هل نحتاج إلى سلطة أخلاقية في المغرب؟

يشهد المغرب في السنوات الأخيرة نقاشاً محتدماً حول الانفلات القيمي في الفضاء العمومي والرقمي: تراشق بالألفاظ النابية، محتويات صادمة تستفز الذوق العام، استفزازات متعمدة لرموز دينية واجتماعية، بل وأحياناً عنف مادي ورمزي باسم الحرية.
هذا الواقع يثير إشكاليات فلسفية وقانونية ودينية ومعرفية كبرى:
– هل نحن بحاجة إلى سلطة أخلاقية تضبط السلوك؟
– من يملك شرعية تعريف ما هو أخلاقي؟
– كيف نحمي الفضاء العمومي دون التضحية بالحقوق الفردية؟
– وكيف نضمن أن تكون السلطة الأخلاقية حامية للقيم وليست أداة قمع أو إقصاء؟
هذه الأسئلة لا يمكن فصلها عن خصوصية المغرب كنموذج يجمع بين المرجعية الدينية والمؤسسات الدستورية في إطار إمارة المؤمنين.
1. إمارة المؤمنين: الشرعية التاريخية والدستورية
إمارة المؤمنين ليست مجرد مؤسسة دينية رمزية، بل هي عقد بيعة اجتماعي وروحي بين الأمة والملك، يضمن حماية الدين وصيانة الأمن الروحي (الفصل 41 من الدستور المغربي).
هذا المعطى يجعل أي نقاش حول الأخلاق ليس تقنياً أو محايداً، بل نقاشاً حول كيفية تفعيل هذا العقد الاجتماعي في سياق التحولات المعاصرة.
فالمرجعية الدينية الرسمية تشكل الإطار الذي يمنح أي سلطة أخلاقية مشروعية مؤسساتية ويمنع انزلاقها إلى الفوضى أو التطرف أو الابتزاز الأخلاقي.
2. السلطة الأخلاقية كإشكالية مفتوحة
السلطة الأخلاقية لا تعني بالضرورة شرطة تلاحق الأفراد في حياتهم الخاصة، بل هي منظومة متكاملة تتكون من:
– القانون: تشريعات تحمي النظام العام والحياء العام (مثل الفصل 483 من القانون الجنائي الذي يجرّم الإخلال العلني بالحياء).
– المرجعية الدينية: إمارة المؤمنين باعتبارها الضامن لوحدة الفتوى وضبط الحقل الديني ومنع التوظيف الإيديولوجي للدين.
– المجتمع: الأعراف والقيم المشتركة التي تنظّم العلاقات اليومية وتشكل قوة ناعمة للتربية على الاحترام.
– الثقافة والإعلام: إنتاج بدائل جمالية وإبداعية تعيد تشكيل الذوق العام وتواجه الابتذال الثقافي.
الإشكالية إذن ليست في وجود السلطة الأخلاقية، بل في تحديد حدودها وآلياتها ومنع تحولها إلى أداة وصاية شاملة.
3. المدخل الفلسفي: الحرية بين الفرد والجماعة
النقاش الفلسفي حول الحرية يعود إلى جون لوك وروسو وهوبز:
– لوك رأى أن وظيفة الدولة حماية حقوق الأفراد وحرياتهم.
– روسو اعتبر أن العقد الاجتماعي يهدف إلى التعبير عن الإرادة العامة التي تحقق الصالح المشترك.
– هوبز شدد على ضرورة سلطة قوية تضمن الأمن وتمنع “حرب الجميع ضد الجميع”.
في السياق المغربي، العقد الاجتماعي يتجاوز البعد القانوني إلى بعد ديني-روحي، مما يجعل حماية الدين جزءاً من النظام العام نفسه.
الإشكال هو كيف نوازن بين الحرية السلبية (غياب الإكراه – Isaiah Berlin) والحرية الإيجابية (العيش وفق قيم الجماعة) دون الوقوع في “استبداد الفضيلة” حيث تتحول الأخلاق إلى أداة قمع باسم الفضيلة.
4. المدخل القانوني: تفعيل النصوص بعدالة وشفافية
القانون المغربي يتضمن نصوصاً لحماية النظام العام والحياء، لكن الإشكال يكمن في:
– ضعف التطبيق أو انتقائيته مما يولّد شعوراً بعدم الإنصاف.
– غياب سياسة واضحة للفضاء الرقمي توازن بين حرية التعبير وحماية كرامة الأفراد.
– الحاجة إلى تنسيق بين القانون والمرجعية الدينية حتى لا تصدر أحكام متعارضة مع ثوابت الأمة.
الحل لا يكمن في مزيد من التشدد، بل في تفعيل القانون بعدالة وشفافية حتى يشعر المواطن أن الفضاء العمومي محمي من الفوضى دون انتهاك خصوصيته.
5. المدخل الديني: الشرعية قبل الممارسة
التراث الإسلامي يضع ضوابط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: النصح قبل العقوبة، حفظ الكرامة وعدم التشهير، ومنع أخذ الأفراد لزمام العقوبة بأيديهم.
إمارة المؤمنين تضمن أن يتم تفعيل هذه السلطة الأخلاقية في إطار مؤسساتي منظم وبمنهج وسطي، يجمع بين حماية القيم وحماية الحريات الفردية.
6. المدخل الإبستمولوجي: من يملك تعريف الأخلاق؟
الأخلاق ليست معطى ثابتاً بالكامل، بل تتغير بتغير الزمن والسياق. وهنا يطرح السؤال:
– من يحدد الأخلاق في مجتمع يعيش انتقالاً سريعاً؟
– هل تترك للدولة وحدها؟ أم للأغلبية الاجتماعية؟ أم لمرجعية دينية رسمية؟
البيعة توفر سقفاً مرجعياً يحمي الثوابت، لكنها لا تعفي من حوار مجتمعي مستمر لتحديد “الحد الأدنى” من القيم المشتركة الذي يضمن العيش المشترك ويمنع الانقسام القيمي.
7. المدخل الأنثروبولوجي والمقارن: الفهم قبل الردع
المجتمع المغربي يعيش تحولات عميقة: تمدن سريع، انتشار الفضاء الرقمي، صراع بين أنماط حياة تقليدية وحداثية.
هذا يولّد ما يسميه الأنثروبولوجيون “القلق القيمي” (Value Anxiety).
الحل ليس القمع، بل فهم ديناميات التغيير ودعم الأسرة والمدرسة والإعلام لتوفير بدائل قيمية جاذبة للشباب.
تجارب مقارنة تثبت أن الدول التي توازن بين الهوية والانفتاح هي الأقدر على بناء مجتمع مستقر:
– بعض الدول الأوروبية تجرّم التحريض على الكراهية وحماية القاصرين من المواد الإباحية رغم علمانيتها.
– ودول إسلامية استطاعت تحديث منظومتها الأخلاقية مع الحفاظ على مرجعيتها الدينية الرسمية.
نحو سلطة أخلاقية شرعية وتوافقية
الحل ليس “شرطة أخلاق” جديدة، ولا ترك الفضاء العمومي فوضوياً باسم الحرية، بل بناء سلطة أخلاقية:
– شرعية تستمد قوتها من إمارة المؤمنين وعقد البيعة.
– توافقية يشارك المجتمع في صياغة قيمها المشتركة.
– قانونية تحمي الحقوق وتُفعَّل بعدالة وشفافية.
– تربوية وثقافية تعيد بناء الذوق العام وتقدم بدائل حضارية.
بهذه المقاربة يصبح ضبط الأخلاق جزءاً من حماية الأمن الروحي للمغاربة، ويستعيد المواطن ثقته في أن القانون يحمي كرامته وهويته ويصون حريته في الآن نفسه.
اترك تعليقاً