منوعات

إضاءة نقدية لنقاشات “البيجيديين”

جميل ما يجري اليوم من نقاش بين أعضاء حزب العدالة والتنمية. وأجمل منه أنه نقاش حول الذات مفتوح على الرأي العام تشارك فيه قيادات من الحزب وشبابه من الأعضاء والمتعاطفين وإعلاميون وخبراء ومتابعون وغيرهم. مما يجعله نقاشا مغريا لكل صاحب رأي، وكل ناقد وكل ملاحظ.

ويمكن القول إن ذلك النقاش مر من مرحلتين كبيرتين تعكسان تفاعلات هؤلاء المتناقشين مع تطورات المشهد السياسي. مرحلة يمكن تسميتها بـ”مرحلة البلوكاج” اتسم فيها النقاش بتوجهه بشكل كبير نحو الآخر الذي يتم اختزاله في مسمى “التحكم”. وتهدف بالأساس إلى تقديم الدعم لمنهجية الأستاذ عبد الإله ابن كيران في تدبير مشاورات تشكيل الأغلبية الحكومية، وتتخلله بين الفينة والأخرى محاولات نقد للذات قليلة. وأهم ما يميز النقاش في هذه المرحلة هو أن سقفه السياسي وتموجاته التكتيكية يرسمها الأستاذ ابن كيران، الذي يعتبر محور الجذب في صياغة الخطاب، ونحت المفاهيم، وضخ الحيوية والحماس. ومرحلة ثانية يمكن تسميتها بـ”مرحلة اكتشاف الذات”، أكبر ميزاتها أنها تنتقد تجربة الحزب الحكومية في صيغتها الثالثة بقيادة الدكتور سعد الدين العثماني، بعد تجربة أولى وثانية بقيادة الأستاذ عبد الاله ابن كيران. وفي هذه المرحلة نجد فراغا تأطيريا تركه “انسحاب” الأستاذ ابن كيران من ساحة التواصل السياسي لفسح المجال لرفيقه في الدرب لتشكيل حكومته، وحفظ قدراته التواصلية الهائلة في تأطير النقاش، وهذا الفراغ له حسنة وهي أنه فسح المجال لقيادات وأعضاء ومتعاطفين ليتوجهوا بالنقد لذات حزبهم بشكل واسع وقوي دون أن يجدوا في مواجهتهم خطابا سياسيا قويا مقنعا وقامعا أيضا. وأدى غياب فضاءات النقاش الداخلي إلى تفجره في وسائل الإعلام وخاصة على شبكات التواصل الاجتماعي.

أما الذين يخوضون هذا النقاش من قيادات وأعضاء حزب المصباح ومن خارج دائرته فمنهم من عرف بمواقفه الناقدة الواضحة والصريحة، ويعتبر انخراطهم في النقد والتقويم لتجربة حزب المصباح أمرا طبيعيا انسجموا فيه مع أنفسهم، ولم يشكلوا مفاجأة ولا استثناء. وهؤلاء تعتبر مشاركتهم صحية مع ملاحظات حول المنهج ونبرة الخطاب الذي يوفر للبعض ارضية الانتعاش والتوظيف. ومن المنخرطين في النقد اللاذع أيضا غيورون لم يستطيعوا تحمل توالي التنازلات التي قدمها الحزب في ظرفية عاطفية حساسة أكبر المثيرات فيها إعفاء الأستاذ ابن كيران من تشكيل الحكومة، وحديث الصحافة من جهة عن فشله ونهايته، ومن جهة أخرى عن تضحية الحزب برأسه. أما الفريق الثالث من الخائضين في الرفض الكبير لتنازلات الحزب، فهم العناصر الأكثر إثارة للاستغراب، ويحيط اللبس بمواقفهم، إذ منهم من يمكن تصنيفه دون تردد ضمن خانة الجبناء الذين عرفوا بسلوكات السب خلف الظهر، و”اللقز” من تحت الجلباب، والشجاعة بين الجدران وفي الدوائر الضيقة. ومنهم قادة التبرير للتنازلات مند الحكومة الأولى للأستاذ ابن كيران، واكتشفوا اليوم أن هناك تنازلات “خطيرة”، وأن واجب الوقت يفرض رفضها بقوة استثنائية مهما كان الثمن. وصنف الجبناء وقادة التبرير، رغم قساوة هذا التصنيف، هو في التقدير أخطر ما قد يعصف بمستقبل الحزب، ليس ككيان انتخابي اختار المشاركة ولكن ككيان تنظيمي أيضا.

ومساهمة في هذا النقاش التاريخي من موقع الملاحظ الذي خبر خطاب الحزب وآليات عمله ومنهجه ومرجعياته ومختلف “التوجهات” التي تختمر داخله ، نقترح هذه الورقة، التي سعينا إلى تجريدها من الأسماء وأحكام القيمة ما أمكن ذلك حتى نجنبها طابع الشخصنة والتزييف، وحتى نحصر النقد والتقويم في ذلك النقاش بصفته ظاهرة جديدة على حزب المصباح، رغم أنها تمثل تابتا في التحولات الحاسمة التي عرفتها الأحزاب السياسية المغربية.

ورغم أن موقفي من التنازلات التي يقدمها حزب المصباح أعبر عن انتقاداتي لها في حينها باستمرار، ورغم رفضي للتنازلات الجديدة استمرارا على نفس النهج النقدي، غير أنني اليوم، ووعيا بطبيعة المرحلة وما يتهدد حزب المصباح الذي اعتبره الممثل الوحيد لاختياراتي السياسية اليوم، سوف انتقد الخطاب الجديد الرافض لتلك التنازلات من داخل الحزب وفي هذه الظرفية بالذات، لأنه توجه في عمومه لا ينبني على أسس مثينة مقنعة، بالنظر إلى طبيعة حزب المصباح وكيف يمارس السياسة مند ولادته الأولى، ولما يحيط بذلك النقاش من لبس كبير فرضته طبيعة بعض الفاعلين فيه من داخل الحزب ومن خارجه، ولاعتبار السياق السياسي العام الذي يأتي فيه. وبالتالي فهذا النقد لا يعبر عن موقف شخصي مستبطن يقبل التنازلات التي رفضتها على الدوام بمنطق مبدئي أصيل، ولكنه نقد يسائل المرحلة وذلك التوجه الجديد في الحزب، خاصة وأننا أمام عملية تزييف للوعي كبيرة.

ويمكن تلخيص العناصر الأساسية في النقاش الدائر حول حزب المصباح اليوم، والتي سوف ننتقد النقاش الدائر حولها، في قضايا رئيسية هي:
استكبار التنازلات التي قدمها الحزب لتشكيل حكومة العثماني ورفضها.
الحديث عن حصول انحراف عن قرارات الأمانة العامة وشروط المجلس الوطني.
تحميل التنازلات للدكتور العثماني
الدعوة إلى انعقاد دورة استثنائية للمجلس الوطني للحزب للحسم في مسار تلك التنازلات.

أولا، استكبار التنازلات التي قدمها الحزب لتشكيل حكومة العثماني ورفضها.

قبل الخوض في النقاش حول هذه القضية ينبغي تسجيل أمر منهجي هام، وهو أن الملاحظ حول كثير ممن يخوضون نقاشات حول التنازلات، لم يقوموا بنقد ذاتي يؤطر تحولات موقفهم منها رغم أنها تابت في مسار الحزب مند تأسيسه، وكان من بينهم مهندسون لها ومنظرون في تبريرها، وخطباء في الدفاع عنها. وهذا غير مقبول في أعراف سلامة ومصداقية النقاش والحوار. لأنه يحيط نقاشات هؤلاء بالالتباس مما من شأنه أن يثير حولها الشكوك ما دامت لا تعبر عن مواقف أصيلة لأصحابها. ومعلوم أن النقد الذاتي هو الباب الطبيعي لولوج ساحات جديدة من النضال السياسي والتدافع الفكري، وليس القفز على التطورات برياضة ركوب الأمواج.
وبخصوص التنازلات، فإن أكبر ما يثير الاستغراب في الحديث عنها هو استكبارها فجأة والتعامل معها كما لو أنها شيئا طارئا في منهج الحزب وتجربته، وتصويغ اتخاذها منصة إطلاق الاتهامات المجانية والتقييمات العاطفية والتحليلات التي تقفز على الحقائق التاريخية، والخطابات التي تذهب حد التعبئة إلى الانتفاضة الداخلية. ولو أعدنا عقارب ساعة التنازلات في تجربة حزب العدالة والتنمية الحكومية إلى الوراء، واستعرضنا محطاتها الكبرى، واسترجعنا خطابات مختلف الفاعلين اليوم في النقاش حول التنازلات، لاكتشفنا أمورا غريبة. أولها، أن المنطق الذي كان مبنيا على “احترام قرارات المؤسسات”، وعلى “طبيعة المرحلة”، وعلى “استهداف حزب المصباح”، وعلى “وجود مؤامرة ضد الحزب”، وعلى أن “السياسة فن الممكن”، وعلى “التأويل الديمقراطي للدستور”، وعلى “دعم التجربة والحفاظ على المكتسبات”، وعلى “الحفاظ على الأغلبية الحكومية”، وعلى أن “المغرب في حاجة إلى حزب العدالة والتنمية، لذلك ينبغي أن يستمر في الحكومة”…، قد تلاشى فجأة وأصبح ينعث حتى من رواده السابقين بخطابات الانبطاح والانهزام! ثانيها، أن التوقف عند التنازلات التي قدمها العثماني باسم الحزب واعتبارها خطيرة واستثنائية وانبطاحية لا يجد تفسيرا له، بالنظر إلى نوع وحجم التنازلات التي دأب الحزب على تقديمها، إلا في افتراض وجود نوع من “الجبن” في مواجهة الأمر الواقع الذي فرضه القرار الملكي بإعفاء الأستاذ ابن كيران وتعيين الدكتور العثماني مكانه. والمراهنة على قول “لا” لذلك القرار بطريقة التفافية غير مباشرة، و من خلال سياق يرفض نتائجه. وهذه القراءة هي ما سوف نستعرض عناصرها الأساسية في هذا المحور بالخصوص وفي باقي المحاور.

لنبدأ مسار تنازلات المصباح في سياق المشاركة في الحكومة من سنة 2012، ففي شتنبر من تلك السنة نشرت مقالا تحت عنوان “السياسة الكحلة” رصدت فيه أولى مؤشرات الانحراف عن مسار دستور 2011، والتي نبه إليها أكثر من ملاحظ، وكان بعض الذين يعضون اليوم أصابعهم حسرة على التراجعات قد وصفه بالمبالغة، و”التخربيق”، وأدعوهم اليوم إلى القيام بنقد ذاتي واسترجاع شريط التراجعات في الكثير من المجالات، وكيف كانوا فقهاء تبريرها بل والتعتيم عليها أيضا.
المقال المشار إليه رصد مؤشرات التراجع سنة 2012 في عدة مستويات كان من أبرزها:

الالتفاف على مضمون الدستور على المستوى التشريعي.
تراجع خطاب “إجراءات الثقة” الذي كان مهيمنا قبل التعديل الدستوري وقبل التعيين الحكومي، على خطابات قيادات حزب المصباح.
عودة الحديث عن الاختطافات و استمرار انتهاك الحقوق في مخافر الشرطة وفي قمع الاحتجاجات السلمية بالتعنيف والمحاكمات على أساس ملفات يتم فيها تضخيم الجانب الأمني على حساب الجانب الحقوقي وخاصة المتعلق بالحق في التعبير والاحتجاج.
تحول وزارة الداخلية تدريجيا إلى لعب دور “أم الوزارات” كما كانت من قبل.
عودة حزب الدولة، الذي تم تبييضه في الانتخابات التشريعية لسنة 2011، إلى الواجهة، وأصبح له حضور متنامي غير مبرر في جل وسائل الإعلام.

كانت تلك عناوين التراجعات التي رصدها كثيرون في ذلك الوقت، ووضعت نقط بداية انفراج زاوية التراجعات التي استمر مسلسلها بعد ذلك، وأخذت زاويتها في الاتساع. لكنها ووجهت بالصمت المطبق من رواد رفض التراجعات اليوم، بل منهم من كان يبررها بقوة وبأستاذية متعالية متطرفة.

في سنة 2013 سجلت التنازلات التي قدمها حزب المصباح قفزة نوعية في الانقلاب الأبيض على نتائج انتخابات 2011، حين انسحب حزب الاستقلال بشكل غير مفهوم، وهو الذي يعتبر كثير من رافضي التنازلات استبعاده اليوم من المشاركة الحكومية مؤشرا على الخضوع، ليفتح باب الحكومة مشرعا ويدخله الفساد بـ”العلالي”، وباب تنازلات الحزب بشكل درامي، كيف؟

تحالف المصباح مع حزب الأحرار الذي كان رمز الفساد، وكان أمينه العام الذي تولى وزارة الخارجية مكان الدكتور العثماني هو “مول البريمات” المشهور، وهو الحزب الذي وجد فيه ذ ابن كيران حينها الحل لتشكيل حكومته وتجنب “البلوكاج”. وفي الوقت الذي تشكل فيه توجه في الرأي العام وفي الإعلام يستنكر إدخال حزب الأحرار في حكومة ابن كيران الثانية، كان بعض ممن ينتفضون اليوم ضد التنازلات يقدمون دروسا في السياسة للمخالفين معهم في ذلك الوقت، وكان أكثر ما دافعوا به عن التنازلات هو “السياسة فن الممكن” و”المغرب في حاجة إلى العدالة والتنمية في الحكومة، لذلك وجب الاستمرار مهما كان الثمن خدمة للوطن”.

1) دخل 9 وزراء في حكومة 2013 بدون لون حزبي، ولم يتفاوض الأستاذ ابن كيران حولهم مع أي حزب، بل دخلوا رغم أنفه وإرادته، ومنهم من لم يعلم باسمه إلا في صبيحة يوم تعيينهم من طرف الملك. وكتبنا حينها أن حكومة 2013 تسجل نهاية حكومات صناديق الاقتراع والعودة إلى منطق ما قبل دستور 2011. لذلك فالنكوص الكبير سجل في تلك الفترة، وقياس زاوية الانحراف التي يستنكر البعض تجلياتها اليوم حدد من هناك. لكن ماذا كان الأستاذ ابن كيران في ذلك الوقت؟ هل كان بطلا أم كان منبطحا؟ هل تمت بهذلته أم تم تكريمه؟ والحزب هل باع “الماتش” حينها أم اشتراه أم قام بما تقتضيه المرحلة من تقديرات؟ والمبررات التي اعتمدها الأستاذ ابن كيران، ومنها الحفاظ على التجربة وحماية الحزب، أليست هي نفسها المبررات التي يمكن أن تقال اليوم في قبول ما هو أقل سوءا مما وقع في ذلك الوقت على سلم التنازلات؟ ولكن ماذا كانت آراء بعض من اكتشفوا اليوم أن هناك تنازلات؟ ألم يكونوا في واجهة المبررين والمدافعين والمحللين (مقابل المحرمين)؟ بل ألم يكبر وزن بعضهم داخل الحزب وفي دائرته المحيطة فقط لقدرتهم على إعادة تدوير خطاب “الزعيم”؟

2) لماذا أبعد الدكتور العثماني، الذي يقود الحكومة اليوم، من وزارة الخارجية في ذلك الوقت؟ ولماذا قبل ذ ابن كيران بذلك؟ وما هو المنطق الذي حكمه؟ أليس نفس المنطق الذي يعانقه أعضاء البيجيدي من القمة إلى القاعدة هو نفسه المنطق الذي تعتمده الأمانة العامة للحزب اليوم ويعتمده العثماني، بل ويشدد عليه الأستاذ ابن كيرا في كلمته الشهيرة أمام لجنة الاستوزار داخل الحزب مؤخرا؟ ألا يعني كل ذلك أن حزب المصباح ضحى بأحد أكبر قادته المؤسسين، وأمين حزبهم السابق و …؟ ومن المفارقات أن رفض العثماني الاستوزار بعد إبعاده، وصف حينها وبحق، بالمناضل والمتواضع وغير الطامع في المناصب…لكنه أصبح اليوم عند بعض “الرافضون الجدد” طالب مناصب!

3) طيلة زمن الحكومة الثانية للأستاذ ابن كيران، الذي تحالف فيها مع أحزاب الفساد في خطاب “الرافضون الجدد”، كيف سارت الأمور؟ هل كانت الأمور تسير على الصراط المستقيم إلى أن جاء الاستثناء بأن شكل العثماني مسنودا بالأمانة العامة للحزب أغلبيته من الأحزاب الإدارية وحزب الوردة الإداري أيضا؟ بل أين اختفى منطق حماية المشروع من المؤامرات فجأة؟ ما قول أصحاب نظرية المؤامرة ضد الحزب وهم يخوضون اليوم “معركة مقدسة” لرفض التنازلات ولو خدم ذلك تلك المؤامرات؟ بل هل انتهت المؤامرات ضد الحزب مباشرة بعد تولي العثماني رئاسة الحكومة؟

4) لما أعفي وزيري البيجدي على خلفية ضجة إعلامية تتعلق بعلاقات انتهت بالزواج بينهما، هل كانت المبادرة من رئيس الحكومة حينها؟ لماذا قبل ذلك الإعفاء؟ وهل كان مبررا؟ وهل كان مقنعا حتى داخل الأمانة العامة؟ فماذا كانت مبررات الانحناء له؟ أليست من طينة المبررات التي على أساسها تتصرف الأمانة العامة اليوم ويتصرف على أساسها العثماني في عمله؟ ما الذي تغير بين الأمس واليوم؟ هل كان قبول التضحية بوزيرين لاعتبارات صنعتها الصحافة بطولة أم انبطاحا أم تقديرات سياسية؟ وبالنسبة لملف القيادي في البجدي، عبد العزيز أفتاتي، ما هو القانون الذي خالفه أو الجريمة التي اقترفها حتى يتخلى عنه الحزب؟ فكيف يمكن الصمت على التخلي عن اربعة قيايين في الحزب ضمنهم أمينه العام السابق، بتدبير تفاوضي قاده الأستاذ ابن كيران، وينتفض البعض بطرق بعضها ملتبس، بسبب إعفاء الأستاذ ابن كيران من طرف رئيس الدولة؟ ما الأحق بالانتفاضة الاعفاءات السابقة التي تمت في سياقات ملتبسة أغلبها مجرد صناعة إعلامية؟ أم الاعفاء الأخير الذي تم في سياق البلوكاج وبإجراء أكد الحزب دستوريته بشكل واضح وصريح؟

5) طيلة الولاية التشريعية الماضية ماذا كان يجري في كواليس المؤسسة التشريعية بمناسبة إعداد مشاريع القوانين؟ ألم تقدم تنازلات كبيرة حماية لتماسك الأغلبية الحكومية؟ ألم يكن منطق كثير من رواد “خطاب الرفض الجديد” يدور حول أولوية حماية تماسك الأغلبية الحكومية؟ كم من التنازلات قدمت لتحقيق ذلك الغرض؟ وللتاريخ هل ينبغي مثلا أن ننسى موقف حزب العدالة والتنمية حول المصادقة البرلمانية وبالإجماع على البروتوكول الاختياري لاتفاقية “سيداو” التي ناهضها على الدوام؟ ولم تمض غير شهور قليلة حتى سجل ذ ابن كيران مواقف تنقض موقف الحزب حول تلك الاتفاقية في لقاء حزبي داخلي سجل فيه مواقف جديدة ترجع إلى الخطاب الأصلي لحزب العدالة والتنمية في الموضوع، وهي مسألة سوف نعالجها في إطار آخر غير هذا المقال. لكن ماذا كان موقف الحزب حينها ألم يكن قد قدم تنازلا كبيرا وبشكل فج بحرصه على أن يعتمد البروتكول المذكور بالإجماع، مع إمكانه اتخاذ موقف الامتناع عن التصويت الذي لن يمنع تمرير تلك المصادقة؟ لقد تناقشت مع عدد من أعضاء الأمانة العامة حول تلك النازلة، ومع قياديين من خارجها، وأكدوا جميعا أن موقف الحزب كانت تحكمه تقديرات سياسية، وليست قناعات إديلوجية جديدة!

6) في مسألة صندوق تنمية العالم القروي المشهورة، ألم يتنازل فيها الأستاذ ابن كيران عن صلاحياته القانونية والدستورية؟ ألم يعلن أمام الرأي العام أنه تنازل عن تلك الصلاحيات للرجل الذي قاد البلوكاج في وجهه ولم ينتقد بعض “المعارضون الجدد” سعيه للتحالف معه؟ ماذا كان الأستاذ ابن كيران حين تنازل عن شيء لا يحق التنازل عنه قانونا، لأنه ليس ملكية شخصية له؟ أليس ذلك تنازلا خطيرا؟ في أية ديموقراطية يمكن لمسؤول حكومي التنازل بتصريح صحافي عن صلاحياته لشخص آخر؟ لكن أليس بمنطق حماية الأغلبية الحكومية تم بلع ذلك؟ أليس ذلك المنطق هو من صلب المنطق العام الغارق في البراغماتية التي يعد صلب منطق البيجيدي في السياسة؟ لماذا يحاول “الرافضون الجدد” اليوم التمايز عن منطق البيجيدي؟ لماذا لا يدافعوا عنه في الإعلام ولدى الرأي العام؟ ما الذي تغير؟

7) وغير بعيد عن الديناميكية الحالية التي أفرزت تعيين العثماني لرئاسة الحكومة، ماذا كان موقف الحزب في مسألة انتخاب رئيس مجلس النواب قبل تشكيل الأغلبية الحكومية؟ ألم يقدم تنازلا خطيرا بمنطق الدستور التي روج له قبل ذلك؟ هل كان ذلك التنازل وحيا من السماء؟ ألم يكن عملية ذبح فجة للديموقراطية بالمنطق الحزبي الرائج قبل الخضوع للأمر الواقع؟ لكن ما هو المنطق البراغماتي الذي حكم الحزب ومسؤوليه وبعض ممن يرفضون التنازلات اليوم؟ كيف كان ذ ابن كيران؟ هل كان بطلا؟ هل كان منبطحا؟ أم كان مدبرا لمرحلة تحكمها معطياتها؟ لقد سجلنا حينها أن أم مصلحة الوطن الأولى هي في احترام الدستور، وأن الانضمام إلى الاتحاد الافريقي إذا تم التغافل عن وضع إجراءات القيام به طيلة 5 سنوات من عمر حكومة ابن كيران القائمة، فيمكن تأجيل ذلك إلى ما بعد تشكيل الحكومة الجديدة، فالاتحاد الافريقي ينظم قممه بشكل دوري مستمر. فلماذا رضخ الحزب لمسألة اعتبرها انقلابا على المنهجية الديموقراطية؟ ولماذا اكتفى بالامتناع عن التصويت وليس تقديم مرشح منافس لرئاسة الغرفة الأولى؟ فكيف يجب على العثماني رفض حزب الوردة الذي يترأس الغرفة الأولى واعتبار ذلك تنازلا خطيرا؟ وما الأخطر في التنازلات، ضم الوردة إلى الحكومة بعد أن أصبحت أمرا واقعا، أم قبول فرضها بالأمر الواقع؟

وبالنظر إلى مسار التنازلات التي سجلنا أهم مؤشراته، بأي منطق ترفض التنازلات بشكل جذري اليوم؟ ما هو التنازل الخطير الذي قدمه الحزب اليوم؟ تنحية الأستاذ ابن كيران بقرار ملكي، وهو القرار الذي وصفه ابن كيران نفسه بأنه دستوري ويدخل ضمن صلاحيات الملك، وقبله المجلس الوطني للحزب بعد أمانته العامة؟ هل هو قبول حزب الوردة في حكومة العثماني بعد الاستسلام لفرضه في خريطة “الأغلبية الكامنة” بقيادة الأستاذ ابن كيران؟ هل هو في التشكيلة الحكومية التي اعتمدها العثماني، مع العلم أن التوجه نحو رفض التنازلات تقوى قبل ذلك؟ ما الأسوأ حكومة 2017 أم حكومة 2013؟

نعم قد يكون البعض في مرحلة الاشباع تجاه مزيد من التنازلات، وتكون تنازلات تشكيل حكومة العثماني النقطة التي أفاضت الكأس، لنكون أمام مقاربات عاطفية وليس أمام مقاربات سياسية براغماتية بمنطق الحزب المعروف بها. لكن هل ينبغي أن نعتمد المقاربة الملائكية في التعامل مع جزء من خطابات رفض التنازلات اليوم؟ هل ينبغي استبعاد سياق الاعداد للمؤتمر للبحث عن الدوافع الحقيقية للبعض في رفض التنازلات اليوم؟

إن من بين ما أجمع عليه المراقبون والخبراء أن حزب المصباح يمارس براغماتية كبيرة. ومعلوم أنه بقدر كبر تلك البراغماتية يكون حجم التنازلات، وأن من الطبيعي في الممارسة السياسية أن تكون هناك تنازلات، وأن التنازلات تحكمها موازين القوة وليس الرغبات والعواطف، وأن الذي لا يقبل ما تفرضه موازين القوة ذلك ما عليه سوى الانسحاب من اللعبة، وأن ذلك الانسحاب له ثمنه أيضا، وعلى المنسحب تقدير تحمله من عدمه. فهل هذا الاستنتاج الأخير هو الرهان السياسي للمجلس الوطني الذي يدعو كثيرون إلى عقد دورة استثنائية له؟ سنناقش هذه النقطة لاحقا.

لقد نحث خبراء وملاحظون مند الارهاصات الأولى لتنازلات حزب المصباح الكبيرة توصيفا سياسيا دقيقا يلخص إحدى مرجعيات حزب المصباح في تنازلاته، وأكدوا أن حزب المصباح ضحى بالدستور وبالديموقراطية من أجل نيل ثقة الملك، ومن المفارقات أن من هؤلاء الملاحظين من انخرط اليوم في الولولة والحديث عن البيع والشراء، لإضفاء طابع الخطورة والمبالغة في تنازلات الحزب على عهد العثماني، وكأن تنازلات الحزب شيء طارئ وليس اختيارا ممنهجا يقول الحزب إنه خدمة للوطن، ولخص ذلك في شعاره الشهير”الاصلاح في ظل الاستقرار”. لكن هل انتهى الرهان على الثقة الملكية؟ وهل تخلى الحزب عن خدمة الوطن؟

إن روح اللعبة في تدبير التنازلات هو ما عبر عنه الأستاذ ابن كيران نفسه حين فرق بين التنازلات والانبطاح، لكن كيف نفرق بين التنازلات التي تعبر عن ديناميكية تفاوضية في إطار موازين قوة، وبين الانبطاح الذي ليس في النهاية سوى حكم قيمة يمكن إلصاقه بسهولة بأي تنازل؟ إن المرض الذي أصاب الحزب فيما يتعلق بتدبير التنازلات هو تضخم البراغماتية عنده، وعدم خضوعها لرؤية سياسية واضحة ومنسجمة، وخضوعها لمنهجية أقرب إلى الشخصانية منها إلى منهجية جماعية. وتدبير الأستاذ ابن كيران لمفاوضات تشكيل حكومة 2013 خير دليل على ذلك.

ثانيا، الحديث عن حصول انحراف عن قرارات الأمانة العامة وشروط المجلس الوطني.

من أخطر ما يروج في النقاش الدائر اليوم لرفض التنازلات الحديث عن حصول انحراف عن قرارات الأمانة العامة للحزب ومجلسه الوطني في المسار الجديد الذي سار عليه د العثماني. ومن الحجج التي يتم تقديمها قرارات الأمانة العامة في مرحلة تكليف الأستاذ ابن كيران بتشكيل الحكومة وشروطها فيها. والحديث عن شروط وضعها المجلس الوطني.

وخطاب الانحراف عن نهج الحزب وشروطه وقراراته خطاب يقفز على العديد من الحقائق، سنذكر أهمها:

+ هذا الخطاب يفترض منهجيا وسياسيا وتنظيميا صلاحية جميع القرارات التي اتخذتها الأمانة العامة لتدبير مرحلة البلوكاج في عهد تكليف ذ ابن كيران بتشكل الحكومة، لتدبير مرحلة ما بعد البلوكاج في عهد تكليف العثماني بذلك بقرار ملكي. وذلك لا يستقيم بالمطلق، إذ الأمانة العامة تتخذ قرارات تدبيرية بناء على تقديرات خاصة بكل مستجد وبكل قضية وبكل مرحلة، هذا بشكل عام.

+ الأمانة العامة للحزب بعد قبولها بقرار الملك إعفاء ذ ابن كيران وتكليف العثماني تكون قد قبلت بالتخلي عن كل القرارات والشروط التي ترتبط بمرحلة البلوكاج وبتكليف ابن كيران، وإلا فهي ستمارس العبث، إذ يقضي منطق القائلين باستمرار صلاحيات تلك القرارات والشروط أن يبدأ العثماني مفاوضاته بحالة البلوكاج وأسبابه، وهذا الأمر كان ذ ابن كيران واضحا في بيانه حين صرح أنه “كان له مشروع دعمته فيه الأمانة العامة بقوة، والآن العثماني سيكون له مشروع وستدعمه الأمانة العامة بنفس القوة، وأنا عضو في الأمانة العامة ورئيسها”.

+ الأمانة العامة للحزب لم يتم حلها بمجرد إعفاء ذ ابن كيران من تشكيل الحكومة، بل هي قائمة ورئيسها هو الأستاذ ابن كيران، وهي تنعقد باستمرار، وتواكب عمل العثماني، بل وتصادق عليه وبالاجماع أحيانا. فإذا كانت التنازلات التي قدمها العثماني باسم الحزب لا تمثل اختياراتها وتناقض قراراتها وشروطها، فلماذا لم توقف ذلك؟ ولماذا لا يتدخل الأستاذ ابن كيران لوقف ذلك؟

+ الأمانة العامة في تدبيرها لملف المشاورات التي يقودها العثماني، ساندت قرار الملك، وشكلت لجنة من ثلاثة أكبر القيادات في الحزب لتقرر مع العثماني بشأن المشاورات وما تتطلبه. وتنعقد باستمرار، وتصادق على تطور المفاوضات التي يقودها العثماني لتشكيل الحكومة. وهذا يعني أن الحديث عن كون العثماني انفرد بالمشاورات ولا يطلع الأمانة العامة عليها قول مردود، ولا يمكن تصور إمكانية وقوعها إلا في الحالات التي يكون فيها العثماني هو الأمين العام. اللهم إذا تبث أن الأمانة العامة دعت الى اجتماع وطلبت إطلاعها ورفض ذلك. فهل يسجل للتاريخ أن ذلك قد وقع؟ وأن العثماني تمرد على الأمانة العامة واستقوى عليها بالتكليف الملكي؟

وما سبق يبين أن الحديث عن حصول انحراف عن قرارات الحزب وشروطه خطاب من شأنه تحريف حقيقة تاريخية وهي أن التنازلات التي قدمها العثماني لتشكيل حكومته هي تنازلات للحزب ومؤسساته. وأن إضفاء الطابع الشخصي على تلك التنازلات من شأنه تحريف النقاش والنقد والتقويم. وهذا يتطلب من رافضي التنازلات على يد العثماني انتقاد الأمانة العامة، والأمين العام بالخصوص. فلماذا لا نرى انتقادات للأستاذ ابن كيران عن ما اعتبره المنتقدون تنازلات اكتشفوا فجأة أنها خطيرة، في حين أنها متوقعة، كما يتوقع أكبر منها مستقبلا؟ هل هناك من ينتقد الأستاذ ابن كيران حول التنازلات التي قدمها الحزب اليوم؟ لماذا؟ لماذا يسعى البعض إلى إلصاق التنازلات بالعثماني وحده؟ هل لديناميكية الاعداد للمؤتمر علاقة بذلك؟

لكن إذا صح أن الأمانة العامة، رغم كل ما سبق الاشارة إليه، غير راضية على منهجية العثماني في المفاوضات، وعلى تشكيلة حكومته، ويتم التعبير عن ذلك بتسريبات صحافية، ويتم الاستدلال على ذلك بإحجامها لحدود الساعة عن التعبير عن موقفها المساند لحكومة العثماني، فإننا نكون أمام منهج ملتبس يفسح المجال لكل التأويلات، ومنها العمل على قول “لا” لكل ذلك المسار الذي انطلق بقرار الملك إعفاء الأستاذ ابن كيران وتكليف وتعيين العثماني خلفا له، من خلال منهجية يدبر فيها الحزب جُبنه السياسي فقط وليس مواقفه ضد الفساد في التنازلات.

ثالثا، تحميل التنازلات للعثماني

من أخطر ما يروج في النقاشات الدائرة اليوم حول تنازلات حزب المصباح لتشكيل النسخة الثالثة من حكوماته، هو أن سعد الدين العثماني يتحمل مسؤولية التنازلات التي تمت، ورغم أن ما سبق من توضيحات يكفي في بيان تهافث هذا التوصيف، إلا أن قائليه لم ينتبهوا إلى أن العثماني لا يملك أية صلاحيات لإرغام الحزب بما يتخذه من خطوات، وصمت الأمانة العامة يجعلها، بكل أعضائها، الراعية والراضية والشريكة والمسؤولة عن كل التنازلات التي قدمها العثماني. لكن لابد من التنبيه إلى خطورة شخصنة مثل هذه الأمور في مثل الظرفية التي يعيش عليها الحزب وقبيل انعقاد مؤتمره. فإذا جاز اعتبار الحزب قد ضحى بالأستاذ ابن كيران حين تعامل بشكل إيجابي مع القرار الملكي، فإن تحميل المسؤولية ظلما للعثماني وحده في التنازلات التي على اساسها شكل حكومته لا يعني سوى التضحية به أيضا وحرقه داخليا، بضرب مصداقيته ورمزيته ومكانته داخل الحزب وإظهاره كما لو أنه باع الحزب وخان الأمانة، وقد عبرت بعض الأصوات على مثل هذا. وهذا بالطبع لا يمكن فصله عن مختلف السياقات، ومنها سياق الاستعداد لعقد مؤتمر الحزب قريبا.

لكن التحليل لا يستبعد قراءة تقارب تفسير موقف بعض رافضي التنازلات ممن صنفناهم ضمن الجبناء وقادة التبرير. فهم يعلمون أن الحزب لا يمكن أبدا أن يقول “لا” للملك، وهو ما يفسر قرار الأمانة العامة وإجماع المجلس الوطني حول قبول قرار الملك إعفاء الأستاذ ابن كيران وتكليف الدكتور العثماني خلفا له. لكنهم يراهنون على أن يقال “لا” للملك بالأمر الواقع، وبفم العثماني، وذلك من خلال بلوكاج جديد يدخل فيه الرئيس المكلف الجديد. لذلك لم ينتقد هؤلاء قرارات الأمانة العامة والمجلس الوطني بقبول القرار الملكي علانية، لكنهم قرروا محاصرة العثماني مسنودين بتوجه إعلامي ملتبس يراهن على حزب المصباح للقيام بما عجزت عنه حركة 20 فبراير، وهو ما سنعود إليه بشيء من التفصيل في مناسبة أخرى. والهدف هو الضغط عليه كي لا يقدم أي تنازلات ويدخل في “بلوكاج جديد” بالبدء من حيث انتهى الأستاذ ابن كيران وبنفس الشروط. لذلك كانت البداية من تقديم العثماني على أنه شخصية ضعيفة، واللمز من أول قراراته والمتعلقة بإشراك جميع الأحزاب الممثلة في البرلمان في المشاورات، وخاصة حزب الوردة! ولا نستغرب بعد ذلك تضخيمهم لكل التنازلات التي قدمها الحزب بقيادة الأستاذ ابن كيران لصالح إنجاح مهمة العثماني الحكومية، وتقديمها على أنها تنازلات العثماني. وهذا بالطبع لا يستبعد فيه حسابات المؤتمر القادم، حيث أن استمرار الحزب في نفس المنطق الذي اعتمده في عدم الفصل تنظيميا بين الوظائف الحزبية والحكومية، والذي انتقدته شخصيا بشكل مستمر، قد يكرس العثماني أمينا عاما للحزب في المؤتمر القادم، وهو ما يرفضه هؤلاء رفضا.

رابعا، الدعوة إلى انعقاد دورة استثنائية للمجلس الوطني للحزب للحسم في مسار تلك التنازلات.

لا يمكن إلا تثمين الدعوة إلى انعقاد برلمان الحزب. لكن لابد من التوقف عند الهدف من ذلك، فالحديث عن توسيع المناقشة حديث عائم، ذلك أن تلك المؤسسة لا تحتضن النقاش بالشكل الذي يجري به في الفايسبوك وعلى صفحات الجرائد، بل يناقش في إطار رهان سياسي واضح. لذلك لابد من الدفع بتعميق الوضوح حول هذه المسألة، ونسأل ما هي رهانات انعقاد دورة استثنائية للمجلس الوطني؟ هل فقط لاستعراض تقرير يفتح حوله النقاش ثم ينفض الجمع بعد ذلك؟ أم أن المجلس سيخرج بقرارات؟ وماهي السيناريوهات الممنكة لتلك القرارات؟ هل يمكن مثلا أن يخرج المجلس الوطني بقرار وقف مشاركة الحزب في الحكومة على أساس رفض التنازلات التي قدمها الحزب في ذلك؟ وهل الحزب مستعد لتحمل مثل تلك القرارات؟

أما المراهنة على خروج المجلس الوطني مثلا بقرار يتموقع فيه الحزب في موقف المساندة النقدية للحكومة فهو رهان عبثي وغير واقعي وغير ممكن قبل انعقاد المؤتمر والحسم في الفصل بين الوظائف الحكومية والوظائف الحزبية في الهياكل التنظيمية للحزب. إذ سيكون من العبث أن تتخذ الأمانة العامة للحزب، وضمنها رئيس الحكومة والوزراء، قرارات ومواقف نقدية للحكومة!

إن الحديث عن عقد دورة استثنائية للمجلس الوطني في غياب وضوح حول رهانات تلك الدورة، قد يفتح باب المجهول واسعا أمام الحزب. وإذا لن يتخذ المجلس قرارات كبيرة وواضحة فلا معنى لعقده لمجرد النقاش وتبادل الرأي والاتهامات. إن الدعوة إلى عقد دورة استثنائية للمجلس الوطني ينبغي أن تؤطر بمشاريع سياسية واضحة تجعل له رهانات واقعية.

غير أنه لا بد من تسجيل ملاحظة نقدية تتعلق بغياب فضاءات الحوار الداخلي في الحزب، فالحزب اتخذ قرارات مند سنة 2008 تتعلق بتنظيم الحوار الوطني الداخلي، وهذا المشروع الضخم الذي تشرفت بالنضال من أجله في تلك الفترة ضمن مجموعة من 6 أعضاء في الحزب، تم إقباره بدون قرار لاغ، وكثيرون ممن افتقدوا اليوم الحوار وأدركوا ضروراته وأهمية حرية الرأي، لم يقوموا باللازم من أجل الحفاظ على مكتسب حيوي تم التفريط فيه بعد دورة واحدة أو دورتين. واليوم تظهر خطورة غياب مثل تلك الفضاءات، لكن ومع احترامي الكبير لمطلب عقد دورة استثنائية لبرلمان الحزب، لا بد من توضيح أمر مهم، وهو أن المجلس الوطني رغم كل شيء ليس ناديا للحوار والنقاش، بل مؤسسة تخرج بقرارات ومواقف سياسية، ومن دون رهانات واضحة تخدم مصلحة الحزب فعقده لن يزيد سوى من تعميق جرح لن تخفيه شعارات تمجيد الحوار وحرية الرأي والنقاش، إذ ما يجري اليوم هو أكبر من كل ذلك.

خلاصة

إن أكبر خلل ينخر الدماغ السياسي لأغلب الإسلاميين في تجاربهم المختلفة، هو أنهم يمارسون السياسة معتمدين على قدم واحدة، وهي الشرعية الانتخابية، ومعلوم أن الشرعية الانتخابية ليست سوى الجزء الظاهر من جبل الثلج في شبكة مرتكزات السياسة، وأن الجزء المخفي من ذلك الجبل يتعلق بالمشروعية التي تدور حول موازين القوة في المجتمع. لذلك فالمشترك في فشل تجارب الاسلاميين السياسية تأتي في الغالب من عدم اعتبارهم للقدم الثانية الضرورية لاستمرار سيرهم الطبيعي في درب السياسة، فيستمرون في النط على قدم واحدة إلى أن يتعبهم طول المسير فينهاروا تحث ثقل أجسامهم تعبا، أو السقوط المدوي حين تتكسر تلك الرجل على واقع لا يرتفع، واقع تغول المشروعية وتطرفها على حساب الشرعية، وهذا الجانب سبق وفصلنا فيه القول في مقال مستقل.

ومشكلة حزب المصباح اليوم، أو مشكلة الذي تعبوا، صادقين أو متصنعين، من التنازلات، هي مشكلة القفز على معادلة الشرعية والمشروعية. رغم أن الضربات الموجعة التي تلقاها الحزب في الحكومة وخارجها، ضربات لم يكن ليتلقاها لو كان هناك توازن طبيعي بين الشرعية والمشروعية. وهذا كثيرا ما نبه إليه الأستاذ ابن كيران بطريقته الخاصة، والذين يتجاهلون، بقصد أو بدونه، هذه الحقيقة سوف يعيدون تجربة الاسلاميين الذين سحر ما حصلوا عليه في صناديق الاقتراع أعينهم فأعلنوا الحرب على الجميع، فقاتلهم الجميع، وانتهوا في واقع ظالم هو السجون وتحت تصنيف أظلم وأخطر هو الإرهاب. فبماذا نفعتهم الشرعية؟

وهنا نسأل كيف يمكن للعثماني أن يتصرف، وهو يدبر مرحلة بعيدة عن نفس 2011 حيث تراجع تغول المشروعية بشكل ملحوظ، بأكثر مما دبر به الأستاذ ابن كيران تلك المرحلة؟ فحتى لو تمكن حزب المصباح من الاستحواذ على أغلب مقاعد البرلمان وليس مجلس النواب فقط، فسيجد أمامه واقعا أكبر منه لم يتمكن المغاربة من إصلاحه، وهو تغول المشروعية وتطرفها، وهذا التغول من رحمه خرج التحكم وكل الأسماء المشابهة. إن القفز على هذه الحقيقة، والتسلح بالشعارات العاطفية، والتحليلات البطولية، لن تكون له سوى نتيجة واحدة، وهي أن يتكسر حزب المصباح على صخرة تطرف المشروعية.

إن ما سبق يحكمه عنصر أساسي هو أننا نتحدث في إطار حزب يومن بالمشاركة السياسية الانتخابية، أما حين يتعلق الأمر بحزب آخر، فمن السهل أن نطالبه بالتوقف، والانسحاب من الحياة الانتخابية. نعم كثيرا ما يتم الدفع بمقولات تقليدية تتحول إلى كلشيهات شعبوية في العمق، ومنها القول إن التنازلات ينبغي أن يكون لها حدود. وبالفعل فالأمر كذلك، لكن ليس بدون رؤية سياسية واضحة، لابد أن يراجع الحزب اختياراته الاستراتيجية ليكون له تصور لتلك الحدود وما بعدها، وليدخل ضمنها خيار اعتزال المسلسل الديموقراطي، والرهان على غيره من وسائل العمل السياسي والشعبي، سواء بنفس إصلاحي أو بنفس جذري. إنه ما لم يعالج تطرف المشروعية الذي يعتبر العامل الرئيسي في قتل الأحزاب بالمغرب، وقتل اللعبة السياسية فيه بالنتيجة، فإن الأحزاب التي اختارت المشاركة في المسلسل الانتخابي ليس أمامها سوى التنازل المستمر وبجرعات متزايدة، لصالح تطرف المشروعية. إلى متى؟ إلى أن تسلم الروح لبارئها وهي ضعيفة مهلهلة! هذه هي الحقيقة التاريخية المرة، ومن شك فليقم بجرد سريع للأحزاب السياسية المغربية ليكتشف ما يحكيه واقعها من دمار ألحقته بها طاحونة تطرف المشروعية. فلنسأل عن الأحزاب الوطنية: أين الاتحاد الاشتراكي؟ وأين حزب الاستقلال؟ واين حزب التقدم والاشتراكية؟ هي ثلاثة أهم أحزاب وطنية هي كل ما تبقى من الأحزاب التي لم تخرج من رحم السلطوية، فكيف حالها اليوم؟ والباقي مجرد إطارات لتصريف موازين القوة في مربع السلطوية، وتوفير الضمانات حول ضبط المشهد السياسي الظاهر للعلن كي لا يخلق المفاجآت، ودرس البلوكاج يحكي القصة كاملة. ويرسم الصورة المستقبلية لتدبير المسلسل الانتخابي إلى أن يستيقظ الوعي الجمعي للمغاربة ويعيدوا للشرعية الانتخابية والديمقراطية مكانتها الطبيعية.

إن السؤال الحيوي في هذا السياق هو كيف يمكن لحزب سياسي أن يجمع بين الانخراط في العملية السياسية بجوانبها الانتخابية، ويساهم بشكل فعال في إصلاح تطرف المشروعية؟ ويستحق هذا السؤال التفكير فيه بعمق، بحثا عن أطروحة حقيقية للعمل الحزبي بالمغرب. وهذا يعني أن حزب المصباح بذل الانشغال بخطابات بعضها يفتقد الشمولية، وبعضها عاطفي وبعضها ملتبس، عليه الاشتغال على مراجعات تستوعب دروس تجربته الحكومية، ويخرج برؤية جديدة تضع مقاربة نضالية لتدبير التنازلات، وتعالج إشكالية تطرف المشروعية على حساب الشرعية الانتخابية والديموقراطية.