منوعات

إصلاح أداة الإصلاح (1/3)

الجزء الأول :

ـــــــــ

مثلما أنّ خط الإصلاح الشامل هو مبرّر وجودنا كجزء من العائلة الإصلاحية الوطنية المنحازة للاختيار الديمقراطي الحاملة لمشروع النهوض المجتمعي، فإنّ ‏استقلالية القرار السياسي والحفاظ على سيادته، مع التزام الحريّة المقرونة بالمسؤولية نهجا في النضال وأسلوب حياة، هما مبرّر وجودنا كمناضلين سياسيين ملتزمين بقضية الإصلاح العام للبلد .

 فلا معنى لوجودنا-بهذا المعنى- ‏إن لم نلتزم مبدأ العمل على الانتقال بأنفسنا من مجرد أتباع أو رعايا لمنظمة فئوية وبقايا طوائف حزبية مغلقة أ‏وأذيال لزعماء وقادة مفترضين، إلى أن نصير مواطنين أحرار ذوي إرادات مستقلة وقامات ‏سامقة طامحة للفعل في اتجاه التحويل الإصلاحي للدولة والمجتمع .

ولا معنى لوجودنا-كقيمة مضافة- إن لم ننتصب للدفاع الأخلاقي والضروري ‏على مقترفي الرأي والباذلين للمواقف، وأن ننحاز مبدئيا لجهة ضحايا العسف السلطوي بالرغم مما يمكن تسجيله معهم في دوائر الاختلاف الفكري والسياسي والتنظيمي .

أصالة المنطلق ونبل الأهداف، لا تكفي لحماية المسار من التحريف

ونحن في مسارنا السياسي الجديد نكون في حاجة ماسة وحاسمة لتوطيد أركان حياة حزبية سليمة، نستخلص منها الدروس والعبر من التحول الذي طال تجارب بعينها، وحول مسارها وغير مسيرتها ونحن اليوم نعاين الآثار المدمرة التي تركها ذلك التحريف في المقاصد على إطارات حزبية عمرت زمنا ليس باليسير في حياتنا العامة والسياسية، وشغلت الناس، الان نحن نرقب بقاياها بعد الدمار ونتأمل خرابها بعد العمار.

فكثير من التجمعات البشرية والتنظيمات السياسية والكيانات الحزبية تكون منطلقاتها خالصة مبرأة من نزعات التحريف ومقاصد الوصولية والميكيافيلية،  تبدأ أصيلة وسليمة المنهج والفكرة والمنطلق، لكنها تتداعى للتحول تدريجيا في أهدافها والتنكب المتوالي مع الزمن عن مقاصدها الأولى.وهنا وجب العبرة من التاريخ باستدعاء التجارب الماضية واستخلاص الدروس منها ومن تحولاتها.

 إننا في هذه المرحلة من تطور حياتنا السياسية والعامة، نجد أنفسنا في حاجة ماسة إلى إبراز مفاصل وملامح وسياقات التشكل الأول للظاهرة الحزبية في المغرب، لتأكيد الوعي بأهمية الحفاظ على أدوار الأحزاب كتنظيمات مدنية في تطوير النظام الديمقراطي وترسيخه،

إن انبثاق فكرة التنظيم الحزبي، جاءت في بادئ الأمر، لحماية السيادة والتحرر الوطني وصيانة التعدد ورعاية الاختلاف، وهنا وجب التصدي لإعادة تعريف الفكرة الحزبية وظلالها،،

فلقد شهدت الساحة السياسية لبلدنا-في سالف العهود وماضي العقود- انبثاق الظاهرة التنظيمية الحديثة للدفاع أولا عن سيادة الوطن واستقلال إرادته إزاء حركات الغزو والاحتلال، ثم بعدها اكتسبت صفة حماية الحق في التعدد السياسي من نزعة التسلط والتسيد و لحماية الاختلاف الفكري من الانتهاك والتبديد في أفق النضال من أجل بناء الديمقراطية وتقييد سلطات الحاكمين، وقد تجسدت تلك الظاهرة سياسيا في ولادة لأحزاب بديلة- ازدادت وتكاثرت، بالإضافة إلى العريق منها- عبرت عن تيارات وتجمعات وتكتلات متفاوتة الأحجام والأدوار، مراعاة لسياقات ذلك التشكل وتجلية لأهمية المراحل التي أطرت الانعطافات الكبرى في أدائها السياسي،،.

وبهذا التحديد تعتبر القوى الحزبية تجسدا حيا لإحدى أرقى اطر العمل السياسي والاجتماعي الراسخة التي لا بديل عنها في المدى المنظور، فهي التي تنظم العمل العام وترقي الأطر والنخب، ويتم تقديمها للجمهور والمجتمع السياسي لتساهم في طرح البدائل، وتعمل على صقل مواهب الشباب وتعميق التزامهم بالأفكار الإصلاحية، وتدريب الناس على كيفية ترتيب شؤونهم وأفكارهم بغية  تطوير الحياة العامة لمجموعهم .

وهنا وجب أن نطرح السؤال الحاسم ونحن نملك جوابا قاطعا : من أين خرجت معظم النخب من المثقفين والكتاب والقادة والإداريين والإعلاميين ، إن لم تكن انبثقت من رحم أحزاب عملت جاهدةً على صقلهم وتكوينهم وفرزهم وتقديمهم للناس من خلال المسؤوليات التمثيلية والانتدابية .

ولعل المدخل العملي والمنطقي لاستكمال حلقات ذلك الوعي الديمقراطي، يكمن في كيفية إعادة تعريفنا لظاهرة تنظيمية نشأت بعد التطور الحديث للمجتمع المغربي الطامح لبناء دولة المؤسسات وترسيخ الخيار الديمقراطي منذ فجر الاستقلال الوطني، وتلك الحاجة تتأكد إذا وعينا بأن التنظيمات الحزبية تعد –إضافة الى ما سبق-أحد أشكال الدفاع الذاتي عن قيم المجتمع في الاستقلال والسيادة على خياراته وحماية التعدد السياسي في رحمه وتكريس نزوعه جهة التحرر والتقدم والتطور والرقي الديمقراطي.

 اليوم نفتح أعيننا من جديد على تطور الفكرة الإصلاحية سياسيا، كما تجسدت في الحياة الحزبية المغربية، في تجربة أخرى ومن بوابة جديدة، لكن من منطلق أزمة الفكر وأزمة التنظيم وأزمة القيم والتحولات العميقة التي تطالها من جهة تغيير المقاصد وتحويل فاعلية الأهداف الأصلية التي وجدت من أجلها، أي تحويل المقاصد إلى وسائل واختزال التنظيمات في البعد الإجرائي والتقني ونزع الروح النقدية وروح الالتزام عنها .

السياسة التزام ونضال، لا تحريف للقيم وتحوير للاتجاه

لقد لفتنا الانتباه إلى منطلق نشوء التنظيمات الحزبية وأصله، لكي ننتبه إلى خطورة التجريف الجاري في الحياة الحزبية وإلى التحريف الذي يعمل على تحوير سيرورتها والانزياح عن قواعدها وأهدافها الإصلاحية الأصيلة، ذلك التحوير والتحريف قد يؤدي إلى تبديل مقاصدها وتحويل اتجاه النضال داخلها.

إن السياسة والعمل العام -في منظورنا كجزء من قوى الإصلاح في البلد- هي قيم والتزام ونضال ومبادئ ورؤية وأخلاق وتطابق السلوك مع الخطاب، وليست بالمرة مواقع ومنافع ومزايا وامتيازات وتمكين، السياسة في تقديرنا هي خطة واعية ورؤية متبصرة طامحة لتغيير عالم المواقف والأفكار والعلاقات وإدارة شؤون الناس بالصلاح والنفع بغية إيصالهم إلى السعادة والأمان والحرية والكرامة والعدالة والتقدم والديمقراطية والنهوض والتنمية. ذلك هو تعريف السياسة في المجتمعات التي التمست مسارا نحو التقدم الحضاري .

لكن مفهومها في بلادنا جعلها تتحول إلى منطق مساومة ومقايضة ومعاوضة، جعلت أهل السياسة-في المفهوم الذي ننتقده هنا- يشتغلون بتبديل المواقف والاختيارات كما يبدلون أحوالهم ومواقعهم، وجعلتهم يتنكرون لأبسط المبادئ والقيم من خلال تغييبهم للحد الأدنى من الالتزام بالبرنامج السياسي الاقتصادي الاجتماعي وبالوفاء للعمق المطلبي للناس في الكرامة والعدالة وبسط الحريات والتنمية المستقلة والديمقراطية .

بهذا المنظور لم يعد في استطاعة المواطن العادي التمييز بين خطاب سياسي وآخر، بسبب تداخل الكلام وعدم وضوح المضمون، وعدم الوفاء في الالتزامات وخصاص فادح في عالم المصداقية، حتى غدت الممارسة السياسية-بالنسبة إلى الكثيرين منهم- أقرب إلى الانتهازية والوصولية والسمسرة منها إلى كونها واجهة للنضال المبدئي من أجل إصلاح الأوضاع العامة، لقد أصبحت الممارسة النضالية من داخل التنظيمات الحزبية-بفعل استشراء الممارسة الرديئة وتحكمها في إشاعة منظور نمطي لها-أسيرة النفوذ السلطوي والمالي وتحكم الغرائز الخفيضة في التملك والتسيد وسطوة مواريث الإقطاعيات العائلية وتسلط رجال البأس والجور والحظوة.

ـــــــ

خالد الرحموني