هل فقد الغرب السيطرة على كيان زرعه في “الشرق الأوسط”؟

أن تستمر إبادة الكيان الإسرائيلي للفلسطينيين في غزة على يد على الهواء مباشرة، بدعم مباشر ومطلق من الإدارة الأمريكية وسيف الفيتو الذي تسلطه على رقبة الغزيين، وأن لا تتحرك قادة دول الغرب بخطوات فعلية تُوقف مجازر الكيان وتوقف الحرب على الشعب الفلسطيني، فهذا تواطئ مع الكيان.
وأن تكتفي دول غربية بخطوات سياسية رمزية كالاعتراف بالدولة الفلسطينية، دون خطوات تجبر الكيان الإسرائيلي على وقف شلال الدم بفلسطين، فهذا دليل على عدم وجود إرادة حقيقية لوقف الإبادة لأهل غزة والحرب على فلسطين.
وأن يتجرأ مندوب الكيان في مجلس الأمن قبل أياام، داني دانون على التهديد علنا وتحت قبة المجلس بمهاجمة أي مكان بدعوى مطاردة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ويوجه أصبعه للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا مستهترا ومستهزئا بهم لأنهم أدانوا – ولو من باب رفع العتب- العدوان على قطر والوفد المفاوض لحماس، ويذكرهم بمهاجمتهم العراق وباكستان وغيرهما. فهذا مؤشر على أن الدول الغربية باتت عاجزة عن التحكم في الكيان الذي رعته وحمته وسَمّنَته، وأنه بات خارجا عن سيطرتها وأجندتها نهائيا، وبدأ يحرجها مع حلفائه. بل ربما يصبح خطرا عليها هي نفسها.
وأن يرسل الرئيس الأمريكي ترامب وزير خارجيته روبيو إلى فلسطين المحتلة، ويشارك وسفير واشنطن هناك في حفل ديني مع رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي عند حائط البراق، ويفتتحون نفقا تهويديا في مدينة القدس الشرقية، بالتزامن مع قمة عربية إسلامية، حول هجوم الكيان ذاته على أرض قطر بحجة استهداف الوفد المفاوض لحماس، فهذا يعني أن واشنطن ليس لها مشكلة فيما فعل الكيان ولم يقلقها منه، بل رأته فرصة للسلام وماعدا ذلك مجرد كلام فارغ للضحك على الدقون.
وأن يمزق مندوب الكيان لدى الأمم المتحدة جلعاد أردان ميثاق الأمم المتحدة داخل قاعتها، وتحت قبتها وأمام العالم لأن عددا كبيرا من الدول اعترف بالدولة الفلسطينية، فهذا يعني أن الكيان يؤكد بشكل رسمي عدم اعترافه بالمؤسسات الأممية بما فيها المؤسسة التي اعترفت بكيانه الغاصب لأرض فلسطين. والشخص نفسه سبق له ان قال السنة الماضية إنه “يجب إغلاق مبنى الأمم المتحدة ومحوه من على وجه الأرض”.
والمنطق يقتضي أن يصبح هو نفسه عاريا من “الشرعية” ويسحب ذلك الاعتراف الذي تم في ظروف كان فيها العالم لعربي والإسلامي مُغيبا.
وتجيز المادتان 6 و25 من ميثاق منظمة الأمم المتحدة إلغاء عضوية أي عضو يتمرد على قرارات مجلس الأمن. وتقول المادة 5: “يجوز للجمعية العامة أن توقف أي عضو اتخذ مجلس الأمن قِبَله عملا من أعمال المنع أو القمع”.
وزادت المادة 6 من الميثاق “إذا أمعن عضو من أعضاء الأمم المتحدة في انتهاك مبادئ الميثاق جاز للجمعية العامة أن تفصله من الهيئة بناء على توصية مجلس الأمن”. وطبعا هذه الأخيرة مستحيلة ولن تسمح بها الولايات المتحدة التي لا تتردد في استخدام حق النقض (الفيتو) لحماية “إسرائيل” كما فعلت مساء الخميس 18 سبتمبر 2025 ضد مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يدعو لوقف إطلاق النار في غزة.
المؤشرات المذكورة مع مؤشرات أخرى، وأبرزها حديث نتنياهو وسموتريتش وبن غفير عن استحالة قيام الدولة الفلسطينية، وإبادة غزة لاحتلالها وتهجير ما تبقى من أهلها، والسعي لإقامة “إسرائيل الكبرى”، تشير بوضوح إلى أننا لم نعد أمام كيان و”دولة” كانت توصف بأنها وظيفية للغرب، زرعها في قلب العالم العربي والإسلامي، وما يسمونه “الشرق الأوسط” لتخدم أهدافه وأجندته، ووكيلا لرعاية مصالحه في هذا العالم، وفقا لتحليل المفكر عبد الوهاب المسيري، بل أمام كيان أصباح عنده فائض من القوة يستعلي بها عمن زرعوه في المنطقة ورعوه دعموه، لأنه بات يتحكم عبر لوبياته في قرارهم أكثر من أي وقت مضى وخاصة في إدارة ترامب.
والسؤال المطروح هنا، أليس لهذا الوضع ارتدادات على دول الغرب تحديدا في علاقتها مع شعوبها ونخبها؟ والجواب واضح في شوارع لندن وواشنطن وباريس ومدريد وغيرها من العواصم، والجامعات واحتجاجات الطلبة (صانعو قرار المستقبل) وفئات عديدة؛ تظاهرات ومسيرات واحتجاجات على ما يجري من إبادة في غزة، ودعوة للمقاطعة الاقتصادية والأكاديمية، ورفض استقبال قيادات الكيان الإسرائيلي، ومطالب بمحاكمتهم وغير ذلك.
باختصار إنها نهاية السردية الصهيونية حول أرض فلسطين في الشارع الغربي باستثناء قلة مؤدلجة، بحيث لم تبق إلا عند جزء كبير من الطبقة الحاكمة وعدد من المؤسسات الإعلامية الكبرى، بمعنى آخر حصل تحول كبير في المزاج الغربي الشعبي والأكاديمي وحتى الرسمي في بعض الدول (إسبانيا هولندا وغيرهما). وبات هناك تعاطف كبير جدا مع السردية الفلسطينية أعطت للقضية الفلسطينية روحا ونفسا جديدين وبعد عالميا أميما، بعدما كان الكيان الإسرائيلي يعتقد أنه صفّى القضية وأهال عليها التراب بمسارات مختلفة أبرزها مسار التطبيع.
وهذا التحول في مسار القضية طبيعي، لأن أي عاقل وأي إنسان ماتزال فيه ذرة إنسانية له اطلاع ولو بسيط على التاريخ، سيتساءل وهو يشاهد إبادة شعب على الهواء مباشرة لأنه متمسك بأرضه، من يقبل أن جهة تريد سرقة أرضه واحتلال بلده وتطرده كليا منه، ولا تقبل حتى بتقاسمه معه، وتسرق تاريخه وكل شيء وتبيده بوحشية، وإذا رفض أو قاوم ينعت بالإرهابي؟
سيتساءل أي عاقل وأي إنسان ماتزال فيه ذرة إنسانية، كيف لكيان داس كل الاتفاقيات التي قبلتها جهات فلسطينية على مضض كاتفاق أوسلو، وأفرغها من محتواها. رفض السلام بالمنطق التفاوضي مع الفصائل الفلسطينية المقاومة من بينها حركة “حماس” التي دخلت الانتخابات والعملية السياسة عام 2006 تحت سقف أوسلو رغم رفضها له. وكان الكيان رفض قبل ذلك السلام بالمنطق العربي الرسمي ممثلا في المبادرة العربية للسلام سنة 2002، وتقضي بإنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليا على حدود 1967 وعودة اللاجئين وانسحاب من هضبة الجولان المحتلة، مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية مع “إسرائيل”.
كيف يمكن القبول بكيان تجاوزت مخططاته ما احتله من فلسطين إلى التهامها كاملة، بالزحف على قطاع غزة والضفة الغربية، وأكثر من ذلك قضم دول الجوار أو يسمى بدول الطوق في إطار تحقيق “إسرائيل الكبرى”. وهناك أسئلة أخرى لا يمكن للمتأمل فيها إلا أن يخرج بخلاصة؛ أن هذا الكيان كيان إحلالي احتلالي لا يؤمن بالسلام مطلقا فأحرى أن يقبله، بل يريد إدخال المنطقة في جحيم صراع يهز استقرارها هزا، وإعادة تشكيلها بحيث يكون هو سيدها الآمر والناهي فيها بالمنطق الديني التلموذي وليس فقط بالمنطق الاستعمار “التقليدي” فقط.
وهنا لابد من التذكير بأن المنطق الذي يشتغل به قادة الكيان الإسرائيلي اليوم، أو الرؤية التي تؤطر قرارتهم وعدوانهم، هي رؤية للصراع وفق القراءة الدينية الصهيونية، – كُتب حولها الكثير والكثير منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي- وليس القراءة اليهودية، لأن هناك مجموعات يهودية ترفض وتدين ما يجري بفلسطين وغزة، وتراه إساءة للدين اليهودي وتعتبر أن “إسرائيل ضد اليهودية”.
وتقوم الرؤية الدينية الصهيونية التي تتحكم في قرارات الكيان اليوم عبر حكومة يمينة متطرفة على مفهوم الاستعلاء والتطهير العرقي والديني. مما يعني أن ما يجري اليوم في غزة من إبادة وقصف لبنان وسوريا هو مجرد “بروفا” لما سيقع مستقبلا في المناطق المشمولة بخريطة “إسرائيل الكبرى”، إذا تُرك الكيان هكذا يعربد كما يشاء في فلسطين
اترك تعليقاً