وجهة نظر

الدين و السياسة الدولية

ساهمت الأديان، عموما، بأدوار أساسية في التشبيك بين المجتمعات والأمم، ويختلف دور الدين في السياسة بحسب الإطار الثقافي والاجتماعي والتاريخي الذي يتحرك داخل توازناته وأطره المرجعية وهياكله. من هنا، تباينت الأدوار السياسية والوظائف من منطقة إلى أخرى، سواء في إطار الدفع نحو تبرير النزاعات والمزيد من الانقسامات أو في سبيل البحث عن طريقة لإقرار السلام.

وقبل تحديد دور الدين في السياسة الدولية، لابد من الإطلالة على جملة من تعريفاته كما نبحث في العلاقة التأثيرية بين الدين والعلاقات الدولية.

الدين مصطلح مثير للجدل في العلوم الإنسانية، ومحاولات تعريفه مختلفة في منطلقاتها، فمنها ما منطلقه إيماني روحي، ومنها ما منطلقه إلحادي، ومنها ما منطلقه عقلاني يحاول دراسته كظاهرة اجتماعية أو نفسية أو فلسفية، فالدين يستدعي كتجربة روحية وواقع يومي يتحرك على الأرض أحيانا، ويستدعي كتاريخ وممارسة أحيانا أخرى، ويستدعي أيضا كنصوص مقدسة أو كقيم مجردة.

يعرف الدين، عادة، أنه الاعتقاد المرتبط بما فوق الطبيعة، وبالمقدس والإلهي، كما يرتبط بالأخلاق والممارسات والمؤسسات المبنية على ذلك الاعتقاد. فهو “نظام متكامل مع المعتقدات، وأسلوب حياة وشعائر ومؤسسات، يمكن من خلالها للأفراد أن يجدوا معنى لحياتهم بالتوجه إليه والالتزام بما يعتبرونه مقدسا أو له قيمة نهائية “.

أي أنه مجموعة من القواعد الصورية نسبيا، التي تحدد العلاقات بين الأفراد والجماعات، ولهذا التعريف صلة بالعلوم الاجتماعية، لأنه يتناول السلوك الإنساني داخل الجماعات، كما يتناول الشعائر والمعتقدات التي تساعد على تحديد تلك الجماعات، وله صلة أيضا بالعلوم الإنسانية، لأنه يؤكد معنى الدين بالنسبة لمعتنقيه.

إلاّ أن الواقع الديني حقيقة وقتية لا يمكن عزلها عن مقامها الزمني. وهو واقع متعدد، يمكن مقاربته، رغم صعوبة إدراكه خارج إطاره الزمني الذي يسجل فيه، وقد يكون عاملا مساعدا على الاستقرار و السلام في سبيل تجاوز العداء، كما يمكنه أن يكون هداما، لقدرته على تغذية العنف واللجوء إليه، و هو ما يؤخذ على الأديان عادة.

وعلى الصعيد الدولي، سعت المنظومة الدولية الحديثة منذ تشكلها بعد توقيع اتفاقية ويستفاليا سنة 1648 التي أنهت رسميا الحروب الدينية –الإقطاعية في أوروبا ، إلى أن تكون العلاقات الدولية علمانية لا تستند إلى أية مرجعية دينية، وعرفت هذه المنظومة موجات متلاحقة من التطور.

لابد من التمييز، بين أدوار الدين في الحروب في مراحل تاريخية سابقة، ودوره في السياسة الدولية إذ يختلف حجم توظيف الأديان ونوعه ومساحاته باختلاف المراحل التاريخية، وباختلاف نوعية الفاعلين الدوليين الأساسيين في إطارها.

وهنا تكمن صعوبة وضع تعميمات عامة حول دور الدين على مستوى الدولة، وضرورة الانطلاق من الساحة الدولية، خلال النصف الثاني من القرن العشرون، لفهم دور العمل الديني في السياسة الدولية.

لقد اعتقد الكثيرون، مثل السوسيولوجي الألماني Max Weber (1864-1920)، في دراسته لعلاقات الأديان بمحيطها، في “مقالة في الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية “، أن الدين والزمن الحديث متضاربان ويقصيان بعضهما، فقد كانت الحكمة السائدة هي أنّ الحداثة ستقضى لا محالة على الحيوية الدينية، وأنّ صيرورة اللاّئكية ستؤدي إلى اختفاء الدين من الساحة الدولية المنشطرة.

وبالمقابل كان العامل الديني، المصدر الرسمي لتعيين الحدود الوطنية وإقامة الدولة. ويتبادر إلى الذهن، للوهلة الأولى، حالة إسرائيل، لكنها ليست الحالة الوحيدة، فتقسيم الهند البريطانية سنة 1947، بين دولة ذات أغلبية دينية مسلمة هي باكستان، ودولة ذات أغلبية هندسية هي الهند، تعبير آخر عن تأسيس وحدات سياسية إقليمية على معايير دينية.

وكان للدين وظيفة أساسية في بلورة الهويات المتنازعة في مجتمعات عديدة، وأصبح غطاء لبناء الحدود بين الهويات. فمثلا، لا يمكن فهم العلاقات التركية اليونانية خارج إطارها التاريخي والديني، كما أن مشكل البلقان يبقى غير مفهوم إذا لم يأخذ بعين الاعتبار التورطات العقائدية.

استخدام الدين كذلك أداة في التغييرات السياسية الواسعة النطاق أو الانقلابية، ووسيلة لتحيق التوازن السياسي بين جماعات سياسية مختلفة، فقد ارتبط بالدعوة إلى التغيير-الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ووظّف في تعبئة ملايين الناس لمعارضة الأنظمة الشمولية، وساعد على إنهاء الحكم الاستعماري، ومهد للديمقراطية في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وقسم من أفريقيا وآسيا. فمثلا، لعبت الكنيسة الكاثوليكية في حقبة ما بعد الفاتيكان دورا حاسما في مناهضة الأنظمة الشمولية، وإضفاء الشرعية على التطلعات الديمقراطية للجماهير، مثلما وقف البابا يوحنا بولس الثاني مع قوى التغيير في بولونيا.

كما كان الدين وراء الثورة الإيرانية والإطاحة بالشاه، وعزز الصراع ضد الفصل العنصري، في جنوب أفريقيا، زعماء دينيون، مثل الأسقف ديزموند تيتو. ويلعب الدين أيضا وبالأحرى الشروح والتأويلات البشرية له، وظائف مهمة وحيوية في اللعبة السياسية الداخلية، كإطار إيديولوجي وخطاب سياسي يسعى للسلطة وتقف وراءه حركات ومصالح وفئات اجتماعية، فلا يمكن إغفال خصوصية الدين مصدرا محوريا من مصادر الشرعية السياسية التقليدية، ودوره في تهجين نظام المشروعية الحديث بموروث تقليدي، حيث يلعب الدين دورا بارزا في دعم السلطات الحاكمة، وتبرير الخطاب السياسي والاجتماعي، والسياسات العامة.

ووظّف الدين أيضا أداة لحفز الحيوية السياسية والاجتماعية للشعوب، في إطار مناهضة التحلّل، والتفكك، والفساد، والانهيارات الداخلية، على مستويات القيمية والأخلاقية والعائلية، كما وظّف في استراتيجيات بناء الهوية بعد تصدع الأطر الإطلاقية والشمولية السياسية، باستعارة المعاني من الأطر المرجعية الدينية، فاللجوء إلى الدين إطارا توازنيا وحمائيا ونفسيا، لا يحتاج إلى ثقافة مركبة، إذ يقدم إجابات عن الأسئلة الوجودية التي ينطق بها العالم.

لقد خرج الدين من معركة الاستقلال أكثر قوة وتجديدا، أضيف إلى بعده الروحي التقليدي بعدا جيوسياسي، فلم يعد مجرد شعائر بسيطة، وإنما دعامة للهوية أيضا. واعتبر انتقاده ورفضه خيانة للهوية الجمعية.

أماّ عن حالة العنف التي تضرب بعض دول العالم الإسلامي فقد علمتنا أحداث التاريخ أنه في عالم السياسة لا توجد صدف وأقدار، ولكن هناك دول وأنظمة وأجهزة مخابرات تعمل ليل نهار من أجل خدمة مصالح دولها، ومن تم فإنّ السؤال ليس من هو السبب في ذلك و لكن من المستفيد منها؟

وإجمالا، الأديان، بنى اعتقادية وقيمية ورموز وطقوس، لا تتقاتل، قد تختلف جوانبها العقدية أو التشريعية أو الطقوسية، لكنها لا تتحرك إلى ميادين القتال لتحارب أو تبشّر أو تدعو وتساجل دينا آخر، والبشر، مجسدين في شعوب وعرقيات و قوميات، هي التي تذهب بالدين إلى هذه الساحات، غطاء لمصالح اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، فالدين ليس كالقوة المالية التي هي رأسمال خام سلبي، يمكن توظيفه في التبادل والمساومة والتفاوض، بل هو رأسمال إيجابي وفاعل، مؤسس على الرجاء والمخاوف الإنسانية التي يمكن تحجيمها، إذ ليست لها الحدود الظاهرية للمال، لكن اللامنتهى الميتافيزيقي للإيمان.

هكذا أصبح الدين في العلاقات الدولية موردا ثقافيا أصيلا لشرعنة القرارات، على أساس الهوية، وتحقيق الوحدة والتضامن، كما يمكن توظيفه لتبرير النزاعات تارة، وتحقيق الوئام تارة أخرى.

ومثلما يمكن توظيف الدين لشرعنه النزاعات وأرضية للاستقطاب، يمكن أن يوظف أيضا في الدعوة إلى الاعتدال، وحل النزاع وعمليات المصالحة، إذ يبقى الاعتدال الثابت الأكثر استحسانا في العمل الديني، مؤسساتيا ودستوريا، داخليا وخارجيا، وعاملا مساعدا على تميّز السياسة الخارجية والسلوك الدولي لبعض الدول. وهو في الوقت نفسه، مؤشر على اختفاء الحواجز بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية لخصوصيته عبر الوطنية.

ــــــــ

عبد الصمد العلوي أبو البركات / باحث في العلاقات الولية