وجهة نظر

الشقيري الديني يكتب: الفصل بين السياسي والدعوي.. مناقشة سيد قطب

بعد قرار حركة النهضة فصل الدعوي عن السياسي، واستعداد الإخوان المسلمين في مصر السير على نفس الخطى .. وقد سبقهما لذلك التمييز بين الدعوي والسياسي حزبا “العدالة والتنمية” في المغرب وتركيا..والنماذج الأربعة، على اختلاف تجاربها، يجمعها قاسم مشترك دفعها لاتخاذ تلك الخطوة، هو “المشاركة السياسية”..!

وهذا يحتم علينا مناقشة الأطروحة التي كانت تؤسس لنوع من المفاصلة وعدم تقديم تنازلات من أجل خوض الإصلاح من داخل المؤسسات القائمة..!

ولن نجد أفضل من سيد قطب -رحمه الله- منافحا ومناصرا للأطروحة القديمة، والذي تأثرت به العديد من المدارس الإسلامية المعاصرة: سلمية وغير سلمية..!

بسط رأي سيد رحمه الله:

يقول في تفسيره الظلال عند قوله تعالى:
(وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره، وإذا لاتخذوك خليلا، ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا، إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، ثم لا تجد لك علينا نصيرا).
ما نصه:

(يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأولها محاولة فتنته عما أوحى الله إليه، ليفتري عليه غيره، وهو الصادق الأمين.

لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى .. منها مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم؛ ومنها مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراما كالبيت العتيق الذي حرمه الله؛ ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس الفقراء . . .

والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصلها، ليذكر فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة، ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلا، وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات، دون أن يجد له نصيرا منهم يعصمه من الله.

هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله، هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما؛ محاولة إغرائهم لينحرفوا – ولو قليلا – عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغزونهم بها في مقابل مغانم كثيرة؛ ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هينا، فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق، وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها !..

ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق. وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير؛ وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل، لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة، لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء!

والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها، فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر، والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل، لا يمكن أن يكون مؤمنا بدعوته حق الإيمان؛ فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر، وليس فيها فاضل ومفضول .. وليس فيها ضروري ونافلة، وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه، وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه، كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره !

وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات، فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة، وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها !..)

مناقشة سيد قطب تقبله الله شهيدا:

هذه من القواعد الثابتة عند سيد قطب في مخاصمته للطغاة والذين اختاروا مناهج مستوردة مثل الاشتراكية والشيوعية والليبرالية وغيرها وزاحموا بها المنهج الإسلامي في الحكم..!

القاعدة مخالفة لما قرره علماء الأصول والفقهاء في أصول وقواعد الدعوة التي تحتم اتباع سنة التدرج ما يقتضي أحيانا التنازل أو السكوت أو التفاوض بشأن بعض أجزاء الدين، ما لم تمس جوهر العقيدة..وهذا ثابت في سيرة المصطفى كما سنرى.
أما التوحيد وأركان الإسلام والأخلاق فهل يوجد اليوم في أبناء الحركة الإسلامية، على اختلاف مناهجهم وتوجهاتهم، من يتنازل عن شيء منه أو يتفاوض حوله؟

لكن تجد فيهم من يختلف مع آخرين في ترتيب أولويات معركة الإصلاح..

فهذا يرى تعليم الناس التوحيد وإحياء شعائر الدين من عبادات وأخلاق ..وآخر يرى تحرير الأمة من التبعية الاقتصادية التي تجعل الأقوياء يفرضون عليها أجندتهم وقيمهم ويغزونهم إعلاميا وثقافيا..!

وهنا قد يصالحون دولة الاستبداد ويلتقون معها في نصف الطريق من أجل تحقيق مصلحة راجحة..!

وهو ما رفضه سيد قطب بقوة، وقدم من أجله روحه، تقبله الله، وهو على كل حال مجتهد في ذلك يدور بين الأجر الواحد والأجرين.

أجمع العلماء على أن هذا الدين، فيه فرض ونفل، وفيه فاضل ومفضول، وفيه كلي وجزئي، وفيه كبير وصغير، وفيه أصل وفرع، وفيه محكم ومتشابه، وفيه ظني وقطعي، وفيه مجمع عليه ومختلف فيه، وفيه سيد ومسود…وهذا في كل جوانب الدين: عبادات وأخلاق ومعاملات وسياسات.

والدعوة للأصول ليست على وزان واحد مع الدعوة للفروع، ولا الكليات كالجزئيات، ولا الدعوة للمتفق عليه في مرتبة الدعوة للمختلف فيه..!

أيضا من المتفق عليه عند المقاصديين أن المصالح الشرعية..منها ما هو ضروري، مثل الضروريات الخمس، ومنها ما هو حاجي، ومنها ما هو تحسيني..والضروريات والحاجيات والتحسينيات ليست في مرتبة واحدة، وكذلك الضروريات الخمس ليست على وزن واحد في طلب حفظها..بل بينها تفاوت معلوم..!

وهذا الترتيب نافع عند التعارض، بحيث نفوت التحسيني من أجل حفظ الحاجي، ونضحي بالحاجي من أجل حفظ الضروري، وإذا تزاحمت المصالح نفوت أدناها لحفظ أعلاها..وهكذا..وترك الترتيب من جملة الشرور كما قال الإمام الغزالي.

وهذا الترتيب عليه مدار الموازنة بين المصالح والمفاسد في الممارسة السياسية، والجهل بفقه المراتب أوقع فصائل من الحركة الإسلامية في آفات ومطبات واختلالات لا يعلم مداها إلا الله.

هل الدعوة لأصول التوحيد في نفس مرتبة الدعوة للالتزام بالشعائر ..وهل الدعوة لشعائر الدين مثل الدعوة لشرائعه؟

وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتنازل ولم يتفاوض قط في قضايا التوحيد، وقد عرض عليه مشركو مكة ذلك في عدة مناسبات، ومنها مناسبة نزول الآيات التي استدل بها سيد رحمه الله، فقد ذكر الطبري وغيره أن المشركين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلمس آلهتهم، فحدثته نفسه بأن يفعل، فنزلت الآيات زاجرة!

بل نزلت سورة الكافرون حاسمة وقاطعة لأي تلاقي مع المشركين في نصف الطريق في قضايا التوحيد والعبودية..!

لكن في السياسة الشرعية، ألم يتنازل النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية عن أشياء من صميم رسالته، وغضب لذلك أصحابه..؟

ألم يتنازل لغطفان عن ثلث ثمار المدينة ليفكوا تحالفهم مع الأحزاب؟

لقد ألفت رسائل جامعية في المفاوضات السياسية للنبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين ومع أهل الكتاب ومع المنافقين ومع كل ذي شوكة، اقتضت منه تقديم تنازلات والالتقاء معهم في نصف الطريق..لكن التاريخ والسيرة وكل مؤسسات البحث لا تستطيع العثور على تنازل واحد أو تفاوض في قضايا التوحيد أو أركان الإسلام الخمسة.

وفي الدعوة، ألم ينهج نبينا سياسة التدرج، فلما أرسل معاذا إلى اليمن قال له إنك تأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ..فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم..!

وفي الصحيح أن عائشة رضي الله عنها قالت: “لقد نزل أول ما نزل ذكر الجنة والنار..حتى إذا تاب الناس لربهم نزل ذكر الحلال والحرام..ولو نزل أول ما نزل لا تزنوا ولا تشربوا الخمر، لقالوا: والله لا نتركها أبدا).

اليوم الذين مارسوا السياسة من أبناء الحركة الإسلامية، وعاينوا تقلباتها وتموجاتها، رأوا من المفيد للسياسة وللدعوة معا أن يتمايزا في الوظائف والمؤسسات، فلا تكون الهيمنة لأحدهما على الآخر، ومن تقدم للناس ببرنامج سياسي للإصلاح وفاز بثقتهم ليس له أن يراجع أهل الدعوة أو المرشد العام في تدبير الشأن العام، بل يتحمل وحده معركة التدبير ويقدم الحساب في آخر ولايته بناء على ذلك البرنامج الذي تقدم به للناخبين.

وفي المقابل تشق الدعوة ومؤسساتها ومراكز البحث والمساجد طريقها في إقامة الدين وحفظ شعائره وتعليم الناس دون التدخل المباشر واليومي في قضايا السياسات.
وهذا اجتهاد اقتضته المصلحة لا غير..