وجهة نظر

بن كيران ظاهرة تواصلية أم ظاهرة صوتية شعبوية ؟

” إذا دخل حزب الاتحاد الاشتراكي إلى الحكومة، فأنا لست عبدالإله ”

هي عبارة تُنسب إلى رئيس الحكومة السابق السيد عبدالإله بن كيران أو هي ماركة مسجلة باسمه إلى أن يصبح العالم كله في غير حاجة إلى الحكومات كي تدبر شأنه. ولست أدري هل كان يقصد إسمه بلحمه ودمه أم هو يريد أن يخلع ربقة العبودية ( عبادة الإله هي عبادة الله) من عنقه لأنه استطاع في محطات سابقة أن يُسخر القَسَمَ ومفاهيم الدين كي يخدم أجندته السياسية المتواضعة والضيقة جدا. طبعا لأن الأمر كان يتعلق بفئات تناضل من أجل خبزها اليومي وليس ضد من ملكوا البحار أو راكموا الثروات أو استفادوا من الريع السمين. فأولئك كُتب لهم العفو عما سلف ، وعما تلف ، وعما خلف.

وربما اعتقد الرجل أن الذين سهلوا له ضرب كثير من المكاسب التي ناضلت من أجلها أجيال وأجيال، أو غضوا الطرف عن ذلك سوف يجدهم سندا أيضا لتصريف مواقفه كلما عنَّ لهُ أن يفعل ذلك. وذلك من باب هذه بتلك أو “رابح رابحgagnant-gagnant : ” .لكن يبدو أن الجرة لا تسلم دائما ..وقد حان الوقت أن تتكسر لتصيب شظاياها عيونا فتزداد عمى وتيها، وتصيب آخرين في أماكن من جسدهم تجعلهم أكثر تنبها واستيقاظا واستيعابا لمكر السياسة الشعبوية وتقلباتها، ولمسارات التاريخ ككل ومنعرجاته.

السؤال : الآن وقد دخل حزب الاتحاد الاشتراكي إلى الحكومة ، بموافقة حزب العدالة والتنمية الذي أمينه العام هو “عبدالإله” نفسه الذي أقسم بعظمة لسانه وبكلتا شفتيه وربما بكامل وعيه أن الاتحاد لن يدخلها وإذا دخلها فلن يكون هُــوَ هو ، هل مازال سيحتفظ باسمه وهويته وبطاقة تعريفه الوطنية أم هناك من سيجد للأمر حلا ومخرجا لتستمر السياسوية وتنتعش الشعبوية ؟..

طبعا ففي شرعة من على مثل نهج هذا الرجل ، فإن الأمر سهل. ولعل الذين سوف يحظون من حزبه بحقائبهم الوزارية جنبا إلى جنب مع من جاؤوا للحكومة محملين بأريج “الوردة” التي لا تذبل ، هؤلاء المستوزرون ( وما أكثر أوزارهم ) سوف يُقنعون من أقسم ، أن اقتسام الغنيمة يستوجب فقط صيام ثلاثة أيام ، مادام أن تحرير رقبة غير ممكن في زمن الديمقراطية والحرية .وطبعا ، ليس في البلد كله ستون مسكينا يمكن إطعامهم. فقد أنهت حكومتهم السابقة حكاية كل المساكين.

لست أدري لماذا تذكرني هذه العبارة بعبارة أخرى تَحتفظُ بها كتب التاريخ العربي فيما عرف بأخبار الحمقى والمغفلين ، ومختصرها ما يرويه إبن الجوزي ـ رحمه الله ـ: (فمنهم ـ أي: الحمقى ـ هبنَّقةُ، واسمه: يزيد بن ثروان ويقال: ابن مروان أحدُ بني قيس بن ثعلبة. ومِن حمقه أنه جعل في عنقه قلادةً مِن وَدْعٍ وعظامٍ وخزفٍ وقال: أخشى أن أُضِلَّ نفسي ففعلتُ ذلك لأعرفها به، فحُوِّلت القلادةُ ذات ليلةٍ مِن عنقه لعنق أخيه، فلمَّا أصبح قال: (يا أخي أنت أنا، فمَن أنا؟) ).

فأما هبنَّقةُ، فقد كانت له الجرأة كي يتساءل ويبحث عن ذاته في موقف الغموض والحيرة. أما ” عبدالإله” فما أظنه الآن قادرا على مثل هذا التساؤل . لسبب بسيط هو أن السياسة حين تُمارس من منظور تحقيق الأحلام الذاتية ومصلحة الجماعة الضيقة ، يصبح كل تساؤل غير وارد لأنه يعني الذهاب بعيدا إلى حيث الحصول على الجواب الشافي الذي يرضي تساؤل العقل ومتطلبات الواجب الأخلاقي. وهو ما لا يجرؤ عليه إلا من مارسوا السياسة نبلا ونزاهة وشجاعة.

أعتقد أن السبب الرئيسي الذي كان يدفع برئيس الحكومة السابق أن يطلق تصريحاته ويكثر من خرجاته الإعلامية هو تلك الصورة التي رسمها لنفسه وزكتها كثير من وسائل الإعلام خاصة تلك المقربة من حزبه أو من تياره. حيث وقع بينها شبه إجماع أو شبه مؤامرة أن الرجل لا يشق له غبار في التواصل . ينضاف إلى ما سلف تضخم الأنا لدى هذا “الفاعل السياسي” لدرجة التهور والاستهتار بكل الحدود والمعايير ناهيك عن الذوق والإتيكيت. فهل كان هذا التقييم موضوعيا حقا ؟

علينا أن نقر أن العزوف السياسي الذي ميز تعاطي المواطنين المغاربة مع العمل السياسي وخاصة مع الانتخابات أدى إلى حدوث فراغ قاتل وانسحاب فئات عريضة من كل ما له علاقة بالسياسة. ولأن الطبيعة لا تقبل الفراغ ، ولأن تعطش بنكيران للمشاركة السياسية مع القدرة على إقناع قطاع عريض من أعضاء تنظيمه بهذا الهدف، ولأن رياح التغيير هبت ذات 20 فبراير 2011 ، فقد كانت فرصته أن يكون أو لا يكون أبدا. وبالفعل فقد اختار ملء الفراغ دون أن يكون له من مؤهلات رجل الدولة ومن ثقافة التدبير والتسيير الحد الأدنى الذي يمكنه من ممارسة صلاحياته ومسؤولياته بالشكل المطلوب. وبإمكانكم الاطلاع على نتائج ست سنوات تقريبا العمل الحكومي برئاسة هذا الفاعل السياسي لتعرفوا حجم التراجعات وفداحة الخسارات التي كانت لها عواقب وخيمة ونتائج كارثية على المواطنين وخاصة الطبقات المتوسطة والفقيرة والهشة.

أما نتائج “تواصله” فكانت هي قتل الثقة بين الفرقاء الاجتماعيين والسياسيين، ولعل مسار مشاورات تشكيل الحكومة الثانية التي دخلت النفق المسدود بعد قرابة 6 أشهر تدل على خلل كبير في فهم معنى التواصل وأهدافه ومقتضياته .و هناك إجماع أن ولايته الحكومية هي الأسوأ في تاريخ المغرب خاصة في الشق الاجتماعي. . فلأول مرة فشلت كل جولات الحوار الاجتماعي على امتداد ولاية كاملة . فأي تواصل يكون مقرونا بالفشل والتنابز والاتهامات والتفقير ؟

وقد أصبح هوس التواصل مبررا لممارسة نوع مقيت من الشعبوية التي كان لها صداها في بعض التنظيمات السياسية الأخرى. حيث أصبحت الشعبوية ورقة رابحة لكسب الأصوات والمقاعد دون أن يكون هناك أي خوف من محاسبة القواعد وتتبعهم للنتائج المتعاقد حولها مادام أن القفشات والنكات “الحامضة” تغني عن الأرقام وعن النتائج في أرض الواقع.

أقتبس هنا تعريفا للشعبوية من موقع “ويكيبيديا” 🙁 معاني الشعبوية متضاربةٌ، تتراوح بين الرومانسية الثورية والدُّونِيّة السياسية، لكن ما يجمع معظم دُعاة الشعبوية: مقاربتهم التبسيطية في استخدامهم لمفردة “الشعب”، وادعاؤهم أنهم صوت وصدى وضمير هذا “الشعب”، فضلاً عن احتكارهم لتمثيله من دون مراعاة مفاهيم التفويض والتعاقد السليم، وتركيزهم على خطابٍ عاطفيٍّ يفتقر للرؤى الواضحة، مع ترويجهم، المباشر أو غير المباشر، لعداء الفكر .
والخطاب الشعبوي هو خطابٌ مُبْهَمٌ وعاطفي، لا يعتمد الأفكار والرؤى، بل يميل إلى إثارة الحماس وإلهاب المشاعر، ليتماشى تماماً أو يتطابق مع المزاج السائد أو يختاره صُنّاع الخطاب ليبدو على أنه سائد، من دون أن يفيد، من ناحيةٍ أخرى، في التعامل الجدّي والمسؤول مع المشاكل الواقعية. ويُكْثِرُ الخطاب الشعبوي من التركيز على وردية الحلم وتبسيط الأمور في شكلٍ مسرحيٍّ كرنفاليٍّ، مع الإحالة إلى التاريخ الذي يتم استحضاره واستخدامه كوسيلةٍ إيديولوجيةٍ ذات عمقٍ انفعالي)

مراجعة خطابات وتدخلات وأجوبة السيد رئيس الحكومة السابق تتطابق مع ما جاء في هذا التعريف. حيث غاب التحليل والخطاب الموضوعي والإقناع بالحجج والأرقام . وحضرت الاتهامات والاستفزازات ومخاطبة غرائز الانتماء الحزبي الضيق واحتقار معاني السياسة النبيلة . كل هذا ، في ظل الفراغ والعزوف السياسيين ، كانت نتائجه المزيد من المقاعد البرلمانية والأصوات الانتخابية. لكن بالمقابل تهدمت جسور الثقة مع باقي الفاعلين والمؤسسات بالبلاد، وزاد سخط عموم الشعب عن السياسات التفقيرية التي يتم التعويض عنها بالحشو وكثرة الكلام بلا طائل.
الآن وقد أُغلق قوس هذه الظاهرة الصوتية الشعبوية ، فليس واردا التعافي من النتائج الكارثية للسياسات التي تم نهجها طيلة الولاية الحكومة السابقة. بقي فقط تذكير من لم يقتنع بعد بما جناه هذا الفاعل السياسي على كثير من فئات الشعب المغربي أن من كان يؤمن بــ “عبدالإله” فإن هذا لم يعد له إسما بقوة توالي الأحداث وتبوثها. ومن كان يؤمن بالعقل فإن الأمر يقتضي أن يتوب لرشده ويتخلص من بقايا الشعبوية القاتلة ، ومن كان يؤمن بالله فإن الله حرم العبث واللغو .. فلا تلغوا مع من لغا واحذروا مهالك العبث.