منتدى العمق

اشكالية مطامح الفرد “المتكاسل”.. في زمن سيولة التقنية

تنشأ المطامح المجتمعية لدى غالبية الناس، حسب ميولات الأفراد وأهدافهم، وتتعدد تبعاً لطبيعة التفكير الذي يتلقاه الفرد من المؤسسات الإجتماعية التي تحيط به، وكذلك من خلال ما يطلع عليه من مصادر المعرفة ومراجع الفكر والثقافة، هذه الطموحات تتقوى وتتعزز في ذهنية هؤلاء، عبر كل المحطات والصدف التي يروا فيها نماذج حية، تشق طريقها نحو المستقبل بثَبَاث، وتحقق نتائج مبهرة واحدة تلو الأخرى في ميادين عديدة، ويشعر حينها المشاهد الطموح، بضرورة الإستفادة من هذه التجارب المشجعة، عن طريق إتباع نفس المسار وتجنب الأخطاء التي يسردوها “الناجحون”،وكل واحد في هذه الفترة يشعر بنفس عالي من التحفيز والتشجيع والقدرة على السير على نفس الخطى وعلى نفس المنوال، إنه في الحقيقة “إحساس رائع ومُشجع”، يقتضي منا “الإنتفاع من خيرهم والإستزادة من بركاتهم”، لما له من تأثير بالغ في النفوس في لحظات مشوقة جداً.

تنتهي الكلمة، يصفق الحاضرون، وتُلتقط الصور، وتؤخذ المقتطفات، ويختلي “المتلقي الطموح بالمتكلم الناجح” في الدردشات الجانبية، وتسجل الأرقام في قائمة الهواتف، على أمل تلقي نفس تحفيزي وتشجيعي جديد.. يقوي المسار ويُدعم المسير، ويُعزز الأمل والحُلم المؤَجّل في مستقبل شبابنا الغامض..في مناسبات قادمة.

يعود هذا الطَمُوح لمنزله وعالمه الخاص، مرفقا بأكاليل من التحفيز والتشجيع،لإنجاز المهمات وتجاوز الصعوبات والإكراهات، “لا تقلق ستواجه كثير من المشاكل والعراقيل.. الأهم أن تقاوم وتستَمر وتُشمر على ذراعيك”..

نعم هذا ما نجده في الكتب والروايات وسير المدربيين الذاتيين، “جزاهم الله خيراً”.. تعود للمنزل محملاً بثقل الطموحات ونَفَس هذه الإشكالات، وكلك رغبة وحماس كموضوع للتفكير في خطط واستراتيجيات تتوافق وتتناسب مع عالمك، وتنسجم مع واقعك الخاص.. “نعم هذا ما يحدث غالباً”..

تسأل نفسك في لحظات معينة من الصراحة والوضوح، في لحظة مكاشفة ذاتية، ماهي حدود مقدراتي ومؤهلاتي..؟ وهل تُتيح لي هذه الممكنات تحقيق ما أريده..؟ “إن كنت قد حددت أهدافك وطموحاتك بوضوح..”؟ وماهو المدخل الأساسي لذلك..؟

أعتقد أنه “يصعب أن تجد شخصاً ما، بإمكانه الإقرار بأنه ضعيف لا يقوى على عمل ما يريده.. قد يؤكد أنه هناك اكراهات خارج الذات تقف كعائق لتحقيق المطلوب المُفَكر فيه.. قد تجده كذلك، يؤكد في كل مناسبة يتحدث فيها أن على الإنسان فقط عليه أن يكون قويا بذاته، مؤمناَ بها، حتى يستطيع أن يسير في هذا الإتجاه.

لكن، غالبا ما تتعرض هذه الحماسات لإنعكاسات وصعقات مجتمعية في الذات الواحدة، صعقات داخلية وخارجية، صعقة العائلة، والواقع، والدولة ومؤسساتها التي تزرع اليأس، وتبني اللاتفاؤل في النفوس.. وأخطر صعقة يعيشها المرء هي مع ذاته، صعقة اللارادة والخمول والخنوع والتكاسل.. كلها “ذنوب لا تغتفر..”، تجعل الإنسان ميالاً للاحركة والسكون والركون،محملاً بعبء أسئلة الذات وهموم المحيط، أسئلة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، كل واحدة منها، تشكل نقطة ضعف واكراه وتخبط تراكمي، للكثير من الأطراف نصيب من المسؤولية.. وفي مقدمتها هذا “الفرد المتكاسل”..

السؤال الذي ينبغي الإسهام في الإجابة عليه في هذا الصدد، ماهي حدود قدرة الذات في تجاوز هذه المعضلات..؟ وهل هذه المشكلات، هي أقوى من قدرة الفاعل ولا يستطيع ..؟ أم أن الفرد “الفاعل” بمقدوره تجاوزها وتخطيها..؟

هنا، لا بد من تأكيد على إدعاء، مفاده أن “الفرد المُتكاسل” غالباً لا يعطي قيمة معينة لمفهوم الوقت أو إدارة الزمن من خلال أنفسنا، الوقت بالنسبة لديه، غير هام جداً، لذا لا مشكلة في أن نجعل أمور حياتنا اليومية تعج “بالعبث الجميل”، الذي ألفته ذواتنا، حتى صار سلوكا شائعاً وعاديا، في أمة علاقتها بالزمن مختلة، وعلاقتها بالكليات أكثر اختلالاً وأقل اتزاناً، حتى أصبحنا نقتل “الوقت في كل شيء، وفي اللاشيء”، بدون عقلنة ولا تخمين منطقي، المهم أن أن يشعر الفرد، بأنه يعيش في عالمه الخاص، “الزمن أصبح فيه سائلا” كما قال “رائد السيولة باومان”، والحب أصبح متدفقاً بمباركة الشيطان في زمن سهولة تبادل الرسائل بفضل التقنية السائلة.. الكل أصبح سائلاً ومُتدفقاً.. السهر حتى إسدال الصبح، والإستيقاظ حتى الثانية زوالاً.

إنقلب مفهوم الزمن، حتى فقد الليل والنهار معناه، حتى فقد المجتمع روابطه الإجتماعية وتلاشت فيه القيم الجمعية، واندثر البعد العلائقي في حياة الناس، وأصبح الكل منهمك في عالمه الخاص، “عالم جاذب، ملهي، مشوق، وسائل..”، سماته البارزة، “متعة هدر الزمن، بنشاط وحيوية”، الهروب منه لعالم آخر يشعرك بفرح وسرور عميقين، خاصة إن كان مع من تَسعَد برؤيتهم وتَفرَح بلقياهم على مجالس القرآن والفطور، وفي الحديث عن طموحات جاري الإشتغال عليها.. تعطيك نفساً جديداً وأملا محفزاً، وثقة متجددة، خاصة إن كانت النماذج متشابهة في الوضع الاجتماعي والاقتصادي..

نعلم جميعاً، أن “الإنسان اختيارات ذاته”، وكونه كذلك يعني أنه المسؤول الأول عن هذه النتائج، “لن ندخل في تفاصيل هذه الإختيارات هل هي حرة أم هناك عوامل معينة ساهمت في اختيار هذا دون ذاك”، لكن في غالب الأحيان، الذات تحضر بقوة في الخيارات إن “كانت”، وحضورها يجسد نوع من الحرية والرغبة والإرادة والميول.
طيب، لنطرح السؤال الأهم، لماذا نعلم الصواب في هذه الإختيارات ونحن نعرف خطواته وآليات العمل للوصول إليه، ونفعل الخطأ ونحن متأكدين من مآلاته السلبية ونتائجه الكارثية…؟ وماهي التوصيات المقترحة لتجاوز هذه المشكلة العصية..؟

انطلاقا من الإطلاع على بعض التجارب المختلفة، ومنها الذات، يبدوا لي أن أول شيء ينبغي للإنسان أن يفعله هو ان ينفرد ويختلي بنفسه بعيدا عن ضجيج المدينة والتزامات الدراسة و العائلة “إن كانت لديه التزامات”، بعيدا عن كل الإلتزامات الأخرى.. ويسائل ذاته ويصارحها بشكل شفاف أين الخلل يا أنا..؟

مصارحة يسجل فيها “الفرد المتكاسل” مختلف الأنشطة والأعمال والحركات، الهدف منها هو تقييم الذات بعيدا عن أراء الناس وان كانت أراء الآخرين مهمة، إلا أن الإنسان في تقديري أدرى بنفس من كافة الأراء الأخرى التي يمكن أن يقدمها باقي أفراد المجتمع من الأصدقاء وغير الأصدقاء.. كما قلت يسأل نفسه أسئلة بحاجة لها جميعا، تبتدأ من مطارحة سؤال الوجود، لماذا أنا موجود..؟ وما معنى أن اكون موجوداً؟ وهل أحيا هذا الوجود بالطريقة التي ينبغي أن أحياه..؟ وما يرافق هذه الأسئلة من تقييم حضور الذات في علاقتها بالزمن، أين أقضي وقتي؟ مامدى حضور الإيجابي والسلبي في الأنشطة التي أقوم بها..؟ هذه الأسئلة بالإضافة إلى أخرى الغاية منها معرفة الخلل بدقة ومن ثمة العمل للوصول إلى الحل، خاصة فيما يتعلق بسد الثغرات التي تسرق من الأوقات وتغتال الزمن، ونحن نعلم علم اليقين أن اليوم الذي يذهب لن يعود.. وكل يوم يمضي ينقص من حساب أعمارنا.. فلننتبه جيدا جيدا لهذا الأمر..

هذا الكلام خلاصته تعني ينبغي علينا الابتعاد على مجالس استهلاك الزمن، والتوقف عن تضييعه في اللقاءات غير المهمة والنقاشات الفارغة.. والتوجه للعمل “حسب الأولويات وأهميتها” عبر محاربة “فيروس” التسويف والكسل والتأجيل في انجاز المهام والتكاليف عبر آلية فعالة مرتكزها على بركة الله نبدأ الآن.. لأن ثقافة المجتمع حاليا تشجع على التأجيل “حتى من بعد ان شاء الله” وكل عوامل خاطئة تجعل الإنسان يقدم على فعل الخطأ مبتسم وهو يدرك أنه يفعل الخطأ.. فلننتبه ونراجع سلوكاتنا.

وكذلك الإنسان لكي يحقق ذلك في “اعتقادي” ينبغي عليه الإقبال على المجالس التدبرية الداعية لشحذ الهمم وترقيق القلب وتليين السلوك وترفيق الأنا.. من خلال المنبع الصافي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، من خلال الحفاظ على العلاقة الطيبة مع الله خاصة الصلاة، والعمل على تقويتها وتحسينها عبر كل ما يحقق ذلك.. قولا وعملا .. أي “التدين العَالمي وليس التدين الشعبي” مع الإستحضار الدائم لحاجة تقييم الذات ومسائلتها باستمرار لتصحيح عيوبها وتقويم أخطائها وتثمين نقط قوتها..
ـــــ

طالب باحث بجامعة ابن طفيل/ شعبة السوسيولوجيا.