وجهة نظر

هل انتهى بنكيران؟

للإجابة على هذا السؤال، يَحسُن أن نُعرِّف ببنكيران، وأحسن طريقة للتعريف ببنكيران، وضعه في السياق التاريخي للحركة الإسلامية ميلادا ومسارا، لأن هذه الحركة هي من تصنع ماهية أبنائها قادة وقواعد.

تربي الحركة الإسلامية أبناءها، على فكرة محورية أساسية، أن يكونوا قدوة للآخرين في كل شيء، وتستبطن هذه الفكرة الاقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه سلم، الذي عاش الحياة طولا وعرضا، وقدم النموذج في علاقته بنفسه، في بيته في عائلته، مع جيرته، مع حلفائه مع خصومه، كيف كان يعيش يومه من الاستيقاظ إلى النوم، بل كيف كان يعيش ليله، قدم نموذجا في السلام والحرب، وفي كل تفاصيل الحياة من بعثته إلى موته، ولم يمكن النبي صلى الله عليه وسلم يفصل بين الدين والحياة بكل مجالاتها المتعددة في السياسة والاقتصاد والزراعة..

هذه الفكرة التي تربي الحركة الإسلامية أبناءها عليها هي فكرة الشمولية، أن يعيش المرء بالإسلام أينما حل وارتحل، وأن يكون مخالطا للناس، وأن يكون قدوة لهم وإماما لهم يقدم نموذجا وأخلاقيا، في كل المجالات التي يجد نفسه فيها، وان لايفصل بين الدين والحياة والدين السياسية والدين والاقتصاد والدين والعلاقات الاجتماعية، فالدين شامل لكل الحياة، ولا يفصل عن مجال دون آخر.

كل أبناء الحركة الإسلامية، يعيشون بهذه الفكرة، فكرة الشمولية، شمولية الإسلام لكل مجالات الحياة، وعدم فصله عن الحياة، لأن قدوتهم في ذلك هو الرسول صلى الله عليه وسلم، لانهم يريدون أن يكونوا أهل صلاح وإصلاح ودعوة. هذه الدعوة التي شملت جميع الناس، وتهتم بشؤون الناس، وبمشاكلهم وأسئلتهم، ومطالبه واحلامهم، بل بحاضرهم ومستقبلهم في الدينا والآخرة.

هذه الفكرة الشمولية، شمولية الإسلام لكل مجالات الحياة، وشمولية الدعوة لكل الناس ومتطلباتهم تجعل المنتمي للحركة الإسلامية، أن يكون شاملا في فكره وحركته ودعوته، لان النبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك.

*******
لكن التحديث الذي طرأ على العالم العربي والإسلام من خلال استيراد بنيات تنظيمية جديدة، من أهم سماتها، العقلنة والفصل، بداية من الدولة الحديثة إلى أصغر وحدة تنظيمية ترتبط بالمجتمع المدني، كالجمعيات، كل عضو في التنظيمات التحديثية له موقع محدد ووظيفة معينة، والغرض من ذلك، القدرة على الضبط والانضباط، ثم القدرة على محاسبة كل عضو حسب موقعه ووظيفته.

خضعت الحركة الإسلامية للتحديث، فمضمونها ديني، وشكلها التنظيمي تحديثي، أي أنها باعتبارها جماعة منظمة، اقتضى ذلك، اختيار نموذج “الحزب”، لتنظيم الجماعة، أي، لتأسيسها تأسيسا قانونيا مرخصا له، يقتضي ذلك، إعداد القوانين الداخلية والمساطر التنظيمية، وتنظيم مؤتمر انتخابي، يختار قيادة التنظيم، للتعاقد مع القاعدة على برنامج محدد، وأن قائد التنظيم، المنتخب يقتسم السلطة مع باقي أعضاء المكتب التنفيذي، كل واحد يهتم بلمف معين، وذلك، عن طريق الفصل والتماير بين كل ملف تنظيم عن آخر، لان هذا الفصل يساعد على المتابعة والمحاسبة والمسؤولية في المؤتمر المقبل، والجمع لا يساعد على ذلك.

الحركة الإسلامية بتحديثها التنظيمي، حاولت الفصل بخضوعها لمنطق التنظيم الحديث، حيث كل عضو يمارس وظيفة معينة، لكن بعض الشخصيات في هذه الحركة، عصية عن الخضوع لمنطق التنظيم التحديثي، وفي مخيالها نموذج النبي عليه السلام القدوة الذي عاش بالإسلام في كل مجالات الحياة ولا يفصل بين الدين و الحياة، الدين و السياسية..

*******
عبد الإله بنكيران، نموذج لهذه الشخصية، التي تقدم ماهية الحركة الإسلامية في نشاتها الأولى، وساعده على ذلك شخصيته الفريدة، فحتى داخل الحزب، لم يتخل عن هويته الحركية الإسلامية، فهو من أكثر الناس وعظا لإخوانه، يعظهم موعظة تسيل منها الدموع وتقشعر لها الأبدان، موعظة بصوت خاشع، ومؤثر جدا، وهو الخطيب المفوه الذي لا يشق له غبار، بنكيران يلعب دورا مركزيا في عملية التأطير الديني داخل الحزب، بنفس “صوفي”، وكم وعظ إخوانه في الحزب، موعظة حول الموت والآخر، ومعرفة الله، وهو رئيس حكومة المغرب، بل إن آخر موعظة ألقاها حول الموت كانت بمناسبة وفاة أحد قيادات العمل الطفولي.

بنكيران، في مخياله فكرة الإسلام الشاملة لدعوة شاملة في كل مجالات الحياة، أينما حل وارتحل، يختار أسلوبا ليوصل الفكرة، بمختلف الطرق، قد ينجح أحيانا وقد يفشل.

ويمكن القول، لا أعتقد مر في تاريخ المغرب، رئيس حكومة، يتقن فن “الموعظة الدينية”، فمثلا: بعد موت رجل الأعمال المشهور ميلود الشعبي، وقف على رأسه وألقى موعظة دينية مؤثرة، وهناك، من يظن أن هذا السلوك من الأمور العادية، لكن في الحقيقة، أن تعظ الناس مهمة صعبة جدا، لأن الموعظة هي شعور داخلي نابع من القلب، هي خلاصة تجربة إيمانية، ومعاناة ومكابدة في ممارسة التدين و التعرف على الله، والتواصل مع الغيب وفهم مكنوناته وأسراره.

بنكيران وهو يرأس حكومة “2012-2016” ظل وفيا لجذره الحركي الأول، ليس بطريقة سلفية ممجوجة، بل بطريقة “صوفية فريدة” وقلت في أحد الدراسات ان بنكيران قدم نموذجا ليس للسياسي الإسلامي، بل للسياسي المؤمن “بنفس صوفي”، وهذا له ما يعضده أنه تربى في أسرة صوفية ليس على منوال الطرقية، بل على منوال التصوف الروحي.

تجد بنكيران أنه لم يخضع لأدوات التحديث العقلانية الترشيدية، التي تنظم أدوار الجماعة التنظيمية عبر منطق الفصل، وهذا أهم “مبادئ الحداثة”، بل إن بنكيران مزج بين دوره كرئيس حكومة أدوارا أخرى:”خطيب ديني، فنان كوميدي، سياسي مقاوم، مرشد روحي..”

******

يتضح أن بنكيران “سياسي شامل”، أي “زعيم إصلاحي” أي “رجل رسالة”، ولذلك، فلم ولن ينتهي، بإعفائه من رئاسة الحكومة لولاية ثانية، لكنه لازال في أوج عطائه في مجالات أخرى، فهو رجل إصلاح وليس رجل سياسة حزبي، ينتهي بانتهاء هذه الوظيفة.

من بدأ حياته بفكرة أن الإسلام دين شامل دعوة شاملة ويقتدي بمحمد صلى الله عليه وسلم، وفق قراءة معينة، من المستحيل أن ينتهي، فهو في جهاد إلى أن يلقى الله.

بل إن تاثير بنكيران سيتضاعف بكثير، ستصبح بعض خرجاته في المستقبل، كزعيم روحي حكم عليه