منوعات

اليحياوي يكتب: في القابلية للتغيير

القابلية للتغيير (والتغير أيضا) تتأتى من المقدرة على ذلك، ومن الاستطاعة لإدراكه، ومن التوق إليه والتحمس لتجسيده، أيا ما تكن المعوقات والمثبطات. إنها، بهذا الشكل أو ذاك، تطلع لإدراك مبتغى ما (مبتغى التغيير في هذه الحالة)، يجند الفرد كما الجماعة بموجبه، قدراتهما على العطاء والتضحية، حتى وإن تطلب الأمر لبلوغ ذلك، التسليم في الرزق أو الطموح أو الحياة حتى، لأن المطلب أقوى بكل ذلك بكثير.

القابلية هنا لا تحتكم إلى مصلحة خاصة، فردية ومباشرة، ولا تنبني على تطلع لإدراك هذه المنفعة الذاتية أو تلك، مادية كانت أو رمزية. إنها تتغيأ مصلحة الجماعة والمجموعة، حتى وإن كان في ذلك تضحيتها بذاتها، أو ترتب عن كل ذلك إجحافا في حقها، بناء على هذا المسوغ أو ذاك.

ثم إنها لا تحتكم إلى حسابات ولا ترتكن إلى ترتيبات. إنها تفعل بطريقة تلقائية، يستوجبها التغير ذاته، وتشترطه مقومات ذات التغيير في الشكل كما في المضمون على حد سواء.

إننا لا نقول هذا الكلام من باب التوصيف الجاف، ولا من باب النصح والنصيحة. إننا إنما نقوله بغرض الاستئناس به، للنظر في مدى تجاوب حالتنا بالعالم العربي مع ذلك، إذا لم يكن بالجملة التي لا تقبل التجزيء، فعلى الأقل من باب التفصيل المحيل على التدرجية في الزمن.

ويبدو لنا، بالقول أعلاه، إننا لا نحتكم حقا وحقيقة إلى ذات القابلية في عالمنا العربي، ليس فقط بحكم تمنعها تمنعا بنيويا من بين ظهرانينا، ولكن أيضا لأننا لم ننجح في استنباتها بالفعل الملموس وبالتفاعل المطلوب:

– إننا لا نطيق التغيير كثيرا، فما بالك أن تتوفر لدينا القابلية لإعماله، ليس فقط لأنه يبدو لنا مصدر خوف وقلق، ولكن أيضا لأنه يمثل، أو هكذا يبدو لنا الأمر، مصدر زعزعة لقارية مصالحنا وذواتنا، كبرت هذه المصالح والذوات أم صغرت. إنه يخال لنا من قبيل الريح العاتية التي من شأنها أن تأتي على استقرارنا واستقرار ما كسبت أيدينا، حتى وإن كان هذا الكسب غير ذي قيمة مادية ومعنوية كبرى.

– ثم إننا لا نطيق التغيير، ولا مقدرة قوية لدينا على إعماله أو تفعيله، لأننا لم نتعلمه بمجتمعاتنا ومدارسنا، ولم يلقن لنا باعتباره سنة من سنن الكون، ولم يتم تطويعه ليصبح جزءا من منظوماتنا الحياتية، ومن ثقافتنا وقيمنا وسلوكنا. إننا، بداخل الأسر، كما بحجرات المدارس ومدرجات الجامعات، ننشد الاستقرار والاستمرار مضمون العواقب، ونخشى من كل تغيير أو تحول، لأنه يبدو لنا مكمن تهديد، أو عنوان تبديد أو حمالا لمخاطر، إن لم نحتط منها أتت من بين ظهرانينا على الأخضر واليابس.

– ثم إننا لم نسمع من حكامنا وأولي أمرنا وأهل العلم من ضمننا، ما يفيد بأن في التغيير حركة ونمو، وفي الاستقرار و”الاستمرار على الدرب” إهدار للطاقة وللزمن. وإنما سمعنا منهم بأن التغيير بلاء والتحول شقاء، وأن ما سوى ذلك كلام وإثارة لنعرات الفتنة.

هي بالتالي ثقافة عامة، شائعة، ويراد لها أن تشيع أكثر، تتعمم ويعاد إنتاجها إلى ما لا نهاية، ليس لأن للحاكم فيها مآرب ومصالح، ولكن أيضا لأن “الرعية” مطواعة، تنساق مع ذات الخطاب، ولا تدرك أن بالأمر إيديولوجية محددة، تحارب التغيير والتحول، وتستمد قوتها ووجودها من الاستقرار والاستمرار، استقرار الوضع واستمرار واقع الحال.

ثم هي ثقافة شاملة (تشارف على الشمولية)، يجند لها المجتمع وأولي الأمر منا، كل ما أوتوا من جلد وإمكانات، بغرض إشاعتها وترويجها ونشرها على نطاق واسع. إنهم يجندون لها البرامج المدرسية والجامعية، يرتبون لها منصات النقاش والتداول، ويفردون لها شبكات برامجية كاملة بوسائل الإعلام والاتصال، ناهيك عما يولونها من أولوية بخطب المساجد ووعظ الفقهاء.

إن القصد بالحالات مجتمعة، إنما قتل التغيير، ووأد سبل استنبات القابلية للتغيير، بالضمائر والنفوس، كما بالأقلام والسيوف.

السائل يسأل: وما القول في انتفاضات “الربيع العربي” التي أسقطت عروشا وغيرت نظما وجردت أطروحة الاستقرار من مقوماتها؟ أليس بها ما يعبر عن أن القابلية للتغيير كانت متوفرة وقائمة في “بلدان الربيع العربي”، ولم يكن ينقصها للتمظهر بالمجال العام، إلا بعض من الغضب والجرأة؟ أليس هذا تكذيبا لما يروج له أصحاب “سكونية المجتمعات العربية”؟

هي تساؤلات في الصميم دون شك، إذ عبرت انتفاضات “الربيع العربي” حقا عن آمال كبيرة في التغيير والطموح للتجاوز على التكلس الذي طبعت به أطروحة الاستقرار واقع هذه البلدان. بيد أن هذا لا ينفي ذاك، إذ سرعان ما انحسر المد وتراجعت الآمال، ومنت الجماهير نفسها ببعض من الأمن والأمان، بعدما طالتها الفوضى والتسيب، وبات الكل في ظل هذا الواقع الانتقالي المتردي، يتحالف مع الكل وضد الكل. ألا تحن “بلدان الربيع العربي” اليوم إلى النظم السابقة؟ ألم تعترف لهذه الأخيرة بأنها كانت صمام أمان ضد القتل على الهوية وعلى الطائفة وعلى الانتماء الحزبي، حتى في ظل الظلم والاستبداد؟