وجهة نظر

بنيعقوب يكتب: أيها الإرهاب من أنت.. أ مسلم غاضب أم غضب مؤسلم؟

شاءت الأقدار أن تكون البشرية جمعاء على موعد مع حلقة جديدة من حلقات تاريخها الدموي، لتغدق على نفسها بجحافل من الشهداء الأبرياء و الذكريات المؤلمة، و في نفس الآن بمزيد من الدموع ليتولد لديها حقد دولي مقيت و كراهية أممية منبوذة.

لقد عرف سكان الأرض حروبا أكثر ضراوة و بشاعة قطعت فيها الرؤوس، و بقرت فيها الأرحام، واستنزفت فيها الخيرات، و سلبت فيها الهويات و الثقافات، لتترك لنا إرثا حافلا بالأحقاد والضغائن بين أبناء آدم، تتوارثها الأجيال و ورثتها كل أمة لأخرى لنعيش الماضي في الحاضر ونطوق أفئدتنا بها بل ونأسر عقولنا و قلوبنا فيها بدل أن نتحرر من تبعاتها و ندفنها بدون رجعة.

إن نزعة العنف و الحرب متجذرة في النفس البشرية تغذيها الأطماع و الرغبات في التسلط و الاستئثار بالخيرات.

و يذكرنا التاريخ بحروب كثيرة مسمياتها، متشابهة دوافعها، حروب سميت أحيانا بونيقية بين الرومان و القرطاجيين للسيطرة على ضفاف المتوسط؛ تسع حروب صليبية محركها واحد ، حروب أوروبية داخلية، حروب نابوليونية توسعية، حروب عدوانية أوروبية إستعمارية، حروب عالمية و غيرها عديد الأمثلة في سجل السيرة البشرية.

الحرب العالمية الأولى لوحدها حصدت أزيد من تسعة ملايين قتيل، و قيل أن فرنسيا واحدا كان يقتل كل دقيقة في بداياتها، لتترك خريطة سياسية بتراء بعدما أقحمت فيها إفريقيا و الشرق الأوسط و شمال إفريقيا، و العرب الذين خدعوا في تحالفهم مع فرنسا و بريطانيا ليفاجؤوا بعد ذلك باتفاقية سايس بيكو السرية لاقتسام المنطقة بينهما بعد الحرب.

الحرب العالمية الثانية خلفت أزيد من ثمانين مليونا مابين قتيل و مشرد و مفقود نصفها مدنيون مقتولون، ما يعادل آنذاك 2% من سكان العالم.

الحرب على العراق و ما تلاها من حصار لأزيد من 13 عشر عاما، خلفت وفاة أزيد من مليون و نصف مليون طفل و أزيد من ستمائة ألف مدني قتيل منهم حوالي أربعة و ثلاثون ألف فقط سنة 2006.

الحرب الأخيرة على غزة في صيف 2014، حتى لا نذكر ما سبقها من حروب و عدوان، خلفت لوحدها أزيد من 500 طفل و أزيد من 300 امرأة قتلوا خلالها، و أزيد من 17000 منزلا مدمرا ناهيك عن تأثير الحصار على حياة الناس و البنية التحتية و و ندرة الطعام و الدواء لما بعد الحرب.

خلال فترة الثمانينات، جند الآلاف من المسلمين عبر القارات لمآزرة الأفغان في حربهم ضد السوفييت الشيوعيين، بمباركة الإستخبارات الغربية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا، كان الهدف آنذاك هو كسر شوكة المعسكر الشرقي، فتم تبرير إستعمال الأداة الإسلامية ثم كان “النصر الجهادي”، الشيء الذي نمى النزعة أو الإيدلوجية الجهادية التي تم زرعها فيما بعد في الجزائر مع الجماعة الإسلامية GIA، ثم مع ظهور طالبان التي حاولت قتل صور الإبداع الإنساني و تضييق مجال حركته، على مرأى و مسمع و مسند أمريكي، فحدثت مجازر رهيبة في الجزائر تحديدا، قطعت فيها أعناق الأطفال و النساء، و كان جواب الغرب آنذاك، هو أن هذا الإرهاب هو نتيجة حتمية لسيادة التسلط و التحكم و غياب الديمقراطية، و المشاركة في توزيع الثروات.

لا يجوز لمن ساعد ظهور هذه الأيديولوجية أو تغاضى الطرف عند ولادتها أن يتباكى اليوم على سفك دم الإنسان الغربي، لأنه ببساطة شريك في الجرم و يجب مساءلته و محاكمته إن اقتضى الأمر.

كل هذا و غيره لا يبرر أبدا الإرهاب بطبيعة الحال، لكن العالم مجبر على أن يجني حصاد ما دفن الأقوياء تحت الأرض، جراء الإفراط في استعمال العنف بسبب أو بغير سبب.

لم تعد الدول العظمى، في كل قممها العالمية، تعطي الأهمية للعامل الثقافي في مبادلاتها مع دول الجنوب عموما، لم تعد تهتم لحقوق الشعوب الثقافية، هذه الحقوق التي أضحت مصدر توترات إقليمية و دولية بفعل التدخلات الجراحية الأجنبية المتكررة، و بسبب الإنحياز لفئة من الشعب ضد فئة أخرى، أو الإصطفاف بجانب شعب أو ثقافة أو دين ضد دين أو طائفة أخرى، الشيء الذي حول جزءا من العالم إلى براكين قابلة للانفجار في أي وقت و إلى مجال خصب لإنتاج المجندين للحرب الإرهابية.

إننا نعيش حربا عالمية من جيل جديد غابت فيها المدافع و الطائرات، لتتسلح بسلاح الخوف و الرعب، و بحزام ناسف أو محفظة مفخخة هنا أو هناك.

قد تكون هذه الحرب الجديدة حرب مصالح بين الأقوياء، و قد تكون أيضا تكميما للعالم لإستسلامه للإطفائي الذي أشعل النيران ليجعلنا نرتمي تحت رجليه لإطفاءها، لأنه الوحيد من يملك أدوات إخمادها.

حروب المصالح هاته، يهمها جدا أن تجد تعليبا جذابا عصريا يليق ببضاعتها لقضاء أهدافها سواء باستعمال فكر أو دين معين. 

لا يعقل أن يكون الدين الذي ربط الصلاة بالنهي عن الفحشاء و المنكر، و أوجد الأعذار للخطائين ليعفو عنهم أن يكون وازعا للقتل. لا يعقل أن يكون دين الصلاة المرصوصة الصفوف و الذي اشترط في الإمام العلم و العقل و العدل أن يبيح السفك و القتل. لا يعقل أن يكون الدين الذي أعطى للمصلين القدرة على التصحيح للإمام و تعويضه في الإمامة كلما خرج عن جادة الصواب أو حدث له حدث، أن يظلم أو يجور. لا يعقل أن يكون الدين الذي فرض الإنفاق على الضعفاء و المحتاجين في الزكاة، و بغير الزكاة أن يجيز قتلهم.

لا يعقل أيضا أن يكون الدين الذي جعل القصاص في القتلى إستثناء و قيده بشرط التعامل بالمثل و حبب العفو و الصفح و قبول الدية و التنازل من قبل صاحب الدم المكلوم في فقيده بغير وجه حق أن يحبذ ترويع الناس. لا يعقل أيضا أن يكون الدين الذي نصر غير أتباعه على أتباعه، عندما تعرضوا للضيم أو المساس بالكرامة أن يحلل قتل مخالفيه الإعتقاد. لا يعقل أن يكون الدين الذي رفض انتساب أبنائه له كلما باتوا شبعى و جيرانهم جوعى كيفما كانت ديانتهم أو أعراقهم أو ألوانهم أن يأمر بتشريد الناس. لا يعقل أن يكون الدين الذي قدس الشجرة في الحرب و جرم قطعها أو إيذاءها كما كذلك إيذاء الشيوخ و النساء و الأطفال لا يعقل أن يكون هذا مصدر إباحة للعنف و الإرهاب.

إنه الإنسان البئيس المتحجر غير المتفهم للتدرج الرباني في الدعوة، و غير المنفتح على الإنسانية التي دفعت رسول الإسلام عليه الصلاة و السلام لأن يهجر مكة، و يبتعد عن الكعبة ليقول أن حرمة مؤمن عند الله خير منها. هذا الإنسان الذي لم يفهم معنى أن تسلم نفسك لله بإرادتك هو سبب الفتن. هذا الإنسان الذي أخذ الدين و كتابه و كأنه دليل استعمال مرقم يستعمل بطريقة ميكانيكية، و بدون روح أو ترتيب للأولويات، هو من جر على المسلمين التهم و جعلهم في موقع الدفاع كلما سالت قطرة دم إنسان بعد سماع كلمة الله أكبر.

لكن إذا كان غيري آثما فهل أنا أيضا آثم؟ هل يؤخذ الأبرياء و دياناتهم بما فعله المتواطئون مع المصالح الكبرى حتى و إن كانوا منتمين إلى نفس عقيدتهم؟ هل نحن مطالبون بالدفاع عن أنفسنا كلما تعرض الغرب للإرهاب بإسم الدين و نبرر لهم و لأنفسنا ما لم نقترفه في ظل الهجمات الإعلامية التي تشحن المواطن الغربي ضد الإسلام، و تسيء لرموز هذا الدين و مقدساته تحت ذريعة الحرية أو محاربة التطرف؟

على المواطن الغربي أن يسائل حكوماته أولا عن مصادر تمويل التنظيمات الإرهابية، عن المساعدات التقنية التي تتلقاها حتى تصل إلى قلب مؤسساتها الأكثر أمنا و حماية. بروكسيل هي عاصمة أوروبا و لها مكانة رمزية مهمة في العالم، بها توجد مؤسسات الاتحاد الكبرى و كذلك قيادة حلف شمال الأطلسي، المؤسسة العسكرية الأعتى قوة و تنظيما. أن يضرب الإرهاب هناك من دون مساعدة أو توجيه هذا ما لا يقبله العقل و تكذبه الوقائع.

إن الشعوب لم تختر أعاديها و إنما فرضت عليها، إرثا تاريخيا حينا و إختيارا فئويا مصلحيا حينا آخر.

فليسأل العالم أطفال العراق بأي ذنب قتلوا، و حوصروا، و منعوا من قطرات حليب جادت به الأرض على أهلها بإذن خالقها، فليسألوهم هل يعرفون بوش الأب أو كولين باول أو ديك تشيني أو الجنرال نورمان شوارزكوف؟ الذين قرروا ذات يوم بارد من شتاء 1991 أن يكونوا أقرانهم في الحرب.

فليسأل العالم اطفال غزة هل شهدوا ولادة عداوة بين شعوب انتسبت في جذرها لأصل واحد، فليسألوهم إن كانوا سينطقون؟

و ليسأل شيوخا و نساء ثكلى في إفريقيا هل كانوا هم سبب الموت الرهيب الذي شهدته كواسر و أدغال القارة البهية، فليسألوهم أو يستنطقونهم عن سبب الحرب لعلهم يعترفون.

فليسأل العالم الإنسان الذي قتل غدرا و سفك دمه على مرمى عدسات العالم في باريس وبروكسيل وغيرهما هل له أي عداوة مع أي كان على وجه الأرض.

الشعوب ليست آثمة، الديانات و الثقافات الإنسانية ليست كذلك إنها الفئات المنتفعة من التوتر، العاشقة لرائحة البارود، و المترنمة بلعلعة الرصاص و أزيز الطائرات هي من رعت ثقافة الكراهية.

فليسأل العالم شعوب العالم الثالث عن احتباس حرارة الأرض ليعم الجفاف، و يعز الماء و الكلأ، و ليصبحوا فرائس للتجنيد الإجرامي و الإرهابي، فليسألوهم لعلهم يبوحون .

فليسأل العالم الطفل السوري آلان كردي، الذي دحرجته أمواج القدر ليحضن رمال البحر المتوسط، مهد الحضارات، هل مر في ذهنه يوما ما لعبة إسمها الحرب الطائفية، أو داعش و أخواتها، أو أسباب الحرب في سوريا، لعل أقرانه يجيبون نيابة عنه و هو الغائب عنهم لحجة لم يفهموها بعد.

إن الحرب الجديدة هي لغة عنف جديدة، لغة تعبر عن عقيدة التحالف لقوى غاضبة من هنا و من هناك، وجدت في عنوان الإسلام أحسن أداة لتصفية حساباتها مع خصومها لحماية مصالحها، فالإسلام لم يكن أبدا دين الغضب بل نحن أمام غضب مؤسلم islamisé، تقضى على “أيديه” حوائج الغاضبين و مآربهم الكثيرة و المتنوعة .
ـــــــــ
باحث في القانون الدستوري و العلوم السياسية.