع من العالم !! معنى هذا أن مبادرة الدولة إيجابية جدا وتستحق التنويه ، وقبول المبادرة إيجابي جدا ويستحق التنويه أيضا ، بدلا من لعبة شد الحبل ؛ وكلاهما – أي الدولة في شخص إدارة السجون وناصر – يندرج ضمن التعبير عن حسن النية لتدويب أحجار الجليد القابعة بين الطرفين . إنه توجه حكيم من الدولة ومن ناصر معا نحو تقوية قنوات التواصل بفضل أنسنة الفهم وتجاوز سوء الظن بمنأى عن التعاطي القانوني الجاف نحو معانقة منطق أنسنة الفهم والسلوك .

الملاحظة الثانية: السماح لناصر الزفزافي بحضور مراسيم تشييع والده الفقيد ، في هذا السياق الذي يشهد هجومات عدوانية على المغرب من جريدة لوموند التي تخدم أجندات مسمومة لتيار الإستعمار القديم – الجديد داخل الإليزي الذي يرفض منحى التقارب بين فرنسا والمغرب منذ زيارة إيمانويل ماكرون للمغرب والإعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء ، يصنَّف موقفا متعاطفا من الدولة مع ناصر الزفزافي بما يستحق الإشادة . إن المغرب مستهدف بحرب استنزاف معلوماتي انسيابي تخوضه دواليب الجناح المتطرف بالدولة العميقة لفرنسا بواسطة هجومات معلوماتية غاشمة تستهدف أركان الدولة المغربية التي يشهد لها العالم بالقوة والصلابة والتمكن . والملاحظة هنا تسجِّل الخدمة الكبيرة التي قدمها ناصر الزفزافي عبر كلمته المتزنة خلال التفاعل مع جمهور المعزِّين ، وهي كلمة تستحق التنويه لكونها ضربت في العمق أعداء الوطن الذين كانوا ينتظرون من ناصر ما يغذي البروباغندا المسمومة لأعداء الوطن بالداخل والخارج لمزيد من استنزاف الدولة المغربية إعلاميا . ومفروض استراتيجيا على المغرب حسن التعاطي مع الكلمة في إدارة الصراع مع لوبيات الحرب على المغرب من فرنسا واسبانيا والجزائر ومن الإمارات العربية المنخرطة أحيانا في معارك البحث عن الشرعية المفقودة لنظام بلا تاريخ في معرض الغيرة الباطولوجية من المشروعية البارزة التي يمتلكها المغرب ولا تتاح لغيره . أخلص إلى أن حضور ناصر الزفزافي مراسيم تشييع جثمان والده أفاد المغرب كثيرا في هذه الظرفية التي تسائل كل القوى الحية بالمغرب لاستنهاض الهمم للدفاع عن المغرب ضدا على بارونات الفتنة المتواطئين في حلف واحد يمتد من الإليزي عبر لوموند ، نحو المرادية الراعية لأبواق الخارج ، إلى الإمارات والتربص الناعم بمغرب الشرعية والمشروعية .

الملاحظة الثالثة: إن تصريح ناصر الزفزافي بأن ” الوطن أولا وأخيرا بصحرائه وشرقه وغربه وشماله ” مفيد للغاية ويقطع الطريق بقوة وصلابة على من يمتطي صهو الإختلاف ما بين مجموعة ناصر من معتقلي الحسيمة والدولة ، وهم دعاة الإنفصال من فئة قليلة من ” ريافة ” النزعة العدائية الذين تساندهم رشاوي الجزائر بديار المهجر بزعامة مرتشي الطابور الخامس المسمى يوبا الغذيوي الأداة الخبيثة بين مخالب طابور العسكر السياسي وتيار الإستعمار بالإليزي . إن تصريح ناصر قوي جدا لكونه نسف كل ادعاءات أعداء المغرب الذين يبحثون دائما عن تكريس الحقد في صفوف بعض ” ريافة ” ( الأقلية الناقمة ) ضد الدولة ، وهو ما نجح خطاب الوداع في محج أحمد الزفزافي في نسفه بقوة لصالح المغرب الموحد ؛ وبالتالي يشفع لمعتقلي الحسيمة جميعا وفي مقدمتهم ناصر عبر تسوية لا يعجز المغرب الرسمي عن استعجالها لصالح أبنائه من الحسيمة وضدا على طابور الخونة هنا وهناك .

الملاحظة الرابعة: إن منح قدر كبير من الحرية لناصر الزفزافي في التحرك أثناء حضور مراسيم العزاء والدفن يفيد الثقة الكبيرة التي وضعتها فيه المندوبية العامة لإدارة السجون وهي تمثل إرادة الدولة ، بحيث يظهر ، من خلال رصد ملامح قوات حفظ النظام وملامح ناصر نفسه ، أن جسور الثقة صلبة وهو ما نجح فيه كل من ناصر أولا الذي يراكم بنضج وثانيا المندوبية العامة التي نجحت في تلطيف مَناخ الوشائج مع مجموعة معتقلي الحسيمة بقيادة ناصر . لذلك ظهر ناصر محاطا بعناصر أمنية من مختلف الرتب كل هدفها هو حماية الرجل أكثر من مراقبته ، بمعنى الإنتقال من ” الخوف ” منه إلى الخوف عليه ضمن علاقة إيجابية تشكلت وبدأت تنقشع من خلال الخطبة المفيدة من على منصة منزل أحمد الزفزافي الفقيد . إن كل هذا مناط تقدم كبير يبشر بالخير في إدارة العلاقات مع معتقلي الحسيمة ، وييشر بالطي النهائي لهذا الملف قريبا.

الملاحظة الخامسة: تأكيد مجموعة معتقلي الحسيمة رفضهم لما أقدم عليه جزء من المشاركين في مراسيم الدفن من رشق القوات العمومية يؤكد تقدما كبيرا في ضبط العلائق ما بين مجموعة ناصر والدولة معياريا على أساس الثقة . بحيث بدل أجواء اللاثقة أضحى الجميع مقتنعا بضرورة توطيد الثقة وقطع الطريق أمام كل من تسول له نفسه تغذية الخلاف خدمة لأجندات بئيسة توظف ناصر ومجموعته للمساس بالدولة ولدحض كل فرصة ترنو حلحلة الملف لصالح المغرب عامة . بمعنى ؛ يبدو أن ناصر يعي جيدا وجود سماسرة الملف ربما من بعض بني جلدته ، أو من القوى المستثمرة في حطب جهنم من الحركات الراديكالية التي تقتنص كل فرصة مواتية للنيل من الدولة عبر التعبير عن دعم خصومها ضمن لازمة ” عدو عدوي صديقي ” . لقد نجح ناصر في فهم تناقضات السياق ، ولا شك أن الدولة فهمت أيضا ، لهذا مطلوب أقصى درجة الحكمة من الدولة لقطع الطريق على سماسرة الأزمات ، ولسحب البساط من تحت أقدام طابور الفتنة بالداخل وبالخارج .

وبناءً على ما سلف، أختم بهذه الإستنتجات كتوصيات لا بد منها:

– بصرف النظر عن كل حيثيات ” حراك ” الريف ، أعتبر أن خطاب ناصر الزفزافي في ” حجة الوداع ” يشفع له ويدفع في اتجاه حسم هذا الملف الذي سيكون مفيدا جدا استراتيجيا للمغرب ضد عدة أعداء في مقدمتهم تيار الإستعمار القديم – الجديد داخل الإليزي الذي يستغل « حياد » الصحافة الفرنسية للمساس بالمغرب في أركانه الأساس ، ثم حكام المرادية الذين يتدخلون في كل شيء عبر رشاوي ضخمة لشراء ذمم « الصحافة المستقلة » للنيل من المغرب ، وكذا الحركات الراديكالية التي حضرت مراسيم العزاء لالتقاط الصور ضمن لعبة أسلمة الفتنة وسحب البساط من تحت سلطة الدولة عبر استغلال ملف المعتقلين ، وهو ما نسفه ناصر بخطاب أعترف أنه يستحق التنويه.

– إن عبارة ” الوطن أولا وأخيرا ، وهو المغرب بصحرائه وشرقه وغربه وشماله ” ، يفيد الإنتقال الواعي من مركزية الريف نحو مركزية الوطن ضمن تحول كبير عنوانه المراجعات الناعمة ، وهو ما يؤكد وعي ناصر الزفزافي الكبير بالإستغلال البشع الذي يطال ملفه من لدن دعاة الفتنة المسندودة من عدة أطراف منها المخابرات الخارجية للعسكر السياسي بالمرادية ، وتيار الإستعمار القديم – الجديد بفرنسا المعادي لتقارب باريس – الرباط في ملف الصحراء المغربية ، وبعض الأجنحة العنصرية بإسبانيا ؛ سيما أن دول شمال البحر الأبيض المتوسط تضيق درعا بنجاحات المغرب الذي يخترق افريقيا اقتصاديا ويرتب علاقات جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية – بدل النمطية الجافة مع محور باريس – مدريد وعلى قاعدة رابح – رابح بما يقض مضجع الباطرونا المالية بفرنسا التي تتنفس الصعداء من اختراق المغرب لإفريقيا، وهو ما خلق تقاربا بين تيار الإستعمار داخل الإليزي وعسكر المرادية . وكل هذا يدفع بقوة نحو الإعتراف بذكاء ناصر الزفزافي الذي قطع الطريق بخطاب تاريخي دق به أخر مسمار في نعش حركة يوبا الغذيوي التي تمتطي صهوة ملف الحسيمة للتحريض ضد الدولة ولزرع بذور الفتنة باسم العصبية القبلية التي تغذيها أموال المرادية وتسوق لها ” صحافة ” البروباغندا المسمومة بإسبانيا وفرنسا وفي قلب بلدان أروبا الغربية القابعة في جب توازنات الخوف من صعود المغرب كرقم مهم في معادلة الإقتصاد الأخضر بإفريقيا .

– على الدولة حقيقة حسن استثمار هذا الإنفراج الذي خلقه موت الفقيد الزفزافي الأب بفضل ذهاء الزفزافي الإبن وفق معادلة دقيقة جدا لصالح المغرب . فماذا لو كان خطاب الزفزافي مخالفا لما صرح به !! ألن يكون مادة دسمة لتيار الإستعمار بالإليزي ، ولجناح الحرب بالمرادية ، ولأعداء المغرب من الداخل من مقتنصي فرص الخلاف لصب الزيت في النار ، وكذا لأبواق معارضة الخارج الذين يمارسون الإبتزاز ضد المغرب بإيعاز من لوبيات الفوضى الخلاقة في بلدان أروبا وبشمال القارة الأمريكية وبدولة الفتنة الناعمة بالخليج العربي؟

أستنتج ختاما أن ما عبرت عنه الدولة عبر المندوب العام لإدارة السجون حيال ناصر الزفزافي يشكل إشارة قوية من المغرب الرسمي لأنسنة فهم ملف معتقلي الحسيمة ، كما أن ما عبر عنه ناصر الزفزافي في مشهد مؤثر مِن على شرفة منزل والده الفقيد من خطاب ينتصر للوطن أولا وأخيرا يفيد مد اليد للدولة ، إضافة إلى ما عبرت عنه أصوات مغربية كثيرة ترجو حلحلة الملف ؛ كلها إشارات علينا جميعا كمغاربة حسن استيعابها في الإتجاه الذي يخدم مصالح المغرب العليا ، ذلك أن قطع الطريق أمام بارونات الفتنة التي تشن حرب استنزاف نفسي على المغرب هدفه التشكيك في مؤسسات الدولة كشكل من أشكال ضرب المغرب في مصالحه القومية . إن الإفراج على ناصر الزفزافي بعفو سامي سيكون ضربة موجعة قاضية لأعداء المغرب بالداخل والخارج في هذا السياق الذي تشتد فيه مناورات الأعداء بما يقتضي من المغاربة جميعا دولة وشعبا تقوية اللحمة الوطنية ورأب الصدع بين الأشقاء لقطع الطريق على مرتزقة الفتنة . ونظن خيرا في القريب العاجل لأن حكمة الدولة لا ريب ستكون في مستوى الإنتصار لمصالح المغرب على قاعدة التلاحم بين أبناء الحضن الواحد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *