رحلة العمر: عمرة التمتع.. هكذا يبدأ الحجاج المغاربة رحلتهم الروحانية (الحلقة 4)

سلسلة رحلة العمر.. انطباعات حاج مغربي

الحج ليس مجرد سفر أو تنقل بين شعائر وأمكنة، بل هو عبور روحي عميق يعيد صياغة علاقة المسلم بربه ونفسه والعالم من حوله، فمنذ أن نادى الخليل إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج، ظل هذا الركن العظيم يجمع المسلمين من كل فج عميق، في مشهد مهيب تتجلى فيه وحدة الأمة ومساواتها أمام الله.

في هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “العمق”، يوثق الحاج المغربي أحمد الطلحي، المنحدر من مدينة طنجة والخبير البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية، تفاصيل رحلته إلى الديار المقدسة خلال موسم 1446 هـ، بعد سنوات طويلة من الانتظار والدعاء.

بين الشوق قبل السفر، والسكينة في المشاعر، والمواقف المؤثرة في عرفات والطواف، يقدم الطلحي شهادة صادقة وتأملات روحية وإنسانية وتنظيمية، يشارك من خلالها القارئ مواقف لا تُنسى، ونصائح قد تعين المقبلين على هذه الفريضة العظيمة.

ـــــــــــــ

الحلقة الرابعة: هكذا يبدأ الحجاج المغاربة رحلتهم الروحانية

1- الطرق الثلاث لأداء فريضة الحج:

هناك ثلاث طرق لأداء فريضة الحج: الإفراد، والقران، والتمتع

– الإفراد: حج فقط بدون عمرة، حيث يقول عند إحرامه “لبيك اللهم حجاً”

– القران: حج وعمرة معاً، بحيث يؤدي الحاج مناسك العمرة ويبقى في إحرامه إلى أن يتحلل من الحج 

– التمتع: وهي عمرة ثم حج، مع تحلل بينهما، حيث يُحرم الحاج في البداية لأداء مناسك العمرة، ثم يتحلل، ويبقى لفترة من الزمن، ثم يُحرم بالحج بعد ذلك. وسمي “تمتعاً” لأن الحاج يتمتع بمحظورات الإحرام بين العمرة والحج. ويقول الحاج عند إحرامه للعمرة “لبيك اللهم عمرة متمتعا بها إلى الحج”.  

ومن المعلوم، أن أغلب الحجاج المغاربة إن لم يكن كلهم، يحجون بالتمتع. ذلك لأن جميع الرحلات، سواء عبر المدينة المنورة أو المباشرة إلى مكة المكرمة، يكون هناك في برنامجها فاصل زمني بين العمرة وبداية مناسك الحج. فمثلا، في هذا العام كانت آخر رحلة جوية إلى الديار المقدسة يوم 2 يونيو 2025 الموافق ل 6 ذي الحجة 1446، أي قبل يومين من يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة واليوم الأول من أيام الحج.

2- الإحرام في الطريق بين المدينة المنورة ومكة المكرمة:

بعدما اغتسلنا غسل الجنابة وقمنا بتقليم الأظافر وحلق شعر الإبطين والعانة ولبسنا لباس الإحرام، وصلينا الصبح في المسجد النبوي وسلمنا على رسول الله ﷺ سلام الوداع آملين الرجوع قريبا إن شاء الله إلى مدينة الرسول ﷺ، وبعد تناول وجبة الفطور اتجهنا في الحافلة إلى مكة المكرمة. وهي تبعد عن المدينة ب434 كلم وتستغرق الرحلة بالحافلة أكثر بقليل من خمس ساعات بدون احتساب أوقات التوقف.

عند انطلاق الحافلة طلب مني أخذ الميكروفون وتذكير الحجاج بدعاء السفر، وبالفعل ردد معي الحجاج دعاء السفر، وطلبت منهم بعد ذلك الدعاء في أنفسهم بأن يكتب لهم زيارة المدينة من جديد وهم متيقنين بالاستجابة. كما شرحت لهم شروط الإحرام وكيف نصلي ركعتين في الميقات وما معنى الميقات…

المحطة الأولى في رحلتنا هي أبيار علي حيث ميقات أهل المدينة على بعد 10 أو 12 كلم عن المدينة المنورة، ويسمى هذا الميقات “ذو الحليفة”. والميقات هو المكان الذي يتم فيه الإحرام، ولمكة المكرمة خمس مواقيت مكانية حددها النبي ﷺ، وهي:

– ذي الحليفة:

لأهل المدينة ومن يمر بها، وتبعد عن مكة حوالي 450 كلم، وتسمى أيضًا “أبيار علي” 

– الجحفة:

لأهل الشام ومصر والمغرب ومن يمر بها، وهي قريبة من رابغ وتبعد عن مكة حوالي 187 كلم 

– قرن المنازل:

لأهل نجد ومن يمر بها، ويسمى الآن “السيل الكبير” ويقع شمال الطائف ويبعد عن مكة حوالي 75 كلم 

– يلملم:

لأهل اليمن ومن يمر بها، ويبعد عن مكة حوالي 120 كلم جنوبًا 

– ذات عرق:

لأهل العراق ومن يمر بها، ويبعد عن مكة حوالي 100 كلم شرقًا 

حينما وصلنا أبيار علي، جددنا الوضوء، وصلينا ركعتين، قرأنا في الركعة الأولى كما هو مسنون بسورة الكافرون وقرأنا في الركعة الثانية بسورة الإخلاص، ثم صعدنا الحافلة. وفيها طلبت من الحجاج أن يرددوا معي نية الإحرام، وهي “لبيك اللهم عمرة، متمتعا بها إلى الحج، لا رياء فيها ولا سمعة، اللهم إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني”. وبعدها أشرت إليهم لرؤية حدود الميقات وهي عبارة عن أقواس بنتها السلطات السعودية كعلامات لحدود الميقات، وأعطيتهم نبذة عن قصة أبيار علي: فعلي هو سلطان دارفور في السودان علي بن دينار، الذي حينما جاء إلى ميقات ذي الحليفة في عام 1898 وجده مكانا مقفرا، فحفر فيه بئرا وأعاد بناء مسجد ذي الحليفة (ويسمى أيضا مسجد الشجرة ومسجد الميقات) الذي صلى فيه الرسول ﷺ حينما سافر من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة، وسمي بعد ذلك بمسجد “أبيار علي”.

لما انطلقنا في اتجاه مكة المكرمة بدأنا بالتلبية، عملت أولا على ترديدها على الحجاج في البداية كلمة كلمة وهم يرددون بعدي، ثم شرحت لهم معانيها، وبعدها بدأنا بترديدها جميعا ومجموعة بدون تقطيع.

والصيغة المشهورة للتلبية هي: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”. ولبيك اللهم لبيك تعني حسب أهل العلم “إجابة لك يا الله إجابة بعد إجابة”. وهي سنة مؤكدة في الحج. ويستحب للحاج والمعتمر أن يكثر من ترديدها، من حين إحرامه إلى وصول مكة المكرمة بالنسبة للمعتمر، وإلى رمي جمرة العقبة الكبرى والحلق يوم النحر بالنسبة للحاج.

وهكذا، وطول الطريق لم نتوقف عن التلبية، والحمد لله، مع بعض التوقفات للاستراحة أو للموعظة. ومن المواضيع التي وفقني الله إليها وتحدثت فيها للحجاج: أولا، قصة الهجرة النبوية ومعانيها والدروس المستفادة منها، وثانيا، مناسك العمرة ورمزية كل عمل من أعمال العمرة والحج.

وبالنسبة للصلاة في الطريق، اقترحت على الحجاج ان نصلي جمع تأخير الظهر والعصر في مكة حتى نفوز بالأجر المضاعف.

حينما وصلنا مكة، بعد حوالي سبع ساعات ونصف من السفر، توقفنا عن التلبية. ولما وصلنا إلى الفندق، وقبل أن ننزل من الحافلة ألبسوا كل حاج في معصمه سوارا من البلاستيك فيه معلومات عن الشركة المسؤولة عن تقديم الخدمات للحجاج المغاربة.

وبعدما استلمنا غرفنا، وصلينا وأخذنا قسطا من الراحة، اتجهنا إلى المسجد الحرام. وبعدما صلينا المغرب ثم العشاء، قمنا بأداء مناسك العمرة.

3- أداء مناسك العمرة:

بدأنا مناسك العمرة في العاشرة والنصف ليلا وانتهينا منها بنصف ساعة بعد منتصف الليل، أي لمدة ساعتين، والحمد لله لم نلق صعوبة في أدائها بالرغم من التعب والإرهاق الذي كنا نعاني منه بسبب السفر والإجراءات الماراطونية لتوزيع الغرف (سنرجع للحديث عن الموضوع بتفصيل في مبحث خاص). 

ومناسك العمرة، بعكس مناسك الحج، وخلافا لما تعتقده نسبة كبيرة من المسلمين، تتم كلها داخل المسجد الحرام، وهي كالتالي:

– الإحرام: وهو أول ركن من أركان العمرة الثلاثة. وهو نية الدخول في العمرة، ويكون من الميقات المحدد، كما بينا ذلك، بل هو من الواجبات. ولباس الإحرام هو يستر العورة فقط، ورمزيته هي والله أعلم تكمن في أن المعتمر أو الحاج يكون كما ولدته أمه. ويحظر على المحرم والمحرمة ارتكاب عدة أمور، منها: قص أو حلق الشعر أو الأظافر، استخدام الطيب، لبس المخيط وتغطية الرأس بالنسبة للرجل، تغطية الوجه وارتداء القفازين بالنسبة للمرأة، الصيد، عقد النكاح، الجماع ومباشرة النساء بشهوة.

– الطواف: الطواف حول الكعبة سبعة أشواط وهو ثاني الأركان، والشوط يبدأ من الحجر الأسود وينتهي عنده. وعلى الرجال الاضطباع وهو الكشف عن الكتف اليمنى، والرمل لمن استطاع في الأشواط الثلاثة الأولى وهو المشي بسرعة. والحجر الأسود الذي هو حجر من الجنة يقبله الحاج فإن لم يستطع يستلمه أي يلمسه فإن لم يستطع بسبب الزحام يشير إليه، مع الترديد في كل مرة “بسم الله، الله أكبر” ثلاث مرات. والطواف مثل الصلاة، إلا أنه يجوز الكلام فيه، وينبغي أن يكون الحاج أو المعتمر على طهارة. ويمكن فيه قراءة القرآن والذكر والدعاء بما شاء المعتمر ولمن شاء، وأفضل الدعاء فيه “لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير”. وأفضل الدعاء ما بين الركن اليماني والحجر الأسود “ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار”.

ومشهد الزحام والعرق يشبه الحال التي يكون عليها العباد يوم الحشر. طبعا، الازدحام يقل في الطابق العلوي، ويكون تقريبا منعدما في الأسطح. لكن، طول كل شوط في الأعلى يكون ضعف طول الشوط في الصحن، 800 مترا مقابل 400 مترا. كما أن الطواف في الصحن يمتاز بالقرب من الكعبة وإمكانية لمسها والتمتع برؤيتها، لذلك يكون الطلب عليه كثيرا، لدرجة أن السلطات تمنع دخوله خارج أيام الحج لمن لا يلبس لباس الإحرام.

– الصلاة خلف مقام إبراهيم: بعد الانتهاء من الطواف، يصلي المعتمر ركعتي الطواف خلف مقام إبراهيم، وهو المكان الذي توجد فيه آثار قدمي سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما كان يرفع قواعد البيت مع ابنه إسماعيل عليه السلام، يقرأ في الأولى بسورة الكافرون وفي الثانية بسورة الإخلاص. 

– شرب ماء زمزم: ومن السنة وبعد الانتهاء من الطواف التوجه نحو الملتزم، وهو يقع ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة، والدعاء مطولا. وكذلك شرب ماء زمزم بكميات كبيرة وهو ما يسمى بالتضلع. وعند شرب ماء زمزم، وقوفا بعكس المياه الأخرى، يدعو بما شاء، فلقد جاء في الحديث: “ماء زمزم لما شرب له”، والدعاء المأثور هو: “اللهم علما نافعا ورزقا واسعا وشفاء من كل داء”. وبالنظر لما له من فوائد صحية ومن بركة، ينبغي على الحاج والمعتمر أن يشربه في كل وقت، وكنا وأغلب الحجاج نملأ قنينات بمياهه ونحملها معنا إلى الفندق لشربها بشكل دائم. والسلطات السعودية مشكورة توفر ماء زمزم في كل أركان المسجد الحرام وكذلك في المسجد النبوي، وتسمح بشراء قنينات بحجم خمسة لترات في المطار لكل حاج ومعتمر ونقلها مع أمتعته في الطائرة، وطبعا هو مع ثمر العجوة أفضل هدية يقدمها الحاج والمعتمر إلى أقاربه وأصدقائه حينما يعود إلى بلده.

– السعي: أي السعي بين جبلي الصفا والمروة سبعة أشواط، مسافة كل شوط حوالي 395 مترا، اقتداء بسيدتنا هاجر، التي حينما تركها سيدنا إبراهيم عليه السلام في هذا المكان وحيدة مع رضيعها سيدنا إسماعيل عليه السلام بأمر من الله تعالى، بدأ ولدها يبكي من شدة العطش، فكانت تبحث عن الماء ذهابا وإيابا بين الصفا والمروة سبع مرات، إلى أن تفجر عين زمزم من تحت أقدام إسماعيل عليه السلام. لذلك يقوم الرجال بالهرولة مسافة 55 مترا في مكان محدد بأضواء خضراء. ولتفادي الازدحام هناك ثلاث طوابق للسعي.

يقول الحاج أو المعتمر عند بداية السعي: “نبدأ بما بدأ الله به” ويتلو قوله تعالى: “إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم” البقرة 158. والسعي يبدأ من جبل الصفا وينتهي عند جبل المروة، ويدعو عند كل واحدة منها متوجها إلى الكعبة بالدعاء التالي: “لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده”، ويكرر ذلك مع التكبير ثلاث مرات. وما بين الصفا والمروة مثل الطواف يقرأ القرآن ويذكر الله ويدعو بما يشاء ولمن يشاء.

– التقصير أو الحلق: وهو من الواجبات، فللتحلل من الإحرام تقوم المرأة بقص قدر أنملة من شعرها، بينما الرجال يحلقون أو يقصرون، والحلق أفضل كما جاء في السنة. لكن إذا كانت عمرة التمتع يمكن التقصير والحلق حين التحلل الأصغر في الحج. ولما رجعت إلى الفندق بعدما انتهينا من مناسك العمرة، قصر شعري أحد زملائي وقمت أنا كذلك بنفس المهمة له ولحاجين آخرين. وهناك طبعا من يذهب إلى الحلاقين المنتشرين بكثرة في محيط المسجد الحرام.

والخلاصة، أن من ترك ركنًا من أركان العمرة، فإن عمرته لا تصح، ومن ترك واجبًا من واجبات العمرة، فيجب عليه دم أي الهدي وهو التصدق بأضحية.

ـــــــــــ

* أحمد الطلحي: إطار مغربي وخبير في البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية