وجهة نظر

من أجل قراءة متأنية لفاجعة إنزكان !

أمِن مكر التاريخ أن يقع في نفس اليوم الذي ستعرض فيه الحكومة مشروعها لإصلاح أنظمة التقاعد، إنزال عقاب جماعي في حق الأساتذة المتدربين والدوس على الوثيقة الدستورية الضامنة لحق الاحتجاج وحرية التعبير؟ أم أن هناك رسائل تود جهات معينة أن ترسلها في اتجاهات -هي من ينتقيها بدقة- توقِّع بِها أن مَكْرَها أصدق أنباء من التاريخ ومن الكتب، وأن في حدها الحد بين دماء سيلت بسخاء أو أسيلت على أسفلت هذا الوطن البارد، وبين دم وثيقة يراد له أن يتفرق بين القبائل وتتلاشى فيه المسؤوليات؟

بداية لابد من التأكيد أن الاعتداء على محتجين أمرٌ مرفوض، وأن التدخل الأمني العنيف في حق الأساتذة المتدربين بإنزكان وبقية مراكز التكوين مُدان، وموسوم بالشطط والتجاوز وغير متناسب تماما مع الفعل الموجب له، وأنه من مسؤولية الحكومة الكشف عن ملابساته وترتيب المسؤوليات السياسية والجنائية فيه، وحيث إن التوقيت وحجم الشطط في هذا التدخل لا يمكن قراءتهما إلا ضمن متن متكامل من الوقائع والأحداث، تندرج ضمن استراتيجيات النكوص والارتداد وتروم إغلاق القوس الذي تم فتحه ذات حراك، والإنقضاض على اللحظة ومعانيها تعميقا للريبة ودعما للتيئيس الممنهج من الإصلاح وجدواه، ومن كل المفاهيم التي أطرت اللحظة السياسية بمستحقاتها الدستورية، من قبيل إمكانية التغيير من داخل منظومة الاستقرار، ومتعلقاتها المنهجية من دعم للحكامة وتكريس للشراكة وربط للمسؤولية بالمحاسبة، ولا غرابة في ذلك مادام المنجز في الصيغة المغربية للانتقال قد تم عبر قناة الاستمراية والتي تعني حدا أدنى من التوافق بدل اللإلغاء التام، والإصلاح في مقابل الثورة أو ما جرى في معناها، وما يقتضيه ذلك من استدامة للثنائية في النسق الواحد بين الديمقراطية ونقائضها المتعددة من السلطوية والتحكم وأخواتهما، وبين التحول والجمود، وبين قوى الدفع إلى الإمام وفلول النكوص إلى الوراء، والتجارب المماثلة دليلُنا على أن في مثل هذه المراحل الموسومة بالانتقال غالبا ما يشتد الصراع بين هذه التناقضات، وتعتريها موجات من المد والجزر مستمرة، إلى أن تحين لحظة الحسم النهائي وهي لحظة لا تكون بالضرورة طفرية أو فجائية، إنما تستند في تشكلها على المنطق العام الذي بنيت عليه مرحلة انطلاق التحول، أي التراكم والتدرج وتخصيب بنية التحول ودعمها في أفق خلخلة البنيات الموازية وتفكيك آليات اشتغالها وشل حركتها بشكل نهائي، وهو الأمر الذي لن يقع إلا بتقوية صف الإصلاح ودعمه، والاحتياط الكامل واليقظة التامة من الانجرار الى اصطفافات موهومة، برهانات ملغومة، ولكن بفواتير غالية يؤديها الوطن من خلال تعطيل مسار الاصلاح وشل حركية قواه الحية، وحشرها في الزاوية الضيقة لَجْما للمبادرة لديها، مما يخدم حتما قوى النكوص والارتداد ويسهل عليها الوصول لهدف تصفية خصومها بأدوات ووكلاء ليسوا كلهم على وعي بنتائج حركاتهم وردود أفعالهم، ولا بمدى الضرر الذي يلحقونه بأنفسهم قبل من يُخيل إليهم أنه خصمهم أو ُصِّور لهم على أنه خصمهم.

وعودا على بدء فإنه قد تراكم من الوقائع ما لا يترك مجالا للـتشكيك في صحة التحليل أعلاه، إلا أنه ومباشرة بعد النزال التاريخي للرابع من شتنبر بين البنيتين المومأ إليهما فيما سبق، وحجم الخسارة التي لحقت بنية الجمود ونوازع الردة والنكوص، وهول الصدمة التي حلت في ساحتهم، فإن حجم المواجهة قد اشتد، وأوار المعركة قد استعر، وبدت المقذوفات تتلاحق بشكل كثيف ومُرَكَّز، ولكن وفقا استراتيجات محكمة ومسطرة بدقة من حيث مضمونها ومن حيث الإخراج في التوقيت والمكان المناسبين، أما الأهداف فهي معلومة وإن كانت بطبيعة الحال غير معلنة، ويتم التمويه عنها باختلاق عناوين للتهييج من قبيل استحضار الدُوسترانية في قراءة فجة للواقع وللنص الدستوري، لا تستحضر الخصوصية ولا الكسب التاريخي ولا إكرهات النسق ولا تعاقدات المرحلة.

وقد يكون من حق المعترض أن يدفع في اتجاه أن المنطق يستدعي إعادة ترتيب رقعة اللعب وقواعده على أرضية أخرى، مادامت موازين القوى موسومة بالاختلال لصالح قوى الجمود، ومادام أفق اللعب في ظل ذات القواعد غير مضمون النتائج، أو أن الوقائع من قبيل التي تحدثنا عليها تفيد عدم جدوى مواصلة السير في نفس الطريق، وهذا الاعتراض وإن كان يبدو مقنعا لأصحابه ولفئة عريضة من المتلقين والمتتبعين لتموجات المشهد السياسي، إلا أنه يفتقر الى عنصرين أساسيين لكسب رهان الصدقية واستدامة النجاعة النظرية، أولهما ذاتي: يتعلق بسقوطه في قراءة تجزيئية لا تستحضر متن التحول الممتد في الزمان والعميق في بنية المجتمع، وهو مبني على التراكم بآلية التدافع، وهو محصن في مجراه وفي سيره المتصاعد وإن تلبست به بعض التموجات والارتدادات التي لن تؤثر في منحنى الصعود الذي يحقق بالتراكم فائض القيمة ويرصدها لصالح الشعب ومكتسباته، ثانيهما موضوعي: يتعلق بقراءة للمحيط تجعل اختيارنا في المغرب هو الأفضل والأكثر مردودية برغم العوارض والشوائب الطبيعية في مشهد الصراع وتقابل الثنائيات المتحدث عنه سلفا، وهذه المردودية تتجلى أساسا في استدامة نعمة الاستقرار بكل ما تعنيه من تحقيق لمعدلات النمو و في المبادرة لاقتراح البرامج الاجتماعية و التنموية وتقديم الحلول للأزمات الهيكلية المتوارثة والمنذرة بتفجير الوضع وتأزيم الواقع، وحري بنا أن نكون واقعيين في تحليلنا لمجريات الأمور بمنطق عام يستحضر هذه المكاسب، ويقارنها بمقابلها الذي تجود به وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لمحيط مضطرب وبلا أفق.