وجهة نظر

التربية والتعليم في الفكر السلفي الوطني

هناك العديد من الدراسات الوطنية والعربية وحتى الغربية التي اهتمت بالأدوار الطلائعية التي لعبها التيار السلفي المغربي، على المستوى السياسي في خدمة القضية الوطنية خلال القرن 19، وزمن الحماية الفرنسية في التعريف بها، إلا أننا في الغالب -على حد علمنا -لا نجد نفس الحماس عند المهتمين والباحثين لإبراز جوانب أخرى مشرقة لهذا التيار الوطني الذي أخذ على عاتقه مسألة “الإصلاح” ولعل الأسباب إيديولوجية بالأساس.

هذا الإصلاح الذي قد نتفق مع منطلقاته ورؤاه وفلسفته ومساراته وقد نتحفظ على بعضها، إلا أننا لايمكن إلا أن نثمن هذه المحاولات الإصلاحية إن نحن وضعناها في إطارها التاريخي، لاسيما وأنها اتخذت من بين مجالات اهتمامها التربية والتعليم ميدانا للتوعية والتأطير والاجتهاد، وعيا مبكرا منها بخطورة الجهل والأمية.

كان لحركية التعليم في المشرق عقب النهضة العربية / اليقضة العربية – بتعبير العروي– بالغ الأثر على النخب السلفية الوطنية، في تحديد أولويتها ورسم معالم خريطة طريقها في علاقتها بالمستعمر، أو بعموم أبناء الشعب المغربي، وهو مانستشفه من خلال كتابات رموز هذا التيار، ولعل “علال الفاسي” انطلاقا من كتابه المرجعي في هذه النقطة “النقد الذاتي” إضافة إلى خطبه يقدم إجابات واضحة في تصوره للمغرب المستقل أو المغرب الممكن اقتصاديا وسياسيا وتعليميا وعلى جميع الأصعدة.

في ظل الواقع التعليمي الجديد/العصري أنذاك الذي فرضته سلطات الحماية على المغرب اهتزت مكانة الفقهاء الدينية والتعليمية والرمزية الجامعة (التقليدية )، مع ظهور جيل تكون وتخرج في المدارس والمعاهد الاستعمارية الفرنسية والإسبانية والدولية (العصرية)، فما كان من المتشبثين بالتكوين العربي إلا أن يتجهوا صوب المشرق لاستكمال الدراسات العليا هناك والنهل من العلوم، حتى يكونوا في مستوى خريجي المؤسسات الغربية في المغرب وحتى يستطيعون المواكبة معرفيا.

تحدي العلم والمعرفة الذي رفعه رموز التيار السلفي بالمغرب مقابل جيل المعاهد أثمر في ثلاثينات القرن الماضي نخبتين بتكوينين ومرجعيتين مختلفتين: تيار سلفي، وآخر ليبرالي إن صح التعبير، من بين القواسم المشتركة القليلة والمهمة جدا بينهما الهم الوطن، فحدث ما يمكن أن نسميه كتلة تاريخية على حد قول د” محمد عابد الجابري” أو تحالف أو توافق أو كل مايصب في هذا الاتجاه درءا للتفرقة وذهاب الريح.

لاسيما وأن المستعمر جرب كل أنواع الفتنة والتمزيق بناء على أسس شتى – القروين≠ المعاهد، المدينة القديمة ≠ المدينة الجديد،السهل≠الجبل، بلاد المخزن ≠ بلاد السيبة، العرب ≠البربر.

الظهير البربري لسنة 1930هذا النوع الأخير الذي يضرب اللحمة الوطنية في الصميم، لم يكن لينطلي على النخب الوطنية بشقيها، فكان دعاء اللطيف إجابة سلفية تبنتها كل القوى الوطنية بمختلف مشاربها وفي جميع المدن والقرى المغربية من داخل مؤسسة المسجد، مرددينا جميعا دعاء اللطيف “اللهم يا لطيف نسألك اللطف فيماجرت به المقادير، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر”

في هذا الإطار جاء اهتمام النخب السلفية بميدان التربية والتعليم حيث قام محمد داود 19846- 1901 بتأسيس المدرسة الأهلية الحرة بتطوان سنة 1925 والمطبعة المهدية عام 1928، كما أنه استفاد من تجربة المصريين في المجال عندما سافر للقاهرة ضمن مهامه كمفتش في التعليم العمومي بمنطقة الشمال وإيمانا منهم بأن التعليم وحده قادر على إصلاح حال الأمة المغربية، وهنا يقول واحد من هذه الرموز قولا بليغا وهو “عبد الخالق الطريس: “إن المدرسة الوطنية هي التي توجه التاريخ “.

المدارس الإسلامية الحرة السالفة الذكر إسم له دلالة، منهاج الدراسة فيها عربي خالص، تحرص فيه على تحفيظ القران الكريم، كما تقدم دروسا في اللغتين الفرنسية والإسبانية ومواد علمية، وهي تجربة يمكن الرجوع إليها لبناء تصور حول لغة التدريس وما يثيره الموضوع من نقاش الآن لاستخلاص العبر.

خدمة للقضية ذاتها ساهم “محمد داود” في إصدارالعديد من الجرائد ك”السلام”1933 و”الأخبار”1936 وعن الجو العلمي السائد يقول “عبد الله كنون” في مذكراته “أنا من الجيل الذي لما فتح عينيه لحسن الحظ كانت في العالم العربي حركة و نهضة وتجديد ولم يمر المغرب بهذه التجربة” ليسترسل ويقول كان ذلك في مصر والشام فكانت المجلات والصحف تفد علينا من الشرق نطلع فيها على مانعثر عليه عندنا “لعله يقصد “المقتطف” التي كانت تنشر أبحاث ومقالات علمية و”الهلال” التي تخصصت في الآداب و”اللواء”وغيرهما من الجرائد والكتب والشخصيات، التي كان لها وقع خاص في تشكيل وعي الاتجاه السلفي المغربي
أهمية التربية والتعليم والصحافة والنشر بادية من خلال نشاطهم الوطني أو الموروث الفكري للنخبة السلفية الوطنية ك”عبد الله كنون”و”محمد داود” و”علال الفاسي” و”المكي الناصري” …إنها ليست أسماء وفقط بقدر ماهي رموز وطنية عصية على النسيان أو التناسي تركت لنا تراثا فكريا زاخرا في المناهج والتربية والتعليم الفكر والسياسة والإعلام وصناعة الرأي العام وغيره.

على كل حال إن تراثنا الفكري عامة إن تجاهلناه اشتغل به غيرنا وفهمه حسب هواه وأذكى صورة نمطية صورها بعض المستشرقين وزكاها الإعلام الغربي وواقعنا المرير ليبقى ذلك المغربي والعربي – في نظرهم – ليس إلا كائنا يعبد صندوقا في الصحراء ؟؟ رمزا للرعي والجمود والانقسام والصراع الطائفي والمذهبي.

في ظل التشتت والجهل والتطرف وذيوع فكر الهزيمة…. يعد هذا التراث الفكري صمام أمان، لأن أمة بلا تراث هي أمة بلا هوية بلا أساس، ومشكوك في مستقبلها، إنه لا شيء إن أهملناه وهو دافع للحداثة والتحديث والبناء والعمران إن أحسنا التعامل معه.

لم يعد من المقبول أي تنميط أو اختزال لتراثنا، وحان الوقت لنعيد الاعتبار إليه فليس هناك بأس أن نخطئ، فمن لا يمارس وحده لا يخطئ، وليس هناك بأس أن نختلف في تقويمنا لصفحات تاريخنا، أحداثه، أفكاره ،رجالاته، تياراته، مذاهبه…. لكن لنربط جسورا مع تراثنا وألا نكون فقط ” تراثيين في قراءتنا للتراث”.