منوعات

الرحموني يكتب حول نازلة وزير المالية: بين انهيار المسؤولية والعمل المؤسساتي

نحن إزاء نازلة مثيرة في اختراق العمل المؤسساتي في المغرب المعاصر، تمثلت في تجاوز منطق التضامن الحكومي المفترض، 

الوقائع تؤكد التسرع الملحوظ للسيد وزير المالية في حكومة الاستاذ عبد الإله ابن كيران بتقديم مشورة مضللة -بحماس مبالغ فيه- مراسلة توحي بالخروج عن منطق المقاربة التي سبق أن اعتمدتها الحكومة في معالجة قضية الأساتذة المتدربين المنقطعين عن الدراسة لشهور والمحتجين ضد مراسيم للحكومة.

وزير الاقتصاد والمالية اقترف بذلك الفعل خطأ دستوريا جسيما، تمثل في تجاوز صلاحياته وفي التعاطي مع موضوع يحظى بالتتبع والمقاربة المباشرة لرئيسه في الحكومة.

في زمن قياسي، وبما يشبه تقديم المشورة، بادر وزير المالية المعني للجواب على مراسلة سبق أن تقدمت بها فرق من المعارضة-البام والاتحاد الاشتراكي- حول قضية خلافية ذات صلة بملف فئوي –توظيف الأساتذة المتدربين-

مراقبون-من وجهة نظر دستورية ومؤسساتية- اعتبروا تلك المراسلة الجوابية تجاوزا للسلطة الرئاسية لرئيس الجهاز التنفيذي، بما يخالف رؤية الحكومة لمقاربة وتدبير حل الملف موضوع الاحتجاج، خصوصا إذا عرفنا أن أطرافا سياسية وحزبية وأخرى ذات أجندات انتهازية وتحكمية، دخلت على الخط لخلط الأوراق في تجاوز سافر لعمل المؤسسات الدستورية ولتأجيج الأوضاع، من خلال السطو على اختصاصات لا تملكها، وبيع الوهم لتلك الفئة المحتجة وإيهامها بأنها تناور وتملك المخرج والحل، حتى صرح كبيرهم أنه سيتكفل بتقديم الحل في غضون 24 ساعة، بما عجزت عنه الحكومة –حسب ماتناقلته وسائل الإعلام، وتصوير الحكومة ورئيسها وكأنهم لا سلطة لهم ولا يلوون على شيئ.

وتفاعلا مع ذلك سارع السيد رئيس الحكومة إلى إعلان بيان حقيقة للناس، يضع النقاط على الحروف، ويخطئ فيه وزيره في المالية وينبهه إلى ضرورة الرجوع إلى منطق العمل المؤسساتي، والتزام العمل بالقانون والدستور والرجوع إلى روح التعاقدات السياسية التي تنظم العمل التضامني الحكومي

إننا إزاء نازلة جديدة، من نوازل التمرد المنهجي المقصود الرامي للتبرم من السلطة الرئاسية للحكومة، من خلال المبادرة لممارسة فعل يناقض الالتزام بالتضامن المفروض في مكوناتها ووزرائها، خصوصا إذا كنا إزاء قضية بطبيعتها حساسة وخلافية وصارت مثار احتجاجات فئوية صاخبة، وغدت من القضايا المحددة المسؤولية والبينة الصلاحية والواضحة الرؤية، وسبق للحكومة أن طرحت بصددها أمام الرأي مبادرة واقتراحا للحل

نحن إذن- لسنا أمام خطأ فردي لا أثر مؤسساتي له، ولسنا أمام سوء تقدير ظرفي لا كلفة له، ولسنا أمام سهو وشرود غير مقصود، بل نحن إزاء تدبير منهجي بقصد الإرباك والتعطيل، وتجاوز غير مبرر للسلطة الرئاسية لرئيس الحكومة المحددة دستوريا..

بالمقابل فالبيان القوي الذي أذاعه للناس السيد عبد الإلاه ابن كيران رئيس الجهاز التنفيدي، وانتصر فيه لمنطق المؤسسات ولحدود الاختصاصات والصلاحيات وللاستقرار المؤسساتي يؤشر على مرحلة جديدة من الحزم والحسم وعدم التساهل، وهو نفسه عنوان المرحلة القادمة، ويمكن اختصاره في مفردات:

الخطأ الجسيم ممنوع وغير قابل للتسوية والتفاوض 
الخطأ وجب تصحيحه سياسيا وتحمل تبعاته دستوريا
وزير المالية في لحظة شرود دستوري، وتمرد غير مقبول على رئيسه المباشر، وجب عليه التحلي بقيم التحفظ وفضيلة التريث والتزام منطق التضامن الحكومي الواجب، والوفاء لروح العمل المؤسساتي المصون دستوريا

وإلا فليقدم استقالته ولينسحب بهدوء، أو يتجاسر وليعلن التحاقه المكشوف بالجهة الأخرى، بسفور لا مناورة معه، وليخدم الأجندة التي تريحه بوجه مكشوف لا دثار معه.

هذا لا يتعلق فقط بالحكومة وقواعد تشكيلها وإيقاع عملها والوجوه التي دخلتها ذات زمن ولا التباكي على موقع مكوناتها وأداء الحكمة بأثر رجعي، أو المبادرة لنقد أدائها العام، وإنما يتعلق الأمر كذلك بالنخبة السياسية برمتها والقوى السياسية والحزبية في مجموعها، وبمنطق عمل المؤسسات الدستورية، وبموقع ومسؤولية البرلمان-في القلب من تلك المؤسسات- الذي يبدو أن الرهان أصبح معلقاً عليه للولوج إلى حالة سياسية مختلفة تتناسب مع المتغيرات التي طرأت على الإيقاع العام للمجتمع وقواه السياسية.

الخطأ الجسيم بات ممنوعا، يتعلق الأمر أيضا بالدولة من حيث هيبتها ورمزية الالتزام بمنطق اشتغال مؤسساتها ورموزها واتجاهاتها ومقرراتها، ومن حيث قدرتها على تغيير المزاج العام للناس نحو الثقة بها، واحترام خياراتها والانخراط معها لتصحيح المعادلات السياسية والاجتماعية التي تعرضت لوعكات ولإصابات وشروخ فادحة كبيرة في السنوات الماضية.

عندما يدرك الوزير في الحكومة والنائب في البرلمان والمسؤول في المؤسسة أن الخطأ الجسيم ممنوع ومكلف وأن الوقوع فيه سيكلفه ثمناً كبيراً، وأن القانون لن يستثنيه من المساءلة والمحاسبة، وأن عيون المجتمع مفتوحة تترصد أفعاله وتراقب أداءه، وأن الشارع ما زال *كسلطة مضادة للشطط- حاضراً في المشهد السياسي العام وفي قلب المعادلة إصلاحية اليوم، وجاهزا للاحتجاج وهو يتمتع بالحيوية اللازمة للحركة والتأثير.. عندها يمكن أن نتوقع ثورة رقابية بيضاء تخضع الجميع لمسطرة احترام النظام العام وتقيس أداءهم على معايير الكفاءة الموحدة والفعالية الناجزة والمسؤولية الرفيعة والمنضبطة، وتدفعهم نحو التنافس على خدمة الناس لا الزحام لتحقيق مصالحهم الفردية، ونحو الالتزام بأخلاقيات الوظيفة العامة ومستلزماتها والاعتصام بمستحقات التكليف بالمهام التمثيلية والسياسية، لا التملص منها تحت لافتة التجاوز المشروع أو غياب أعين الرقيب.

تحت هذا العنوان يمكن أن نتوافق على مشروع إصلاح ينسجم مع طموحات المغاربة ونستعيد الثقة في المؤسسات السياسية والدستورية، ويحسم أسئلتهم المعلقة منذ سنين عددا، وينتقل بالمسؤولية العمومية من سياق التشريف والمنفعة والحصول على ما أمكن من مكاسب وامتيازات إلى سياق التكليف وخدمة الناس والخضوع لمساءلتهم والامتثال لمنطق رقابتهم، والالتزام بقضاياهم..
وهو منطق الديمقراطية الحقيقي وانتقال الصعب لأسلوبها في تدبير السلطة والثروة والقرار، والتي نكتشف – اليوم – للأسف بأننا أهدرنا وقتا طويلا في البحث عن مفرداتها.

هذا لا يعني – بالطبع – أن أخطاء المرحلة الماضية قد سقطت من الذاكرة، وأن المخطئين نالوا شهادات براءاتهم، ولا يعني أيضا أن الملفات التي جرى تكييفها لإخراجها من دائرة المحاسبة والتغطية على الجرائم السياسية والاقتصادية والتدبيرية التي تتضمنها قد انتهت بالإغلاق، وإنما المطلوب تجاوز ذلك نحو تصغير الأزمات والمشكلات أولا ثم منع تكرارها ثانيا، ثم اعتماد آليات جديدة تعيد للمسؤولية العمومية هيبتها وأخلاقياتها، وللموقع الرمزي لتلك المسؤولية اعتباراتها، وللدولة تقاليدها وهيبتها وتراتبيتها.

إذا التزم المكلف المسؤول في الموقع الرسمي بعنوان الخطأ الجسيم ممنوع، وعبرت الدولة بمختلف سلوكياتها وتصرفاتها عن هذا المبدأ بنزاهة، وتحول خطابنا الرسمي من اطار التمجيد والتلميع والتغطية على السلبيات واستطاع ان يقنع الناس بانهم امام تحول حقيقي، وازاء تبدل فارق لطرائق العمل، فان المطلوب عندئذ ان ينعكس هذا العنوان على طرفين: احدهما المجتمع بحراكاته وقواه الاجتماعية حيث يفترض ان ينهض لاستعادة حضوره وحيويته وتفعيل عناصر القوة فيه، سواء من زاوية التحضر والانتقال لتكريس قيم المسؤولية العمومية او المشاركة في ميادين السياسة والفكر، او – ان شئت الدقة – النخب السياسية التي تتصدر الصفوف سواء اكانت مؤيدة او معارضة، وهذه مدعوة لرفع عنوان الخطأ الجسيم ممنوع ايضا في علاقاتها وفي خطابها وفي تفاعلها مع الحياة العامة.

اذا تحقق ذلك على صعيد الدولة والمجتمع والنخب، واذا ما غادرنا دائرة الاحباط وعدم الاهتمام والهروب من الواجب، وبدأنا مشوار التصالح مع الذات ومع الاخر، فان بوسعنا عندئذ ان ننظر الى المستقبل بعيون متفائلة.. وان نخرج من أزماتنا السياسية والعامة التي حاصرتنا وما تزال منذ سنوات.