رحلة العمر: الحجاج المغاربة.. هيمنة المسنين و”معارك المكيفات” (الحلقة 11)
سلسلة توثق تجربة حاج مغربي شكلت لصاحبها رحلة عمر

سلسلة رحلة العمر.. انطباعات حاج مغربي
الحج ليس مجرد سفر أو تنقل بين شعائر وأمكنة، بل هو عبور روحي عميق يعيد صياغة علاقة المسلم بربه ونفسه والعالم من حوله، فمنذ أن نادى الخليل إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج، ظل هذا الركن العظيم يجمع المسلمين من كل فج عميق، في مشهد مهيب تتجلى فيه وحدة الأمة ومساواتها أمام الله.
في هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “العمق”، يوثق الحاج المغربي أحمد الطلحي، المنحدر من مدينة طنجة والخبير البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية، تفاصيل رحلته إلى الديار المقدسة خلال موسم 1446 هـ، بعد سنوات طويلة من الانتظار والدعاء.
بين الشوق قبل السفر، والسكينة في المشاعر، والمواقف المؤثرة في عرفات والطواف، يقدم الطلحي شهادة صادقة وتأملات روحية وإنسانية وتنظيمية، يشارك من خلالها القارئ مواقف لا تُنسى، ونصائح قد تعين المقبلين على هذه الفريضة العظيمة.
ـــــــــــــ
الحلقة 11: الحجاج المغاربة.. هيمنة المسنين و”معارك” المكيفات
1- أغلب الحجاج المغاربة من الشيوخ وكبار السن:
للأسف، لا يزال أغلب الحجاج المغاربة من الشيوخ وكبار السن، حسب ما لاحظته وليس حسب الإحصائيات الرسمية التي لا أملكها وربما هي غير منشورة أصلا (بحثت عنها ولم أجدها). في حين ما لاحظته سواء في العمرة أو في موسم الحج أن هذا الأمر لا ينطبق على الشعوب الأخرى، بل شاهدت ظواهر جميلة، شاهدت الشباب يحج في مجموعات، شاهدت عرسان جدد، شاهدت أسرا مع أطفالهم الذين لا يزالون رضعا أو في سن صغيرة يحملونهم على أكتافهم خلال الطواف والسعي (مع أن السلطات السعودية تمنع مرافقة الأطفال في الحج)، وحتى لا يتيهون يربطون معاصمهم بقيود بلاستيكية متصلة بيد الأب أو الأم (انظر الصورة).
لا تزال فكرة أنه لا يذهب إلى الحج إلا من تقدم في العمر منتشرة أكثر في مجتمعنا، بل يمكن القول إنها أصبحت من الثقافة المغربية الراسخة. وهي كذلك، بدعوى أنه إذا كان الحاج شابا أو الحاجة شابة فإنهما سيرجعان بعد الحج إلى العمل غير الصالح ويكثرا من الذنوب، وكأن الشباب هو مرحلة ارتكاب المعاصي، وكأن الكبار في السن يصبحون ملائكة ولا يرتكبون المعاصي، لذلك عندما يرتكب الحاج المسن بعض المخالفات الشرعية الكل يقسو عليه ويردد العبارة المشهورة “فعل كذا وكذا وهو حاج يا حسرة”. والاعتقاد السائد للأسف هو افعل ما شئت فإن الحج سينسخ ويجب كل الأعمال غير الصالحة، وهذا صحيح إذا حظي حج المرء بالقبول من لدن الله تعالى. قال عليه الصلاة والسلام: “العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كَفّارَةٌ لِما بيْنَهُما، والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزاءٌ إلّا الجَنَّةُ” (رواه أبو هريرة، صحيح البخاري ومسلم)، وقال أيضا: “مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ” (رواه أبو هريرة، صحيح البخاري ومسلم)، أي رجع بدون ذنوب، صفحة بيضاء كما كانت عند ولادته.
الحج للعجزة ومن تقدم في السن ادعاء خاطئ ومخالف للشرع، طبعا تقدم السن ليس مانعا لأداء فريضة الحج، المانع هو عدم الاستطاعة البدنية، فالحج عبادة بدنية ومالية.
صحيح أن السلطات المغربية فرضت مشكورة على الحجاج المسنين أن يكون معهم مرافق يقل سنه عن الخمسين (على أننا وجدنا بعض الحالات بدون مرافق)، وهو قرار جيد، إلا أنه لا بد أن تراعى الحالة الصحية للحاج المسن وغير المسن على حد سواء.
ومن المعلوم أن السلطات المغربية تفرض توفر الحجاج على الشروط الصحية، ولا ترخص للحج إلا لمن توفرت فيهم شروط الاستطاعة البدنية. لكن، لا تزال هناك حالات عديدة لم تكن تتوفر على هذه الشروط الصحية. وكنت شاهدا على حالة وفاة لحاج مسن وبدون مرافق، وكان يعاني رحمه الله من مرض مزمن يتعلق بالقلب، حيث لما تعرض لأزمة لم تنفع معها جراحة قسطرة أجريت له وتوفي بعدها بساعات.
كما أخبرني بعض الحجاج أنهم لم يتلقوا فحوصات طبية قبل مجيئهم للديار المقدسة، وتم الاكتفاء فقط بتلقيحهم. ومنهم من تلقى فحوصات غير كافية. لكني شخصيا، والشهادة لله، تلقينا فحوصات لا بأس بها، وقدمنا للجنة الطبية تقارير الأطباء الذين يتابعون حالاتنا، كما قدمنا الأشعة على الصدر وعددا من تحاليل الدم.
وأقترح أن تجرى الفحوصات الطبية قبل أداء مصاريف الحج، وفي تواريخ بعيدة عن تواريخ الرحلات الجوية، وأن يتم توحيد منهجية ومستوى الفحوصات الطبية.
لكن الأدهى من انعدام الاستطاعة البدنية بسبب العجز والتقدم في السن وغيرهما، هو وجود حالات لحجاج فاقدين للاستطاعة النفسية والعقلية. لقد عايشت ووقفت شخصيا على بعض الحالات التي تعاني من مرض الخرف والزهايمر، كان أحدهم لا يتكلم أصلا وفاقد للإدراك وتجره زوجته كما تجر طفلا صغيرا، وكانت دائما تبحث عنه في مخيمات عرفات ومنى. ومريض آخر لم يكن يلتزم بالمناسك، فتجده يخلع لباس الإحرام ويلبس لباسه العادية وهو لم يتحلل بعد، وكان لا يغادر الفندق طول الوقت، ومرة رمى علينا حذاءه… وفي مطار جدة شاهدنا أحد الحجاج الجزائريين يضرب الناس بحذائه وهو في حالة هستيرية. وحالات كثيرة كان الحجاج يقصون علينا حكاياتهم. بل سجلت حالات اختفاء لحجاج مسنين، في الغالب مرضى نفسيين أو مرضى بالخرف والزهايمر.
ووالدتي عانت معاناة شديدة مع مرافقتها في الغرفة في الحج، حيث كانت امرأة فاقدة للعقل بتاتا، وتاهت بعد ذلك في شوارع مكة لأيام.
وعليه، فإن الفحوصات الطبية البدنية غير كافية، ويلزم الاستعانة بالأطباء النفسانيين وأطباء الأمراض العقلية. فغياب العقل مانع لأداء فريضة الحج، حيث رفع القلم على غير العاقل، وحيث إن العقل من شروط التكليف الشرعي الأساسية بالإضافة إلى الإسلام والبلوغ.
وعلى العموم، فإنه لا بد من تثمين المجهودات التي تقوم بها السلطات المغربية لكي يتم أداء المشاعر على أحسن وجه، وعلى كل الأعمال والإجراءات التي تقوم بها لراحة الحجاج. وهنا لا بد من الإدلاء بشهادة حق في البعثة الطبية المغربية في الحج، حيث اضطررت مرتين لزيارتها بسبب المرض، فأشهد لها على حسن استقبالها للحجاج المرضى وحسن معاملتهم، وكانت الأدوية تعطى للحجاج مجانا. ما ينبغي إضافته لتحسين وجودة خدماتها أكثر، هو إمدادها مستقبلا ببعض التجهيزات الطبية، فالفحوصات في الغالب تتم بدون أجهزة، وكذلك ينبغي الزيادة في رصيد الأدوية كما ونوعا، بحيث هناك أدوية يضطر الحجاج لشرائها، ومعلوم أن سعر الدواء مرتفع جدا في الديار المقدسة مقارنة بأسعار المغرب، ولقد عانيت شخصيا من ذلك.
2- قصة المغاربة مع مكيفات الديار المقدسة:
لا يكاد أحد من الحجاج والمعتمرين المغاربة ينجو من الإصابة بنزلة برد حادة بسبب المكيفات. وقد تستمر المعاناة من الإصابة إلى أسابيع وحتى بعد الرجوع إلى الوطن، وهذا ما حدث لي شخصيا، سواء في العمرة أو في الحج.
والسبب في إصابة المغاربة بهذا المرض هو عدم تعودنا على المكيفات، فأغلب مناطق المغرب مناخها معتدل، وحتى المناطق القارية لا نجد فيها حرارة مرتفعة طول الوقت، والناس تتحملها نسبيا، أو تستعمل الوسائل التقليدية كالمروحات اليدوية، وقليلا ما تستعمل المكيفات والمروحات الكهربائية.
ويمكن القول إن جل المغاربة لهم موقف سلبي من المكيفات، ويظهر ذلك في الديار المقدسة، إذ تجدهم يفرون من الأماكن التي توجد فيها مكيفات، فيفضلون الصلاة في ساحات المسجد الحرام والمسجد النبوي بدل الصلاة داخلهما. وكثيرا ما ينشب الخلاف بين الحجاج والمعتمرين المغاربة في غرف الفنادق والحافلات ومخيمات عرفات ومنى، بسبب المكيفات، منهم من لا يريدها إطلاقا، ومنهم من يريدها بأقل درجة مما هو سائد في هذه البلاد.
والتفسير العلمي للإصابة بأمراض الجهاز التنفسي في الديار المقدسة، هو تعرض الجسم للبرودة الشديدة بعد الحرارة المرتفعة. ويمكن تفادي الإصابة بهذه الأمراض بعدم رفع مستوى البرودة، وعدم تشغيل المكيف مباشرة بعد الدخول إلى الغرفة بمعنى عدم الانتقال السريع من مكان حار إلى مكان بارد…
وما ينبغي تسجيله هو وجود مبالغة كبيرة في الديار المقدسة، سواء في الاستعمال الواسع للمكيفات، وسواء في تشغيلها على درجات جد منخفضة. وأتساءل دائما لماذا ذلك، مع العلم أن الدرجات المتوسطة كافية لكي لا يشعر المرء بالحر. كما أتساءل كيف أصبح سكان هذه البلاد متعودين على المكيفات ولا يستطيعون العيش بدونها مع العلم أن جيناتهم تجعلهم معتادين على الحر أكثر.
ـــــــــــ
* أحمد الطلحي: إطار مغربي وخبير في البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية
اترك تعليقاً