وجهة نظر

لله ثم للتاريخ فيما وقع لرئيس الحكومة بوجدة

تكلمت في نازلة رئيس الحكومة في تدوينة لي، مستنكرا وبشدة عدم احترام مؤسسة المغاربة، مؤسسة رئاسة الحكومة التي نعتز بها عندما تكون ديمقراطية، ولترحل ساعتها بديمقراطية عندما يختار الشعب اختياره. فأرادني بعضكم أن أسوي بين النازلتين، وأن أماثل بين عمود الخيمة وظلها. مع أنني قلت في الذي حدث للأساتذة المتدربين: لقد كان هناك إفراط في استعمال القوة معهم. وأن شيئا من التجاوز صدر من هؤلاء وأولئك.. إلى كلام طويل في إبانه، فعد إليه إن أردته غير مأمور.

فكيف تريد مني اليوم أن أسوي بين نازلتين، الفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض.
فرق بين الوعي والأماني:

أما النازلة الأولى: أساتذة متدربون خرجوا للشوارع يحتجون لمظلمتهم، ويريدون للرأي العام أن يعرف معاناتهم، وكانوا في مواجهة قوات بمختلف أصنافها، ووقع الضرب والجرح والأذى..
هذا ما وقع.

وفي كل الكون كل الاحتجاجات إذا تطورت تقابل باستعمال القوة.
هل يجوز استعمال القوة أصلا؟ وإذا استعملت هل تناسب الفعل المخالف أو لا تفوقه؟
تلك حكاية ثانية يا حبيبي.

لكني أنا أفهم أن الخروج إلى الشارع، هناك احتمال أن يصدر الأذى. لا أبرره، ولا أقبله، ولكن هذا هو الواقع.
في الدول الغربية أوربية أو أمريكية يوجد استعمال للقوة، وفي كثير من الأحيان استعمال مفرط، لدول تعتبر نفسها حامية للديمقراطية وراعية لها، وهي والغة في احتقار الآدمية.

عندما احتل إخواننا في مصر الشارع العام، قوبلوا بأشنع مجزرة تواطأ فيها الغرب الحاقد مع النظام المستبد الذي استولى على الحكم بالحديد والنار. وكان الاتفاق الغربي (الأمريكي خصوصا) مع النظام المصري أن لا يفوق عدد القتلى أربعين ألف. أي أنهم اتفقوا معه على أربعين ألف كما صدرت بذلك التقارير، ولم يتجاوز عدد القتلى سبعة آلاف.

إن نفسا واحدة عندي في ديني أهون عند ربي من هدم الكعبة.

ولكن هل تريد أن تفهم الواقع كما هو، أو تريده أن يكون كما تشاؤه. إنني أعتبر غرا كل مناضل يشتغل بأحسن الاحتمالات. وهذا مناضل سيء وكارثي.

كل خروج للشارع العام، سيكون صاحبه في مواجهة عسكريين، وأمن، وبلطجة، ومخابرات…يجب أن تعلم هذا وتعد له أهبته.
فلا تطالب المعايير الدولية والأخلاق، فإنك لست أمام مدنيين.
عندما خرج إخواننا في سوريا على النظام المستبد ووجهوا في أول خروج بالحديد والنار، وبالبراميل المتفجرة، وبأفتك الأسلحة.
هل هذا مقبول ومعقول، أن يوجه نظام أسلحة الأمة إلى أبنائه؟

كارثة وجريمة كل الذي صدر من نظام بعثي حاقد.
ولكني أتوجه إليك أنت، هل غيبت هذه الحقيقة.
هل كنت تنتظر أن تستقبل بالورود.

إنني أريد أن تفهم هذا وتعيه جيدا.

أن تقبله أو ترفضه فتلك قصة ثانية لا يسمع لأمنيتك أو رضاك أو رفضك.
ولقد قال الأمين زمانا: إن شجرة الحكم تسقى بالدم.

وعليه إذا خرج الأساتذة المتدربون إلى الشارع العام للتعريف بمظلمتهم، عليهم أن لا يكونوا من السذاجة بحيث سيستقبلون بما يريدونه ويهوونه. عليهم أن يخبروا من خرج معهم أنهم معرضون للضرب والاعتداء وربما للدماء ثمنا لما خرجوا من أجله.
وأفهم أن في بلدي قانون مصادق عليه من طرف نواب الأمة يقول:

1ـ المسيرة بالترخيص، لتحديد مسؤوليتها من طرف الموقعين على طلبها. وإلا تواجه باستعمال القوة.
2ـ الوقفات فيها خلاف قانوني، بين قائل بأنها مشمولة هي أيضا بطلب الترخيص، وبين قائل إنها لا يشترط فيها طلب الترخيص. والقانون غير حاسم في هذا الجانب أو ذاك.

وأنا أميل إلى الثاني، لأنها لا تحدث أثرا مخوفا في الشارع العام، وعليه فلا يشترط طلب الترخيص لها بالمرة، تعزيزا للحريات، ولانتفاء محذور الفتنة من ورائها.

وهذا فهم عندي وأنا لا أزال أناضل في الجامعة، وكنت أتلقاه من خبراء محنكين في القانون، ومنهم مسؤولون اليوم. لم يفهم بعض الشباب اليوم لغة حديثهم بالأمس. ليظنوا أن هناك انقلابا في الرأي.

ولذلك أتساءل: هل استعمال القوة المفرط والمدان في جانب الإفراط فيه، قد حصل في الوقفات أم في المسيرات؟

إن كان قد وقع في الثاني فعلى الطرف المساهم في المسيرة والذي تصدرها وهو إمام الطلبة فيها أن يشيع ثقافة قانونية في الذين معه، يؤطرهم، ويساهم في الوعي الحقوقي لديهم. فإن اختاروا الأسوأ أن يمضوا فيه وهم على وعي به فلهم ذلك. ولكن أن يتم تخديرهم بأحلام وردية، هذا مؤسف. ولكن لا تطلبوا من أحد أن يناصركم في مخالفة القانون، وإن كنت لا أقبل الإفراط في استعماله.
فهذا رأيي الذي كتبته وعبرت عنه بوضوح، غير أن بعض الأبناء مشغول بمهام مطوق بها محليا وجهويا ووطنيا، لم يجد الفرصة للقراءة لنا. فما ذنبي إن لم تطلع على رأيي الذي صرحت به لوسائل الإعلام، وكتبت لها في الذي حصل.

النازلة الثانية: أناس اجتمعوا في مؤسسة علمية مع مسؤول حكومي، للتحاور والنقاش. فقرروا أن لا يناقشوا وإنما يعربدوا ويزعقوا..
فهل النازلتين سواء.

هل تريد مني أن أجعل مائدة الحوار كمائدة النضال والشعارات؟

هل ما سيقوله رئيس الحكومة غلط أو صحيح، كل ذلك متروك لتقدير السامعين له، والرائين لشريط الموضوع.
كنت أود أن أسمع له، وأسمع لمعارضيه حتى تنجلي الغشاوة عني وتساعدني في اتخاذ القرار الصائب، وتساعد المجتمع كله لكي يفهم ويقرر ما يراه هو أيضا.

فماذا رأينا؟

رئيس للحكومة يريد أن يلقي كلمته، ويحاور من يريد أن يحاوره أما الشعب. ومشاغبون لم يريدوا له أن يتكلم.
هل تريدون مني أن أجعل الواقعتين متماثلتين؟

تريدون مني أن أجعل النزال في الشارع، كالنقاش في حرم علمي.
هل يتحاور الناس في الشارع؟ هل يتحاور الناس والأصوات مبحوحة بالشعارات؟
مالكم كيف تحكمون؟!

ولتعلموا أن الناس أوزان.

فهذا رئيس حكومة دولتكم أحببتموه أو كرهتموه، لكنه مسؤول عنا جميعا، لم يأت بإكراه الناس، بل جاء بصناديق الاقتراع.
ولم يأت كي يحكمنا أبد الآبدين، وإنما جاء ليحكم مدة لن تتجاوز الخمس سنين، ثم يعرض حصيلة عمله بما له أو عليه على الشعب، وليس علي أو عليك. وليعاقبه الشعب على سوء إدارته إن رأى ذلك. وليبحث لنفسه عن غيره.

إن أهل السنة والجماعة أن الحكم في الناس لا يمتلك شرعية إلا برضا الناس أو غالبهم.
وإن الشيعة لا يلتفتون إلى رضا الناس، وأن قيادة الناس منصوص على أئمتها عندهم.

في كل الكون، أروني نازلة واحدة لمسؤول حكومي في أية دولة قوبل بالشغب ثم لم تتدخل القوة للقبض على المشاغبين عليه؟
أن تواجهوه بالحقائق، وتكذبوه، وتفضحوه، وتخرجوا لنا ما عندكم من الحجج التي تقنعوننا بها، وتناظروه بكل شرف. هذا مما أعتز به حتى ولو لم تفلحوا، أو لن تصيبوا.

أما أن تنزل بأخلاقك في مدرج حوار إلى الصفير والصياح .. فكيف سيتبين الناس الحق من الكذب؟ وكيف هي صورتك التي تنطبع في ذهن الآخرين عنك؟

ولقد طلب مني بعضكم أن يحاورني ويناظرني ويكشف أخطائي، وإني خائف على نفسي أن نقع في التهارش.

هل الأخطاء تكتشف بإثارة النقع؟
ولذلك أعتذر.

إني أتحاور مع العقلاء في كل بقاع الدنيا التي زرتها، وأنا مطمئن على نفسي، لأني أعلم أنني في الحوار قد يكون رأيي صواب وقد أحيد عنه.

ولكن لا أستطيع أن أدخل حوارا صاحبه يقتنع أن الاحتجاج بقطع كلام المحاور حق. وهو يؤمن إيمانا دينيا أن الأحزاب كلها خروج عن الشريعة.

إذا كانت الأحزاب كلها خارجة عن الشريعة فلماذا تبحث عن مناصرتها؟ ولماذا تطالبها بالنصرة؟ هل هذه انتهازية أم لها تسمية أخرى؟

إن الخارج عن الشريعة من أهل ملتنا لا يتودد له من أجل المصلحة الخاصة، حتى إذا انتفت قلبنا له ظهر المجن.
أهذه شهامة ونخوة ومروءة أدبية.

إن إقبار الحوار إذا وجد، معناه الدخول إلى السيبة والتسيب والفوضى.
ثم يتألى هذا البعض على الله من خلال صورة لبنكيران يبكي، قائلا: والله العظيم هذا الرجل بوحاطي”.
والذي أعرفه أن الانسان وإن كان عظيما أو كبيرا تستولي عليه لحظات ضعف إنسانية فيبكي كما الأنبياء والصالحون، وكما الطالحون والفجار. الجميع تحت قهر الإرادة الإلهية. 

والذي يبكي من عموم الناس إما أن يكون صادقا في حرارة دموعه، أو كاذبا يستدر بدموعه عطف الناس عليه. 

وأنا عاجز أن أتألى على الله عز وجل، فأقسم بالأيمان المغلظة أنها دموع كذب لا صدق فيها. فأخبروني عن الطريقة التي توصلتم بها إلى أن تكتشفوا بها صدق الناس من كذبهم. وتقسمون على أن اكتشافكم الي أقسم عليه لن تحنثوا فيه أبدا.
عاجز أنا أن أشهد لأحد له أو عليه بيقين، أقول شهادتي فيه، وأتحفظ لديني بالقول: كذا أحسبه، وَاللهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أَعْذِرُ عَلَى اللهِ أَحَدًا، ولا أزكي على ربي أحدا.

أما أن أقسم بأغلظ الأيمان، فإني لا أقدر ديانة، لا أقدر، لا أقدر.
ولعل غيري عنده شجاعة وقدرة لا أملكها.

والذي أعرفه عن ديني أن الله استنكر بشدة أن يتألى عليه أحد في خلقه، وقد قال الله تعالى: من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلانٍ، فإني قد غفرت لفلانٍ وأحبطتُ عمَلك”(أبو داود).

في بحر هذا الأسبوع قرأت تقريرا مفصلا عن حصيلة بنكيران بعيون النخبة المغربية. ورأيت شهادة ورأيت شهادة ناشط حقوقي ومؤرخ هو السيد المعطي منجب الذي أضرب عن الطعام ضد الدولة والحكومة في قضية مشهورة عام2015م، وتعاطفت معه كل الهيئات الحقوقية الدولية والمحلية، وأصبح حديث المغاربة. لم يخلط الرجل مظلمته القريبة بالحقد، فقال منصفا: هذه حكومة لها كرامة سياسية، وبنكيران له جرأة انتقاد رجالات النظام .. في كلام طويل، ومنه قوله: وفي رأيي، فإن هذه الحكومة برزت نتائجها بشكل خاص على المستوى المعنوي، وذلك هو سر شعبيتها المستمرة بالرغم من كل ما يقال…

لست ـ والذي نفس الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ونفسي بيده ـ أريد من خلال شهادة حقوقي شرس في المغرب أن أكيل المدح للحكومة. معاذ الله.

ولكني ألتقط من شهادته وشهادة غيره ـ ومنهم خصومه ـ كيف يفهم الناس واقعهم على حقيقته، ولا يخلطون وضعهم بواقعهم، ولا يجعلون لوضعهم السبيل في القراءة. وتبين لي أن الرجل انتفع بالتاريخ الذي هو متخصص فيه.

والغريب أن الحقوقيين الذين جاءت شهادتهم في ذلكم التقرير إن قرأتموه آخر بحر هذا الأسبوع، لم ير واحد منهم أن رئيس الحكومة سيء أو عاق، بل كالوا له المديح وهم تيارات شتى، وتوجهات متخاصمة مع توجه السيد الرئيس.

وحتى ذهب محام وحقوقي ومسؤول من العيار الكبير والشخصيات البارزة، ومن تيار لا هوادة، إلى القول: إن وجود بنكيران وحده مكسب للبلاد.. وبالنسبة إلي، تبقى حكومة بنكيران أفضل الحكومات منذ الاستقلال.
هكذا صرح، وهو غير متملق له، أو حقود يضن بشهادته.

الكبار يقرأون الواقع من خلال ما هو عليه، والصغار يقرأونه من خلال واقعهم هم. فهو عندهم سيء إذا لم يحصلوا على رغيف أو رغيفين، أو لم يتحقق لهم مطلب أو مطلبين. وهو ممتاز إن ظفروا به أو بهما معا.

الواقع هو مطالبهم ومختزل فيه.
وعند الممات توزع التركات.

وإن تنزلنا جدلا أن المسؤول الحكومي عقكم قبل أن تعقوه. فإنه يفهم منه جواز عقوق الأبوين إن عق أحدهما أحد أبنائه.
فأي شرع وشريعة هذه التي أجزتم بها للولد وأبحتم له أن يعق أباه. ولئن صحَّت الرواية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك، ولا أخالها تصح، فهل يفهم من قول ابن الخطاب أنه يجوز للابن أن يعق أباه إن أساء الأب في حقه؟؟

لم أجد هذه الرواية إلا عند القصاص الذين تستهويهم المغربات. فإن آمنت به يا ابنتي، فعسى أن يبتليك الله بأبناء يعاملونك بفهمك وما نطقت به، وكم من معاقب في الدنيا على ما نطق به لسانه حصيدا لإطلاق العنان من غير ضابط. فانتظري ولا تطلبي ساعتها إصلاحا للعوج، أو تراجعا عن فهمٍ دفع إليه اللجج.

واذكرني ساعتها أو لا تذكرينني.. فإن النعجة لا يهمها السلخ بعد الذبح كما قالت ابنة الصديق.

وما أعلمه من ديني أن العقوق والصراع بين الأبوين كان زمنه صلى الله عليه وسلم، ولم يُجز للابن أن يعق أباه وإن أساء إليه.
ومما بلغنا صحيحا أن ابن أبي الصلت كان له شيء مع ابنه في الموضوع، في قصة طويلة رواها عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه، تتضمن قصيدة رقيقة مؤثرة، وكيف حكم صلى الله عليه وسلم للأب على ابنه.

بل وكيف نزل جبريل بسرعة وغضب علوي على العقوق، قائلا لسيد الخلق: إن الله يقرئك السلام, ويقول: إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه…

ومما جاء في القصيدة الطويلة التي ألقاها الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم، بعد طلبه سماعها منه. وهي مما قاله في نفسه دون أن يستطيع الإعلان بها:

فلما بلغت السن والغاية التي *** إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة *** كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي *** فعلت كما الجار المجاور يفعل
تراه معدا للخلاف كأنه *** برد على أهل الصواب موكل

في قضايا عديدة لم يشجع فيها الاسلام العقوق بالاختلاف في الرأي بين الأبوين. ولكن البعض تراه دائما مستعد للخلاف وللرد، كأنه وكيل على الرد، كما أفصح الشيخ به في آخر بيته.

ولعل إسلاما جديدا، ومعاني لم ترد بها الشريعة. لم ينخل أصحابها معارفهم، ولم يتحصرموا بعد، فاعتبروا أن ما عندهم مزجاة، خالص يمكن الرمي به في كل ناد.
وما حيلتي إن اختار بعضكم العقوق لنفسه، وجاهر به ورضي وتابع، ولم يستنكف أن يسمى عاقا بغض النظر عن السبب.

ــــــــــــ

أستاذ التعليم العالي