وجهة نظر

التواصل المفقود وغياب النقد الذاتي.. وجهان لأزمة واحدة داخل الأحزاب

منذ سنوات، ترفع القيادات الحزبية المركزية شعار التواصل والتأطير كمفهوم عميق يُفترض أن يجسد جوهر الممارسة الديمقراطية. خطاب أنيق، يستعمل لغة الإصلاح والتجديد، ويَعِد بإعادة بناء الثقة مع المواطن. غير أن هذا العمق النظري سرعان ما يتبخر حين ننتقل إلى المستوى الترابي، حيث تُفرغ الهيئات الحزبية الجهوية والمحلية هذا المفهوم من محتواه، وتحوّله في أحسن الأحوال إلى شعارات جوفاء، وفي أسوئها إلى أداة للزبونية أو حتى للضغط على المنتخب نفسه.

المفارقة واضحة: الحزب، كفكرة، هو الإطار الطبيعي لمأسسة التواصل. عبر فروعه ومكاتبه، يفترض أن يشرح القرارات العمومية، يفتح فضاءات للحوار، ويؤطر المواطنين في ثقافة الحقوق والواجبات. لكن، ما يحدث عملياً هو العكس تماماً. فما إن تُطوى صفحة الحملات الانتخابية حتى تختفي هذه الدينامية، لتتحول التنظيمات الحزبية إلى ملحقات إدارية صامتة تتلقى التعليمات من المركز، بدل أن تكون قنوات حيّة مع المواطن.

المؤسف أن غياب هذا الدور لا يقتصر على ترك الناخب في مواجهة مباشرة مع المنتخب، بل يتعداه إلى إضعاف مقصود للمنتخب نفسه، ما لم يكن في جعبته مردودية ملموسة يكسر بها معاول الهدم عند ما يمكن وصفه “بالوقت المنسي”.

ففي ظل مؤسسات حزبية جهوية ومحلية غائبة عن التأطير، قد تتحول هذه الهياكل إلى فضاءات للضغط والابتزاز: لا تساند المنتخب في ممارسة مسؤوليته، بل تُرهِن أداءه لصراعات داخلية أو لحسابات ضيقة. في هذه الحالة، يُفقد التواصل مع المواطن معناه، لأن المنتخب لا يجد نفسه مؤطَّرًا ولا محميًا، بل مرتهنًا بهيئات كان يفترض أن تدعمه.

هكذا ينهار المفهوم العميق الذي تؤكد عليه القيادات، و يُمسخ على الأرض إلى مجرد شعارات بلا أثر. المواطن من جهته يلتقط الرسالة سريعاً: الحزب الذي وعده بالشفافية واللقاءات الدورية يختفي بعد الاقتراع، تاركاً المجال لعلاقة فردية هشة بين المواطن والمنتخب. وفي غياب الإطار الحزبي المؤسساتي، تصبح الديمقراطية المحلية مجرد تبادل خدمات موسمية.

رغم الخطاب البراق الذي ترفعه بعض القيادات الحزبية، بشعارات من قبيل “التواصل الدائم” أو “تواصل القرب”، إلا أن الممارسة الميدانية تكشف عكس ذلك تماماً. فبدل اللقاءات المفتوحة مع المواطنين، تُعقد اجتماعات مغلقة لا يحضرها سوى الموالين.

وبدل نشر المعطيات وتوضيح القرارات، يسود الغموض المقصود. أما التأطير المفترض، فيتحوّل إلى آلية للتحكم في المنتخب واستعماله كورقة ضغط.

هكذا يتحول الحزب من فضاء للتواصل والحوار إلى أداة للانغلاق، وتضيع معه فرص بناء الثقة بين المواطن ومؤسساته التمثيلية. لهذا، فإن نقد الهيئات الحزبية الجهوية والمحلية ليس ترفاً، بل ضرورة لإعادة تعريف السياسة نفسها.

فبدون هياكل نشيطة وشفافة ومؤطرة، ستبقى العلاقة بين المنتخب والناخب رهينة المزاج الفردي والظرفية. ولن تنجح أي إصلاحات مؤسساتية ما لم يُكسر هذا النمط الذي يكرس الفراغ من جهة، ويغيب التأطير لتأخذ مكانه اعتباراتٌ ضيّقة ومصالح آنية من جهة أخرى.

التجارب الدولية أثبتت أن التواصل المؤسساتي لا يُبنى بالخطاب، بل يقوم على ضوابط وآليات للتواصل : تقارير إلزامية، منصات تفاعلية، لقاءات دورية مفتوحة. أما في المغرب، فإن استمرار الهوة بين الخطاب المركزي والممارسة الميدانية يُحوّل الهيئات الحزبية الجهوية والمحلية إلى واجهات صامتة أو، أحياناً، إلى سلطات موازية تعرقل المنتخب بدل أن تدعمه.

الخلاصة أن معركة التواصل ليست فقط مسؤولية المنتخب الفردية، بل هي أيضاً امتحان لمصداقية الأحزاب في مستوياتها الجهوية والمحلية. فإذا استمرت هذه الأخيرة في الاكتفاء بترديد الشعارات المركزية بينما الواقع يكرس الزبونية والابتزاز، فلن يكون غريباً أن يفقد المواطن الثقة في المؤسسات برمتها. فالتواصل إما أن يكون ممارسة يومية ومؤسساتية، أو لا يكون. أما المجاملات والصراعات الداخلية، فلا تنتج سوى ديمقراطية شكلية تُدار بمنطق الريع السياسي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *