وجهة نظر

العملية الترجمية بين العقل والعاطفة

كرستين دوريو جامعة كاين- فرنسا-
ميتا، المجلد 52، ع 1، مارس 2007،
ص- ص: 48 – 52. 

مُلخّص:
لقد انضوى التفكير الترجماتي، إلى حدود الآن، تحت لواء أنموذج نظرية شكلانية. وهكذا نجد النظريات اللسانية في الترجمة إبان المد البنيوي، تنشد موضوعية كبيرة. ومقابل هذه النزعة الوضعية المفرطة، تنفتح النظريات التأويلية بصفة موسعة على البنائية. غير أنه إذا كانت العملية الترجمية قابلة لكي تعرف بكونها سلسلة من القرارات المتخذة فإن هذه القرارات ليست نتيجة لاستدلال عقلي صرف يتأسس على قواعد استدلالية صارمة، وإنما هي حصيلة آلية تتميز بالعقلانية المحدودة (1). إن سيرورة أخد القرار تقودها اليقظة العالية وتنظمها العواطف مموضعتان، هكذا، العملية الترجمية بين العقل والعاطفة .

“إن فكرة ما في حد ذاتها، كحدث معرفي، لا تنتج شيئا ولا تستطيع أي شيء: لا يكون لها أثر إلا إذا أحس بها المرء، إذا وافقتها حالة شعورية، إذا أيقظت الميولات والرغائب، أي” القوى المحركة ” تيوديلريبو 1930: (سيكولوجية الأحاسيس).
إن هذا الرأي الذي تم التعبير عنه منذ ما ينيف عن قرن من الزمان لا يبدو عصريا، قطعا، فيما يتعلق بالتفكير الترجماتي .في الحقيقة، إن الخيط الناظم لهذه الدراسة الراهنة هو ذلك التطور البطيء للتفكير الترجماتي انطلاقا من شكلانية مشبعة باليقين ومستندة إلى موضوعية كبرى وصولا إلى إطار عقلانية محدودة يهيمن عليها الوجدان. كي نوضح هذا التطور في التفكير الترجماتي، يبدو أنه من المجدي القيام بتشخيص سيرورته مستعملين ثلاثة معالم.

منذ زمن، انضوى التفكير الترجماتي تحت لواء أنموذج نظرية شكلانية، سواء أكانت وصفية أم معيارية. في البداية، وكمعلم أول سنقف على النظريات اللسانية للترجمة والتي انبثقت عن البنيوية. يبدو أنه من الملائم الحديث عن نظريات لسانية بصيغة الجمع، لأنها، و حسب الكتاب، تضم متغيرات، غير أن كل المواقف التي تندرج في هذا التيار تشترك في عدد من الخصائص وتنشد موضوعية كبرى.إن هذه النظريات تقدم النص ككل مغلق ومكون من متوالية من الجمل.باعتبار النص هكذا فإنه يعد كيانا مكتملا، يشكل كلا مستقلا. ثم إن هذا الكل قابل للانحلال إلى أجزاء، وقابل كذلك لإعادة التشكيل عند الاقتضاء.وهكذا، فإن وحدة التحليل والمعالجة تكون كحد أقصى هي الجملة، وغالبا سلسلات لغوية أدنى من الجملة بل وحتى كلمات منعزلة.

إن صعوبة الترجمة تأتي، إذا، من مشكل عدم توافق الألسن (2). لقد تم النظر إلى العملية الترجمية، كنشاط، هدفها هو الوصول إلى نتيجة موجودة من ذي قبل، افتراضيا، أو على الأقل الاقتراب منها ما أمكن ذلك.إن هذا التصور يتماشى ومفاهيم مدرسية متعلقة بالفرض النموذجي والنقاط التي يتم خصمها من النقطة النهائية ومعاقبة كل ابتعاد عن المرجع المطروح هكذا. فتقريبا يعتبر كل شيء موضوعيا،كليا ومحددا بالسبق. إن المعنى حاضر في التعبير اللفظي، وهذا الأخير جدير بأن يحتوي كل التوجيهات الضرورية لتدقيق المعنى: يتعلق الأمر بالمبدإ التوجيهي. ثم إن كل تعبير في لسان ما له مقابله في لسان آخر.ومن وجهة النظر هذه، فإن موضوع الترجمة هو مادة لغوية مكتفية بذاتها ومستقلة عن أي شخص آدمي في السلسلة التواصلية. وهذا هو التصور الترجمي الذي استندت إليه، منذ زمن، الأعمال المتعلقة بالترجمة الآلية.

وأمام هذه النزعة الوضعانية المفرطة للنظريات اللسانية في الترجمة قالت النظريات التأويلية بالبنائية آخذة بعين الاعتبار كل الفاعلين في العملية التواصلية.وهاهنا، يتعلق الأمر بالمعلم الثاني.لقد خرجت النظريات التأويلية إلى حيز الوجود نتيجة التنظير الترجمي الذي قامت به ترجمانة مؤتمرات متألقة تسمى “دانيكاسيليسكوفيتش” .لقد بينت أن الترجمة، كتابية أم شفوية كانت، تكف عن أن تكون مرامزة أي تحويلا للرمز اللغوي إلى رمز لغوي آخر، ولكنها إعادة تعبير عفوية لمعنى ناتج عن تخليص الخطاب الأصلي.وعليه فإنه في الصيغة الأولى للنظرية التأويلية في الترجمة نجد أن العملية الترجمية تتمفصل إلى ثلاث مراحل : الفهم – تخليص المعنى – إعادة التعبير .وكأن المتكلم، تقريبا، يتوفر على فكر مسبق، مستقل عن اللفظ، وهذا الفكر يمنح الرغبة في التعبير، الرغبة في تقييد المعنى باللفظ، أي أنه يلبس هذا الفكر ثوبا لغويا كي يعبر عنه، ليتدخل بعدها المترجم أو الترجمان الذي ستكون مهمته كاملة في استخراج الفكر من الحلية اللغوية أي القيام، تقريبا، بتعرية هذا الفكر، وإعادة إلباسه، بعد ذلك، ثوبا لغويا آخر.

إن وجهة النظر هذه المتعلقة بالعملية الترجمية تبقى، بكل تأكيد، بسيطة وقابلة للنقاش. وهو ما سيؤكده العلماء المعرفيون : ما الذي يعنيه الفكر بدون دعامة لغوية؟ غير أن وجهة النظر هذه، لها قيمة واضحة: يتجلى ذلك في نجاعتها على المستوى البيداغوجي. وبالفعل فإن الطالب يفهم أن الترجمة، هكذا، ليست عملية خطية متعلقة بملاقاة لسانين ولا حتى مقابلة نظامين لغويين، ولكنها عملية تفرض قطيعة بين لغة الانطلاق ولغة الوصول.غير أن التأكيد على وجود مرحلة متعلقة بتخليص المعنى معترضة بين مرحلتي الفهم وإعادة التعبير لا نرتاح لها بتاتا، فالمعنى المعتوق يتطاير بين لسانيين مثله مثلما نتصور أنفسنا جالسين بين كرسيين. ونتيجة لذلك، كيف لنا أن نتبين عملية واعية لتخليص المعنى تردف عملية الفهم ؟يبدو منطقيا أن نعتبر أن الولوج إلى المعنى هو الذي يستلزم عمليات صابرة في الإحالة، يتم بالأحرى، أثناء مرحلة الفهم وليس بعدها.

إن هذا النقد الموجه إلى تخليص المعنى قد أفسح المجال أمام تقدم تيارات نظرية أخرى و التي تحاول الذهاب بعيدا وتوضح هذه السيرورة.لهذا، وهنا مرة أخرى، يجدر بنا الحديث عن نظريات تأويلية،بصيغة الجمع، لأنه بعد الصيغة الأولى المقدمة من طرف سيلسكوفيتش، أصبح ممكنا اقتراح صيغة متطورة و متأثرة جدا بالعلوم المعرفية.مثلا، سأرسم، في لحظة أولى، وعن طيب خاطر، خطاطة للعملية الترجمية في مرحلتين: مرحلة متعلقة بالفهم والتي تنجلي من خلال تكوين تمثلات ذهنية وأخرى متعلقة بإعادة التعبير.

هكذا تكون الترجمة فهما من أجل الإفهام. وأنا آخذ مسافة، أولا، فيما يتعلق بالنظريات اللسانية في الترجمة،ثم الصيغة الأولى للنظرية التأويلية ثانية، أقترح أن السيرورة المتبعة في القيام بالترجمة باعتبارها حدثا تواصليا بيلغوياوبيثقافيا – تأخذ شكل متوالية من القرارات المتخذة (3). فعلى طول العملية الترجمية، تترابط القرارات: قرارات لا واعية وأخرى واعية. وبطريقة اعتباطية، لا يولي المترجم نفس الأهمية إلى كل الوحدات المعجمية التي تشكل النص موضوع الترجمة، فهو تقريبا يميز ما يبدو له مهما، ذلك الذي سيستأثر بانتباهه وسيشكل حجر الزاوية بالنسبة له من أجل فهم المعنى.تتموقع القرارات اللا واعية غالبا أثناء مرحلة الفهم أما تلك الواعية فتتموقع غالبا أثناء مرحلة إعادة التعبير عندما يجد المترجم نفسه ملزما باختيار واحدة من الصياغات الممكنة من أجل إنتاج ترجمة أكثر نجاعة. وهكذا، يبدو أن التقابلات اللسانية المتعارف عليها والمفهرسة داخل أمهات القواميس لا تفرض نفسها بصورة إجبارية على المترجم وأن هذا الأخير هو الذي يملك الكلمة الأخيرة، إنه هو الذي يقرر تبني تقابلا موجودا سلفا أو، على العكس، خلق تعادل معجمي. فمن هذه الزاوية، فإن تفنيد المبدإ التوجيهي في حساب تدقيق المعنى ( وهكذا نرد على النظريات التأويلية ) يعد في حد ذاته مرحلة أولى في تطور التفكير الترجماتي. إن المقاربة الاستدلالية تفسر آثار المعنى بناء على مبادئ تداولية. فبناء المعنى ليس حصيلة لدلالات الألفاظ التي تشكل العبارة، وإنما هو نتيجة عمل استدلالية أي استدلال منطقي،بالاستفادة، في الوقت نفسه، من المعارف اللسانية وغير اللسانية من قبيل الدراية بالموضوع المعالج والعوامل الحافة بالحدث التواصلي ومكونات النص الشبه لغوية.

إن الآلية الذهنية التي يشغلها المترجم تكون من قبيل:”إذا كان…. فإن…”؛ بحيث يتعلق الأمر بنموذج المحرك الاستدلالي المتبنّي في الذكاء الاصطناعي . إن هذه السيرورة تستلزم القيام باستحضار للمعارف الخارجة نصية عبر الذاكرة. فالاستدلالات تقريبا عبارة عن معارف يتم تنشيطها رغم أنها لا تبدو كذلك بطريقة جلية. يتم دمج الاستدلالات المنتجة والمعارف المحسوسة وهو ما يؤدي إلى بناء المعنى بطريقة منظمة. إن الفكرة المقدمة،بدهيا، من طرف النظريات التأويلية في الترجمة تفيد بأن بناء المعنى يتم عن طريق تعبئة ودمج المعارف اللغوية التي تنشط عن طريق قراءة النص قيد الترجمة والمعارف المتعلقة بالموضوع، المكتسبة سلفا والمخزنة في ذاكرة المترجم من أجل الوصول إلى كل منسجم. غير أنه، في الممارسة المهنية العادية، لا يتم هذا الدمج نتيجة حساب مطوّل ولكن بطريقة اعتباطية ويضمن استيعاب المعنى حسب مبدإ الورود ( سبيربرو ويلسون 1986).فالمعنى الإجمالي الأكثر احتمالا وورودا هو ذلك الذي ينتج من معالجة المعلومة بجهد معرفي قليل جدا. إن المعنى الذي يتم إدراكه يفرض نفسه على العقل، ثم ينعزل وكأنه صورة نابضة فوق عمق ما. في هذا الصدد يمكن أن نستحضر النظرية الجشتالتية. زد على ذلك أنها المرتكز النظري الوحيد والمعقول كي نقوم بتفسير أداء ترجمان المؤتمرات فيما يتعلق بالترجمة الفورية: فهو بطريقة ما، يتزلج فوق موجة المعنى.

هذا، ولغاية بيداغوجية خالصة، يكون من المفيد تجلية بناء المعنى وفق سيرورة استدلالية. إن نجاعة البحث التوثيقي من أجل إنجاز الترجمة مسألة مفروغ منها، كذلك، ينبغي استثمار المعلومات المحصل عليها،بنباهة، وتعبئتها في شكل معارف كي نستطيع تشغيل المحرك الاستدلالي. يفرض الاستدلال المنطقي نفسه،في هذا الإطار، على المترجم، كأداة أولى يتوفر عليها. هذا وقد بيّن الاشتغال على أمثلة واقعية مدى أهمية السيرورة المركزة في تسلسل صارم للعبارات والمنظم بواسطة المنطق ( دوريو 1990). في الحقيقة، إن هذا الموقف يدين بالشيء الكثير لنظرية الاستقصاء لجون دوي (1938) . وهذه النظرية تتمفصل إلى خمس مراحل متتابعة :
” (i) a felt difficulty; (ii) its location and definition; (iii) suggestion of possible solution;( iv) development by reasoning of the bearings of the suggestion; (v) further observation and experining leading to its acceptance or rejection; that is the conclusion of belief or disbelief” (Dewey 1997:72 -(4)..

وتطبيق ذلك على العملية الترجمية أمر وارد بكل جلاء .إن توضيح استدلال منطقي مُؤَدٍّ إلى أخذ القرار يسمح لنا بالتخلص من المفهوم الضبابي لتخليص المعنى وبمحاولة إيضاح سيرورة الفهم .

غير أنه، في هذه المرحلة، يبقى التفكير مشدودا إلى أنموذج شكلاني، سواء فيما يتعلق بحال النظريات اللسانية في الترجمة أو غيرها، إلاّ أنها محدودة بواسطة سيرورة منطقية خالصة تشتغل وفق قواعد استدلالية يتم تطبيقها بصرامة. والحال أنه، بمجرد ما نهتم بطريقة اشتغال العقل البشري، يكون هناك ما يدعو إلى إقحام مبدإ العقلانية المحدودة،وهذا يشكل المعلم الثالث. فصحيح أن الترجمة، بالتأكيد، عبارة عن متتالية من أخذ القرارات، غير أن هذه القرارات ليست بنتيجة سيرورة عقلية صرف ومرتكز على استدلال مؤسس على قواعد استدلالية صارمة. في هذا الصدد يمكن أن نصوغ مصادرتين اثنتين. فأولا بالنسبة للقرارات المتسلسلة، يبدو أنه من الوارد أن نضيف إليها تلك العمليات الموازية المنجزة من طرف العقل البشري. علاوة على ذلك، فإنه إلى جانب قوة الاستدلال المنطقي الكبير والتي تمارس جاذبية قصوى كمفهوم عقلاني مثالي، من المناسب أن نفسح المجال لليقظة العلية التي تتم قيادتها من طرف العاطفة التي تؤثر في المعتقدات والاختيارات وتلعب دورا لا محيد عنه في عملية أخذ القرار.

إنه، وبدون شك، في المجال الاقتصادي حيث ظهر للمرة الأولى مفهوم العقلانية المحدود ( سيمون 1359) الذي جاء ليثير النقاش حول الاستدلال الأمثل البايِّزْياني (5). وهكذا، مثلا، فإن المستهلك لا يشتري منتوجا على إثر تحليل عقلاني كلي للوضعية، ولكن عن طريق الانقياد لتأثير اختياراته ( أولوياته ) ومعتقداته. إن قيمه الشخصية هي التي توجه تأويله للأوصاف المسبوغة على المنتوج أو الخِدمة التي تشكل موضوع تحليله. فألا يمكننا أن نتحدث إلى أقصى حد، عن شراء ” صعقة القلب “؟وهذه الملاحظة قابلة لأن تحول، بكل تأكيد، إلى العملية الترجمية. فليست المعارف المكتسبة للمترجم هي التي تقوده، وحدها، في عملية ولوجه لمعنى محتوى النص قيد الترجمة، ولكن، كذلك، كل منظومة القيم عنده، تدخل في سيرورة التأويل – الفهم وتساهم في عملية توجيهه.

بالإضافة إلى ذلك،فإن جهد المترجم يتم توجيهه بوساطة التيقظ. وبالفعل فإن التيقظ وظيفة معرفية معقدة تستلزم سيرورة من الانتقاء.والحالة هذه، فإنه بمجرد ما يوجد انتقاء يكون هناك قرار. وهكذا فإن القرارات التي تتسلسل لتمنح زبدتها لمصلحة العملية الترجمية وتسمح بحدوثها لا تنبع، فقط، من تحليل عقلي صرف ولكنها تنفعل بمحيط شخصي خاضع للقيم والأمزجة.بتقديمه للتيقظكمجموع الأنشطة المعرفية المتعلقة بالطريقة التي يعالج بها الجهاز المعرفي المعلومة، يقترح كاميCamus (1996) القيام بالتمييز بين صيغتين للمعالجة: فمن جهة أولى، هناك السيروراتالآلية السريعة، المتوازنة و الباطنية ثم السيرورات الموجهة، البطيئة، المتسلسلة والواعية، من جهة ثانية. إن هذين الصيغتين نحتاج إليهما في العملية الترجمية. فبالنسبة للصيغة الأولى، عندما لا يعاني المترجم من أية صعوبة وينجز الترجمة بطريقة متسلسلة، يكون، قد استخدم، بالفعل، إجراءً آليا، في هذه الحالة، أما بالنسبة للصيغة الثانية فتحدث عندما لا يكون الفهم أو التعبير عفويا ليضطر المترجم إلى القيام ببحث أو تفكير منظم لكي يحل المشكلة التي يصطدم بها.

لا يقتصر حل المشاكل على العمليات المنطقية وإنما يستلزم استدلالا في شكل عبارات مرتكزة على نماذج ذهنية ( جوستون – ليرْدْ 1993 ). وبهذه النظرية المتعلقة بالنماذج الذهنية (6)، يثير جوستون ليرد، هو الآخر، النقاش حول نجاعة الاستدلالالاستنتاجي كصيغة طبيعية مؤدية إلى أخذ القرار، و بالفعل، نجده يستعيض عن الاستدلال الاستنباطيبالاستدلالالاستقرائي، مع محدودية كل استدلال استقرائي. إن المنطق لا يمكنه البتة أن يحدد حلا وحيدا لمشكل ما من بين ما لا نهاية من الحلول المتنوعة و الممكنة.علاوة على ذلك فإن الكائن الإنساني ليس عالم منطق بالفطرة، إنه يرتكب الأخطاء. ونفس الأمر ينسحب على المترجم،فهو ليس بمقرر عقلاني مثالي. كي نسد هذا النقص، نرى أن التجربة تبين أن توظيف الرسوم البيانية هو خير مساعد على أخذ القرار، وهو ما يؤكد فكرة سيرورة ناجعة علاوة عن المحرك الاستدلالي الاستنتاجي الوحيد (7). وبالفعل فإن الاستدلال المنطقي يكون بالطبيعة تسلسليا، خطيا وتعاقبيا في حين أن الرسم البياني ينم عن عملية تحييز ( نسبة إلى الحيز ) متمخضة عن معالجة متوازية. وقد سبقت البرهنة على أن التمثيل الحيزي / الفضائي من شأنه أن يساعد الذاكرة، وأن يسند عملية أخذ القرار وأن يسهل التفكير. يتعلق الأمر، كما هو معروف، بحال المجسم في الهندسة.

وهناك طريق إضافي مفتوح مع نظريات التقييم لماكدا اَرْنُولْد (1960) ثم لاثروس (2001). وفي هذا الصدد، فإنه أثناء المداولة التي تسبق أخذ القرار، يقيِّمُ الكائن الإنساني العناصر المعول عليها.إن هذا النشاطالتقييمي المعرفي يسبق الحكم، و إذن، أخذ القرار، وسيكون أساسا في عملية ظهورالعاطفة. وقبل القيام بالتصرف بصورة عاطفية، تأخذ الذات المترجمة بعين الاعتبار من جهة، مكونات أولية – من قبيل الورود والانسجام في علاقة مع الهدف المتوخَّى – ومكونات ثانوية، من جهة أخرى – من قبيل، الإنكار أو الموافقة. إن الفكرة القائلة بأن آليات التقييم تحْكُمُ العواطف قد أثارت جدلا واسعا. بقول آخر، فإن من الناحية الزمنية، تتدخل العواطف في عملية تمديد الإدراك والتقييم محدِّدةً القرار. وهكذا فإن العاطفة ليست برد فعل فقط وإنما هي تهيئ من أجل الفعل ( بِرْتُوزْ 2003 ) .وهذا نفس رأي دَمَاسْيو (1996) نفسه الذي يؤكد أن العاطفة ليست رد فعل ولكنها أداة لإعداد الفعل. إنها أداة من أجل أخذ القرار ووسيلة قديرة للتنبؤ بالنسبة للعقل الإنساني يستبق ويستشف مآربه. في الواقع، فإن إقامة وزن مختلف حسبما تمليه الخيارات المتنوعة والمحتملة، يجعل من العواطف ضرورية في عملية أخذ القرار والقيام بتصرفات عقلانية.

إن العاطفة تنشط آليات اليقظة العالية وتحمل على تشويه، ليس فقط، العالم المدرك، بل تحمل على اصطفاء الأشياء المدركة أو المهملة في العالم، أيضا، إنها تقوم بتعديل علاقة الذاكرة مع إدراك الحاضر بصورة عميقة. إننا نجد أنفسنا نحوم حول نظرية العواطف لسارتر (1938) : ” إن الوعي العاطفي هو أولا وعي بالعالم “.يتم تعريف العاطفة بكونها “تحويل العالم ” ومن ثمة فإن هذه العاطفة ستغير العالم كي يبدو مدركا على نحو مقبول. فالعاطفة من حيث هي، دليل للفعل، تعتبر ،إذن، مصفاةً إدراكية. “إن هذه الآلية أساسية من أجل أخذ القرار لأن قراراتنا رهينة، إلى حد كبير، بما ندرك،بنذمجة ومعايرة دماغنا للعالم وبالطريقة التي يربط بها الأشياء، التي يتم إدراكها، بالماضي”(برتوز 347.2003).

وخلاصة، يمكن،للترسيمة أسفله، أن تحل بامتياز محل الترسيمات الدارجة المشكلة من مرحلتين أو ثلاث مراحل والجديرة بالتمثيل للعملية الترجمية:
المترجم

الإدراك

التقييم

العاطفة

التيقظ العالي

معالجة المعلومة

القرار
إن مجمل القول هو أن هذا العرضيتغيا تبيان تطور وحركية التفكير الترجماتي الذي ينزع نحو الابتعاد عن المتطلبات اللسانية الصارمة لينضوي تحت لواء أنموذج معقد (8) آخذا بعين الاعتبار العامل العاطفي في التواصل البيلسانيوالبيثقافي. إن المعالم التي تمت الإشارة إليها هاهنا تمثل، في الواقع، قطائع إبتسمولوجية. أولا، بين النظريات اللسانية والنظريات التأويلية، حيث تهم القطيعة طبيعة المعنى واستقلاليته بالمقارنة مع دلالات الوحدات اللسانية. بعد ذلك، وبين الصيغة الأولى للنظرية التأويلية في الترجمة والصيغة المتطورة، تنصب القطيعة على المفهوم المحوري المتعلق بتخليص المعنى. وتخليص المعنى هذا تم دحضه عن طريق النقد الذي وجه إليه ليتم تفسير بناء المعنى بواسطة آلية استدلالية استنتاجية عن طريق توظيف استدلال منطقي صارم. أخيرا، وفي قطيعة مع هذا الأنموذج الشكلاني، ظهر في خضم العلوم المعرفية إطار نظري جديد يطعن في الاقتدار الكلي للعقل ويُدمج العاطفة في كل نشاط معرفي. إن هذا الانفتاح لمن شأنه أن يقود إلى صياغة نظرية جديدة للترجمة تتمحور حول القرار.

* ملاحظات:
1- وهذا ما يطلق عليه هربوت سيمون (1659)Bounded Rationality، كي يبين أن سلوكاتنا فيما يختص بأخذ القرار تعكس محدودية النظم البشرية في معالجة المعلومة.
2- هذا الرأي قد تم التوسع فيه، خاصة، من طرف جورج مونان، من ذي قبل في ” الجميلات الخائنات ” ( دفاتر الجنوب 1955). وعاد إليه في “المسائل النظرية في الترجمة” .( منشورات غاليمار 1963). يطرح مونان هاهنا حتى قضية إمكانية الترجمة، وبينما هو يقيم هذا الاعتراض المسبق حول استحالة الترجمة، فإذا به يحسم على الفور هذه القضية عندما تبين بكل وضوح وجود العديد من الترجمات منذ أسحق عهود التاريخ.
3- لقد سبق و فصلنا هذه الفكرة وثمناها مبينين أنه إذا كانت السيرورة المتعارف عليها فيما يتصل بأخذ القرار قابلة للتطبيق فعلا، فإنها عندئذ تجري في إطار خاضع للعديد من المتطلبات ( دوريو 2003) .
4- إن هذه المراحل الخمس هي كالآتي:
أ–المعاناة من الصعوبة، ب– تحديدها ومحاصرتها، ج– اقتراح حل ( فرضية ) ممكن، د – القيام باستدلال مع الأخذ بعين الاعتبار ما يستلزمه الحل المرغوب فيه، هـ – متابعة الملاحظة و التجريب حتى الوصول إما إلى تأكيد الفرضية أو رفضها.
5- يتعلق الأمر بطريقة في الاستدلال الإحصائي مبنية على تقييم للاحتمالات. إن الاحتمال المتصل بالحدث هو دالة من الشروط التي يمكن أن يحدث فيها الحدث المعني، إنها طريقة مساعدة على أخذ القرار.
6- يقترح جونسون ليرد في نظريته المتعلقة بالنماذج الذهنية، ثلاثة أصناف من التمثلات: العبارات التي تمثل العالم في شكل سلسلات من الرموز، النماذج الذهنية التي تقدم بنية محاكية للعالم، وأخيرا الصور التي تعكس الخصائص المحسوسة للوقائع موضوع النماذج.
تتحول التعابير اللغوية أولا إلى تمثلات في شكل قضايا. بعدها تخلق سيميائية اللغة الذهنية توافقات بين القضايا والنماذج الذهنية. بمعنى أن التمثلات، والتي هي في شكل قضايا، يتم تأويلها إلى نماذج ذهنية.
7- لقد سبق وبينا من ذي قبل كيف أن التمثيل البياني للمعلومات الموجودة داخل النص قيد الترجمة، أثناء القراءة يساعد على أخذ القرارات الترجماتية ( دوريو 1997).هذا وقد فصلنا اقتراحنا مطبقين هذه الطريقة الموحى بها على مقتطفات من نصوص حقيقية، ومن جهة أخرى، فإن هذه الطريقة في العمل جزء من تدريسنا منذ زمن مضى.
8- لقد سبق وأوضحنا في مساهمة سابقة أن العملية الترجمية تشكل سيرورة معقدة وتستلزم مرحلة طويلة من عدم الثبات بين وضعين ثابتين يمثلهما كل من النص الأصلي والترجمة المنجزة (دوريو 2005 ).

RÉFÉRENCES
Arnold,M. (1960)M: Emotion and Personnality, psichological aspects, New York, Columbia University Press.
Berthoz, A. (2003):La décision, Paris, Odile Jacob.
Camus,H-F (1996): La psychologie cognitive de l’attention, Paris, Armand Colin.
Damasio, A. (1995):l’erreur de Descartes, Paris, Odile Jacob.
Dewey, J. (1938): Logic: The theory of enquiry, New York, Henry Holt.
Dewey, (1991): How We Think, New York, Prometheus Books.
Durieux, Ch. (1990): Le raisonnement logique: premier outil du traducteur, in Études traductologique, Minard.
Durieux, Ch. (1997):Traduction et linguistique textuelle, Terminologie et Traduction I, Commission des Communautés Européennes, Bruxelles, p.48-62.
Durieux, Ch. (2003): La traduction, exemple d’application de la prise de décisions sous contraintes,in les décisions sous contraintes, Presses Universitaires de Caen.
Durieux, Ch. (2005): La traduction: Illustration d’un processus complexe, in Cadet,bB.(dir).Complexité, Presse Universitaire de Caen.
Gigerenzer,G et S.Stelten. (2001): Bounded Rationality.The Adaptive Toolbox, Cambridge, MIT Presse.
Johnson-Laird, P.et E.Shafir(1993): The Ineraction Between Reasoning and Decision Making: An Introduction.Cognition 49, p.1-9.
Johnson-Laird, p. (2001): « Mental Models and deduction », Trends in Cognitive Science 5-1, p.434 – 442.
Lazaruz, R. (2001): Relational Meaning and Discrete Emotions, in Appraisal Processes in Emotion, Oxford, Oxford University Press.
Sartre,J.- P. (1938):Esquisse d’une théorie des émotions, Paris, Hermann.
Simon, H. (1959): «Theories of Decision Making in Economics and Behavioural Science». American Economic Review.49, p.253-280.
Sperber,D. and D. Wilson (1986): Relevance,Communication and Cognition, Oxford, Basil Blackwell.

ــــــ
*كاتب و باحث في قضايا الترجمة و التواصل – الدار البيضاء – المغرب.