وجهة نظر

إشكالية جبر الضرر في المغرب: من تجربة الإنصاف والمصالحة إلى ملف المعتقلين السلفيين – نحو مقاربة مدنية جديدة

عبد الفتاح الحيداوي

مقدمة

مثلت تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب إحدى أبرز محطات العدالة الانتقالية في العالم العربي، إذ أعادت للدولة والمجتمع معاً جزءاً من الثقة المفقودة بعد عقود من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. غير أنّ هذه التجربة، رغم نجاحها الرمزي والمؤسساتي، ظلت ناقصة في شمولها؛ فقد استثنت فئات أخرى من المغاربة، وعلى رأسها المعتقلون السلفيون الذين أُوقفوا في أعقاب أحداث 16 ماي 2003 بالدار البيضاء.

تُطرح هنا إشكالية مركزية مفادها:
لماذا لم تشمل تجربة جبر الضرر المعتقلين السلفيين بشكل شامل؟ وكيف يمكن بناء إجماع مدني حول هذا الملف الحسّاس؟

 

الفصل الأول: اختلاف السياقات وتباين منطق الدولة

  1. الصراع السياسي مقابل الصراع الأمني

تختلف تجربة المعتقلين اليساريين عن تجربة المعتقلين السلفيين من حيث السياق التاريخي وطبيعة الصراع.
ففي حالة معتقلي اليسار الراديكالي خلال ما يُعرف بـ”سنوات الرصاص”، كان الصراع سياسيًا–إيديولوجيًا بين الدولة ومعارضيها، وكانت الدولة طرفًا مباشرًا في النزاع. ولذلك جاءت تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة كاعتراف رسمي بمسؤولية الدولة عن الانتهاكات، وسعيًا لطيّ صفحة الماضي من موقع المراجعة والمساءلة السياسية.

أما في حالة المعتقلين السلفيين بعد أحداث 2003، فقد تم تصنيف القضية ضمن خانة “الإرهاب” و”الأمن القومي”. تعاملت الدولة مع هذا الملف باعتباره تهديدًا وجوديًا لأمنها واستقرارها، لا كصراع سياسي أو إيديولوجي. هذا الاختلاف الجوهري جعل منطق الدولة يميل إلى المقاربة الأمنية الصارمة بدل المقاربة التصالحية، فكانت المعالجة عبر القضاء والمحاكمات بدل العدالة الانتقالية.

  1. تحوّل منطق الدولة بعد أحداث الدار البيضاء

أحداث 16 ماي 2003 شكّلت نقطة تحول كبرى في علاقة الدولة بالمجال الديني والسياسي. فقد منحت تلك الأحداث شرعية قوية للخطاب الأمني، وأنتجت حالة من التعبئة الوطنية ضد الإرهاب. في هذا السياق، تم التعامل مع الملف السلفي كقضية أمنية معقدة لا كملف حقوقي أو سياسي. وهكذا، تمّ تجميد إمكانية التفكير في “جبر الضرر” أو “الإنصاف” لصالح أولويات “الأمن الوقائي” و”المقاربة الاستباقية”.

 

الفصل الثاني: العوائق السياسية والمجتمعية أمام جبر الضرر

  1. الاعتبارات الأمنية والسياسية الراهنة

ما زالت الدولة تعتبر قضايا التطرف والإرهاب من أولوياتها الوطنية. ومن ثَمّ، فإن أي اعتراف رسمي بوجود تجاوزات في حق المعتقلين السلفيين قد يُقرأ – داخليًا ودوليًا – كتنازل عن الخط الأمني الصارم أو كتبرئة غير مباشرة لخطاب متشدد.
لهذا السبب، تمّ اللجوء إلى مقاربة بديلة عبر برامج “مصالحة” التي ركزت على التأهيل الفكري والاجتماعي، دون الخوض في المساءلة الحقوقية أو السياسية عن الانتهاكات السابقة.

  1. غياب الإجماع المدني والضغط الحقوقي

من أبرز أسباب جمود هذا الملف غياب قاعدة دعم مدني واسعة كتلك التي حظي بها معتقلو اليسار في التسعينيات.
فقد ارتبط اعتقال السلفيين في الذاكرة الجماعية بأحداث إرهابية أليمة، مما جعل الرأي العام غير متعاطف معهم. بل جرى النظر إليهم غالبًا كـ”جناة” أو “إرهابيين محتملين” لا كضحايا لانتهاكات حقوقية.
كما أن الأحزاب السياسية والنقابات والنخب الإعلامية لم تُبدِ استعدادًا كبيرًا للدفاع عن هذا الملف خشية من التكلفة الرمزية والسياسية المرتبطة به. ونتيجة لذلك، وجدت الدولة نفسها في وضع مريح، حيث غاب الضغط الحقوقي والمدني القادر على فرض مراجعة شاملة للملف.

بالمقابل، فرض الضغط المدني في مرحلة العدالة الانتقالية السابقة على الدولة الاعتراف بمسؤوليتها السياسية والأخلاقية. أما في الحالة السلفية، فإن غياب هذا الضغط أبقى الملف في الزاوية الأمنية، بدل أن يتحول إلى قضية مجتمعية تتعلق بالإنصاف والمصالحة الوطنية.

 

الفصل الثالث: نحو بناء إجماع مدني ومقاربة تصالحية جديدة

  1. إعادة تعريف النقاش: من الانفعال إلى المبدأ

المدخل الأساسي لبناء إجماع مدني هو الفصل بين المسألة الجنائية والمسألة الحقوقية.
فالجرائم الإرهابية تبقى جرائم خطيرة لا يمكن تبريرها، لكن في المقابل، يبقى لكل متهم الحق في محاكمة عادلة وفي الحماية من التعذيب وسوء المعاملة.
هذا التمييز ضروري لنقل النقاش من دائرة الانفعال إلى دائرة المبدأ. فالدفاع عن الحقوق الأساسية لا يعني التعاطف مع التطرف، بل احترام كرامة الإنسان وسيادة القانون.

ومن هذا المنطلق، يمكن استحضار مبدئين أساسيين:

  1. الحقوق لا تتجزأ: لا يمكن أن تُطبّق على فئة وتُستثنى منها أخرى، وإلا فقدت قيمتها ومصداقيتها.
  2. العدالة كضمانة جماعية: الدفاع عن المحاكمة العادلة هو دفاع عن المجتمع كله ضد شطط السلطة وأخطاء القضاء.
  3. التوثيق المهني للانتهاكات

التوثيق المحايد والمبني على معايير مهنية وقانونية يمثل خطوة أولى في إعادة فتح النقاش.
فعندما يتم رصد حالات التعذيب أو المحاكمات غير العادلة بشكل موضوعي ومدقق، يتحول النقاش من اتهام سياسي إلى ملف حقوقي موثّق.
إنّ اعتماد منهجية التوثيق وفق المعايير الدولية (شهادات، خبرات طبية، تقارير قانونية) يمنح الملف مصداقية ويُخرج النقاش من دائرة الاصطفاف الأيديولوجي. وهكذا يمكن توحيد منظمات المجتمع المدني حول مبدأ موحد: الانتهاك هو المشكلة، لا هوية المعتقل.

  1. بناء تحالفات مدنية عابرة للتيارات

يجب أن يتحول الملف من قضية “إسلاميين متشددين” إلى قضية حقوقية وطنية.
ولتحقيق ذلك، يجب إشراك فاعلين متنوعين:

  • محامون مستقلون لا ينتمون لأي تيار ديني أو سياسي.
  • نشطاء حقوقيون معروفون بمصداقيتهم في الدفاع عن جميع الفئات.
  • أكاديميون وباحثون يقدمون تحليلاً موضوعيًا بعيدًا عن التوظيف الإيديولوجي.

هذا التنوّع في التحالفات يسحب البساط من الصورة النمطية، ويمنح القضية شرعية مدنية أوسع، ويتيح حواراً عمومياً حول الحقوق والعدالة، لا حول الفكر أو الانتماء.

  1. الحوار مع المؤسسات الرسمية: نحو آلية إدماجية جديدة

إن تجاوز القطيعة الرمزية بين الدولة والمعتقلين السابقين يتطلب حوارًا مؤسساتيًا هادئًا.
يمكن أن يُفتح هذا الحوار عبر آليات تشاورية تضم المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وزارة العدل، علماء دين من الرابطة المحمدية، وممثلين عن المعتقلين السابقين.
كما يمكن إدراج حالات المعتقلين السلفيين ضمن مراجعة خاصة لمسار العدالة الانتقالية، لتصحيح الفجوة التاريخية في تجربة جبر الضرر.

ولبناء الثقة، يُستحسن البدء بخطوات عملية تدريجية: تحسين ظروف المعتقلين، تسهيل الإدماج الاجتماعي للمفرج عنهم، وتمكينهم من فرص التكوين والعمل.
كما يُمكن للمجتمع المدني أن يلعب دور الوسيط في هذا المسار، بفضل مرونته وحياده النسبي.

تؤكد التجربة المغربية أن جبر الضرر ليس مجرد تعويض مادي أو اعتراف رمزي، بل هو فعل تأسيسي لبناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
ومادامت فئات مثل المعتقلين السلفيين ما تزال خارج هذا المسار، فإن تجربة المصالحة تظل منقوصة وغير مكتملة.
إن الانتقال من المقاربة الأمنية إلى مقاربة الحقوق والإنصاف لا يُضعف الدولة، بل يعزز شرعيتها ويُكرس الاستقرار المستدام.
فالدولة التي تجرؤ على المصالحة الشاملة تُبرهن على قوتها، والمجتمع الذي يدافع عن حقوق المختلفين فيه يُثبت نضجه.
ومن ثَمّ، فإن بناء إجماع مدني حول جبر الضرر الشامل يشكّل خطوة ضرورية نحو تحقيق مصالحة وطنية حقيقية تُعيد تعريف العلاقة بين الأمن والحق، وبين العدالة والمواطنة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *