وجهة نظر

الدولة وفزاعة التخوين والحراك في الريف

في كل الديموقراطيات ..أقول كل، التي تحترم نفسها من خلال احترامها لدستور الدولة والقوانين التي سنتها مؤسساتها الدستورية المنتخبة ، حين يُنشر خبر ولو كان مجرد إشاعة بتخوين جهة ما او شخصية سياسية ما؛ أول ما يفعله القضاء وحتى قبل أن تمر 24 ساعة على نشر خبر التخوين؛ هو فتح تحقيق في تهمة التخوين هذه ؛ قضاة التحقيق يستدعون وعلى عجل المسؤول عن منبر نشر خبر التخوين والمُتهَم بهذه التهمة الثقيلة ، يُطلب من الأول الإدلاء بما يثبت التهمة التي أطلقها عبر منبره ليواجه الثاني بهذه القرائن إلى أن تنجلي الحقيقة ، ويأخذ القانون مجراه سواء بتأكيد تهمة الخيانة أو بنفيها ومتابعة المنبر بتهمة الافتراء و التشهير والتضليل.

قلت هذا ما يحدث في الدول الديموقراطية التي تحترم القانون وذكاء المواطن أيضا
لكن ما الذي يحدث عندنا في مغرب الاستثناء من تطبيق القانون؟ إنه العكس تماما؛ يمكن لإشاعة خطيرة مثل تهمة التخوين أن تصول وتجول على صفحات الجرائد ويتداولها نشطاء الفيسبوك تعليقا وتحليلا وسخرية أيضا دون أدنى حرج، ويمكن حتى للقادة السياسيين التراشق بها في حروبهم البهلوانية، يمكن لكل هذا أن يحدث دون أدنى حرج؛ فلم يسبق لنا أن سمعنا بأن القضاء فتح تحقيقا مع أحد أقطاب حزب العدالة والتنمية مثلا لأن هناك (شخصيات سياسية حزبية) من اتهمهم بتلقي أموال قطرية وتركية ودعم الإرهاب وأن الحزب تابع لجماعة الإخوان المسلمين، بالرغم من أنها تهم ثقيلة جدا تندرج فيما يمكن أن يزعزع استقرار البلد.

صحيح أن الذين خبروا آليات العمل السياسي في هذا البلد وحتى متابعيه عن قرب يعلمون جيدا أنها تهم جاهزة معلبة؛ تندرج ضمن الأسلحة القذرة التي يلجأ إليها السياسي الفاشل في المغرب لتصفية حساباته الشخصية والسياسية مع خصومه السياسيين أو الإيديولوجيين، لكن هذا لا يمنع الدولة وعبر مؤسسة القضاء من فتح تحقيق عاجل في شأن هذه التهم، على الأقل لحفظ هيبتها التي طالما طالبتنا أن نحترمها، أو على الأقل لتخليق العمل السياسي في المغرب
لكن؛ وبما أن هذه الدولة نفسها هي المستفيد الأكبر من إطلاق هذه التهم والتراشق بها بين فرقاء السياسة في المغرب ، وبما أن أجهزتها تكون لها اليد الطولى أحيانا في نشر مثل هذه التهم ، وبما أن مصلحتها في تمييع السياسة بالمغرب وخلط الأوراق؛ فإنها تغض الطرف وتتعامل مع هذه الإشاعات وكأنها نكت يتداولها الشعب في المقاهي وليست تهما تهدد أمن واستقرار المغرب؛ وقد نجد الإعلام التابع لها ينفخ فيها ويتداولها بغير قليل من السطحية.

وإن كان هذا دأب الدولة مع فرقاء السياسة فإن الأمر لا يختلف بالنسبة لها مع معارضيها ومع الحركات الاحتجاجية في المغرب، بل أكثر من ذلك ، تكون أجهزتها هي المفبرك والمسرب إلى الإعلام الخادم لتهم التخوين والعمالة لجهات أجنبية _بإتقان شديد أحيانا وبغباء كثيف أحيانا أخرى_ والتاريخ المغربي الحديث زاخر بمثل هذه القضايا، آخرها ما روجته عبر منبر “جون أفريك” حول الحراك الشعبي في الريف.

هذه المرة ولسوء حظها كان الغباء الكثيف حاضرا والأجهزة المخابراتية تروج لخبر تلقي قيادات الحراك في الريف دعما ماليا من منظمات/هيئات “انفصالية” في هولاندا وبلجيكا، الخبر طبعا تلقفته بعض المنابر المطبلة للمخزن و كل من كان يعارض الحراك الاجتماعي في الريف كعطشى كانوا في انتظار جرعة ماء، بلعوه حتى قبل أن يمضغوه.

لا أحد منهم كلف نفسه عناء التساؤل حول توجُّه مجلة جون أفريك وحظوتها لدى الدولة المغربية التي تخصها قبل الصحافة الوطنية بنشر حتى تفاصيل تحركات الملك محمد السادس، فقط تهافتوا على استهلاك هذا الخبر وتداولوه واستنتجوا خلاصاتهم مفترضين مسبقا صحته؛ وهذا من بين ما كانت تسعى إليه الدولة حين روجت لهذه الإشاعة.

وإذا افترضنا جدلا بأن تهمة التخوين التي روجتها المجلة كانت من مصادر أخرى غير المخابرات المغربية، مع أن الأمر واضح ولا يحتاج إلى كثير من “الكونانية”، قلت إذا افترضنا جدلا ذلك فلماذا لم يفتح القضاء المغربي تحقيقا فوريا في هذه التهمة ؟؟ لماذا لم تستدع قيادات الحراك ولم تبحث في أرصدتهم قبل وبعد بداية حراك الريف، فليس هناك اسهل من رصد تحركات الأموال ؟؟ وهل الأجهزة المخابراتية نائمة وغبية إلى درجة أن تترك منفذا مهما وسهلا مثل هذا دون حراسة بغرض رصد التحركات التي تحصل عبره ؟؟
إن كانت الدولة المغربية بريئة فعلا من فبركة تهمة الخيانة هذه؛ فلتفتح تحقيقا في الموضوع، ولتثبت للجميع إن كان الشباب فعلا خونة يسعون إلى الانفصال وتقسيم المغرب باستخدام أموال مصدرها منظمات انفصالية متواجدة في الخارج، أليست هذه فرصة لا تعوض لنسف الحراك نهائيا بدل أن يسهر صقور الداخلية ليل نهار ويتناوبواعلى زيارة الريف للقاء الشباب هناك بقصد التفاوض لأجل الوصول إلى حل ؟؟وإن كانت هذه التهمة ثابتة كما يثرثر الكثيرون؛ فلماذا اعترفت الدولة نفسها بتعرض الريف لتهميش حقيقي وبأن أوامر ملكية صارمة قد صدرت لخلق مشاريع تنموية في المنطقة ؟؟ أليس في قلب هذه “العناية الملكية” يكمن الاعتراف بأن مطالب الحراك اجتماعية اقتصادية محضة ؟؟

إذا كان التاريخ قد علمنا ألا نستغرب أو نستبعد أي شيء من أجهزة المخابرات في المغرب وربما في أعرق الديموقراطيات عبر العالم؛ وعلمنا أن نهضم أي خبر/تهمة ونقلبه على جميع الجهات، ونحفر في حيثيات وظروف نشره، وعلمنا أيضا أنه عندما تصمت الدولة عن التحقيق في قضية ما مثل قضية التخوين هذه وتطبل مع المطبلين لها فإنها تكون بالتأكيد واقفة وراء نشرها لأنها تكون أول من يجني ثمار هذا الاتهام الخطير …إن كان هذا المنهاج في معالجة القضايا الشائكة يدخل في صميم عملها وحربها ضد “أعدائها” الذين تفترض دائما أنهم كل من يعارض سياساتها المجحفة وكل من يطالب بأبسط حقوقه، وإن كنت شخصيا لا ألومها؛ لأنه ليس سهلا أن تكون مسؤولا كبيرا في الدولة وتقف عاجزا حائرا أمام حراك شعبي سلمي مائة في المائة وعلى هذه الدرجة من البراعة في التنظيم والصمود والثبات على الموقف والاستمرارية والزخم لشهور متتالية….لابد أن تفقد صوابك وتبحث في جعبتك عن أي حل حتى لو كان خارج قواعد الأخلاق والمنطق.

قلت إن كان الأمر هكذا بالنسبة للدولة ، فما الذي يبرر تهافت البعض على تصديق هذه الاخبار إن لم تكن السطحية الشديدة التي يعاني منها ويتعاطى بها مع الأمور، إن لم يكن شعوره بالعجز و انتصاره للحساسيات المتراكمة لديه على حساب الموضوعية في التعاطي مع القضايا الوطنية، إن لم تكن نظرية المؤامرة هي آليتهم الوحيدة لتحليل أي إشكال مهما بلغ تعقيده، إن لم يكن رغبة منه في تقديم مزيدا من فروض الطاعة العمياء تعبيرا عن “حسن نيته” واستعداده لمزيد من التعاون ؟.

يا سادة …مصفاة العقل وجدت لغربلة كل ما نتلقاه قبل أن نصدقه أو نكذبه وفرز الصالح والطالح منه، وليس لاستعمالها كإسفنجة تمتص أي معلومة/خبر حتى لو كانت لغما قابلا للانفجار فينا.

أما من أعماهم الطمع والزاحفون على بطونهم أمام عتبات المخزن فلا عزاء لهم …سيذكرهم التاريخ بمداد العار