منوعات

من الوطنية المناسباتية إلى المواطنة الفاعلة

في كتابه الجميل والعميق “العبودية الطوعية” يقول إيتان دي لابويسي: «إن الشعب الذي يستسلم بنفسه للاستعباد يعمد إلى قطع عنقه، والشعب الذي يكون حيال خيار العبودية أو الحرية، فيدع الحرية جانبا ويأخذ نير العبودية هو الذي يرضى بالأذى، بل يسعى بالأحرى وراءه».

فكثيرا ما ننحو في انتقاداتنا منحى التركيز على السلطة السياسية ونستفيض في إبراز مثالبها وسلبياتها، لكننا نغفو عن التطرق لما يصطلح عليه بـ«الأغلبية الصامتة» التي ليس لها في العير ولا في النفير، إذا ما أردنا توظيف هذا المثل القديم. فهذه الأغلبية، وهي بالفعل أغلبية قياسا على الأقلية الفاعلة في المجتمع، مستغرقة في سباتها، مكتفية بالتفرج على ما يحدث، إن تفرجت، تراقب عن بعد، إن راقبت، شعارها الخالد «لا أرى لا أسمع». ولكنها في نفس الوقت تئِنّ في صمت، وتشكو في معزل عن الشأن العام. يجمع بينها قاسم مشترك، من سماته لعنة الظلام وانتقاد الكل، بما في ذلك نقد الذات، دون تحريك ساكن أو إشعال شمعة. ورب قائل: إن الأغلبية الصامتة على درجة كبيرة من الوعي؛ أو: ماذا عساها أن تفعل في ظل سيادة العبث السياسي وضبابية الموقف؟

ونحن، إذ لا ننفي عن هذه الأغلبية وعيها (رغم أن لسانها الدارج غالبا ما يتسلط عل الشعب ويتهمه بالتخلف وعدم استحقاقه للديمقراطية)، فإننا نؤكد أن الأفق مفتوح أمام هذه الفئة العريضة من الشعب، فقط عليها أن تهجر الرصيف وتنخرط في عمق الأحداث؛ فهذه الأغلبية الصامتة، جزء منها لا يشارك في الحياة السياسية والمدنية؛ والجزء الثاني لا يشارك إلا خلال فترات محددة وبما يخدم مصلحته الضيقة واللحظية؛ أما الجزء الثالث فيكره كل ما يرمز إلى الشأن العام أو له علاقة بالمجتمعين المدني والسياسي. غير أن الجامع بين هذه الأجزاء هو عدم الرضى على كل شيء، فهي ترفض الأحزاب السياسية الحكومية، وتمقت أحزاب المعارضة، ولا تعرف الكثير عن الأحزاب والجماعات الجذرية.
ورغم أننا لا نملك الدليل على تقسيم أجزاء الأغلبية على هذا النحو، لأنها ببساطة لا تتكلم حتى نستوعب مُرادها، فإننا نستشف ذلك من خلال واقع الممارسة؛ فنسبة المشاركة الانتخابية لم تصل في أي محطة من المحطات إلى 50 في المائة؛ بينما يعكس واقع حال المجتمع المدني النسبة الحقيقية للمنخرطين في صفوفه، على الرغم من أننا في البلدان العربية نخلط، عندما نتلكم عن المجتمع المدني، بينه وبين المجتمع الأهلي، والفرق بينهما كبير جدا، فالأول يهتم بالمواطن بغض النظر عن دينه أو عرقه أو فئته أو مهنته، بينما الثاني ينبني على المصالح الفئوية المنفلتة من أي بعد مواطني.

يضاف إلى هذا الخلط بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، خلطـٌ آخر يقوم على المُمَاهاة بين الوطنية والمواطنة، رغم الفروقات الجلية بين هذين الاصطلاحين، وبهذا يُظهر الإعلام الرسمي، مثلا، الحشود التي تخرج عقب فوز منتخب كرة القدم، كمظهر من مظاهر المواطنة، بينما المواطنة قبل أن تكون انتماء فهي سلوك، أي أن المواطنة يجب أن نلمسها في حياتنا اليومية، نُصادفها في اجتماعنا البشري، وفي معاملاتنا البيْنية، وفي حرصنا على نظافة بيئتنا، وفي غيرتنا على ممتلكاتنا العامة وعدم تكسير الحافلة عند انهزام منتخبنا، وفي تفانينا في العمل، وفي التضحية بالغالي والنفيس للدفاع عن أرض الوطن؛ بينما الوطنية هي مجرد شعور بالانتماء إلى الوطن، وهذا الشعور لا يصحو، عادة، إلا لحظة الأفراح (فوز رياضي، نجاح فنان،…) ولكنه يكون غائبا لحظة الأحزان، وقد ينقلب إلى العكس (تخريب الممتلكات في حالة هزيمة، الامتناع عن التضحية في حالة الكوارث…).

لقد غابت عن مجتمعاتنا، نتيجة لتعاقب قرون الاستبداد، فكرة المشاركة الإيجابية، كما تغلغلت الروح الاتكالية المنسحبة، حتى أصبح خيارَا اللاّقرار واللاّموقف هما السائدان في بيئتنا واجتماعنا؛ فبدون مقولة «أنا معني، أنا مشارك، إذن أنا مسؤول» لا يمكن للمواطنة أن تتحقق، وبالتالي لا يمكن للواقع أن يتغيّر، وإن تغير فنحو الأسوأ.

وفي ظل هذا الفهم وهذه الممارسة، يستمر تعلق المواطن، غير المشارك، بالدولة من أجل إنصافه، دون التمييز بين الدولة بمفهومها القانوني المتمثل في ذلك الكيان المؤسس على عناصره الأربعة: الشعب والإقليم والسلطة والسيادة. وبهذا التحديد، نكون أمام دولة عِبارة عن جماعة من الأفراد تقطُن، على وجه الدوام والاستقرار، إقليما محددا وتخضع، في تنظيم شؤونها، لسلطة سياسية مستقلة عمّن يمارسها، وهو ما يميّزها عن السلطة أو النظام السياسي الذي هو أحد عناصرها فقط؛ فالدولة مؤسسة سياسية يرتبط بها المواطنون من خلال تنظيمات متطورة؛ بينما السلطة هي مجرد موظّف لدى الشعب في الأنظمة الديمقراطية، وهي أب لـ«الرعايا» في الدولة المستبدة.

نقصد بهذا التمهيد تبيان أن المواطن في الدول الاستبدادية لا يمارس مواطنيته، ولا يعيها على حقيقتها. ويتجلى عدم الوعي هذا، في العديد من الممارسات والسلوكيات التي تسير في منحى انسحابي وانهزامي يستنجد بالصمت في انتظار أن تمُنّ عليه الدولة الأبوية ببعض العطايا والامتيازات الريعية. والحال أن هذه الدولة (نـُماهي هنا بين الدولة والنظام السياسي لمسايرة التصور العامي للدولة) هي عبر التاريخ قوة قمعٍ وإكراه، وجب على المواطن الحذر منها ومراقبتها والفصل بين مكوناتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهو ما يعبر عنه عادة بــ«الديمقراطية»، التي هي مجموعة من المبادئ والأسس والإجرائيات الرامية إلى بناء دولة مدنية ترتكز على دساتير حديثة، بما يضمن الحرية والمساواة والمواطنية.

ولكن هذه الديمقراطية لا يمكنها أن تتكفل بالرقي بالمجتمع في غياب المواطن نفسه، الحريص على حقوقه والمثابر من أجل النهوض بمسؤولياته؛ فالديمقراطية، كما شبهها «أنطوان نصري مسرّة»، عبارة عن عربة بعجلتين، واحدة للسلطة وأخرى للمواطنين. لا تسير هذه العجلة بانتظام إلا بالعجلتين معا. وعلى من ينتظر من السلطة السياسية، ولا نقول الدولة، أن تمنحه حقوقه وتحفظ كرامته، أن يدرك أن هذه السلطة لديها أجندة غير تلك التي ينتظرها المواطن، ولاسيما في الدولة التي لم تتذوق لذة الحكم الديمقراطي، حيث النظر إلى الدولة بشكل عام، ليس كمؤسسة عامة، وإنما كمؤسسة خاصة هي أقرب إلى الضيعة منها إلى كيان عام ينبني على المواطنة والمساواة.

وما على المواطن، إذا أراد تَجْسيد مواطنيته، إلا تجاوز سلبيته، وما على الأغلبية الصامتة إلا أن تغادر أغلال السلبية التي كبلت نفسها بها، وأن تتكتل ضمن هيئات المجتمع المدني الحقيقي (إذا لم تقتنع بما هو كائن وجب التفكير في تأسيس غيره)، لأنه قبل أن يكون للإنسان حق، عليه أن يكون لديه وعي به أولا، وأن يكون لديه تنظيم ثانيا. فبدون وعي بالحقوق وبدون تنظيمات مدنية تهدف إلى التعبير والتغيير السلميين لن يحدث التغيير المنشود؛ مع العلم بأن الانتظارية والسلبية تقتلان الجميع، وكما قال أفلاطون: «الثمن الذي يدفعه الطيبون، مقابل لامبالاتهم بالشأن العام، هو أن يحكمهم الأشرا».

فالوطن يحتاج إلى جميع مواطنيه لكي يتقدم ويرتقي. وعندما نتكلم عن حاجة الوطن إلى أبنائه، لا نقصد تلك الحاجة التي يتحدث عنها الإعلام الرسمي، وإنما هي حاجة الجسم إلى القلب، حاجة الوطن إلى مواطن يَحرِص عليه ويغار إذا انتُهِكت سيادته، وينتفض إذا استبد به حاكم أو طبقة أو طائفة. وهذه الأعباء لا يمكن أن ينهض بها إنسان فاقد للحرية والقدرة على اتخاذ القرار أو منعدم المسؤولية، وإنما ينهض بها إنسان مواطن لديه القدرة والإرادة والإلمام بالحاضر بدرجة إلمامه بالماضي. هذا المواطن يجب أن يتميّز أيضا بروح المسؤولية. مسؤولية عن الحاضر والحرص على بناء مستقبل الأجيال التي لم تولد بعد. إن الوطن يشبه عمارة سكنية يقطنها العشرات من السكان، فإذا قـَصَر كلُّ ساكن اهتمامَه على داخل بيته وصرف نظره عما هو مشترك في العمارة، من سلالم وكهرباء ومصعد، فإنه سيصحو يوما دون أن يجد سلما أو مصعدا يوصله إلى مسكنه، فإذا لم يحرص الجميع على صيانة العمارة فإنها ستهوي في أقرب وقت، حتى وإن حاول البعض تصليح ما أفسده سكوت الأغلبية.

وعندما نتحدث عن لذة السلطة وحلواتها لمن هو على كرسيها، فإننا لا نسعى بذلك إلى اجترار ما هو معروف أو توكيد ما هو مؤكد، وإنما إلى التذكير بأن عذوبة السلطة تدفع إلى التسلط، والتسلط ينحو صوب الاستبداد، والاستبداد يُفقد الإنسان شخصيته ويماهي بينه وبين القطعان، ومن ثم يضْحي رعية يحتاج إلى من يرعاه، فكما يقول «بول فاليري»: «كل سلطة تميل إلى التسلط، لذلك فهي تتطلب مواطنين واعين، مشاركين، يتعاطون دائما الشأن العام. ويصبح أي موضوع ميؤوسا منه بشكل مطلق في حالة واحدة:عندما تستقيل الإرادة» (أنطوان مسرة: المواطنية والسلطة والعدالة). كما يجب الحذر من السياسة السياسوية التي هي فن إلهاء الناس عن الاهتمام بأمورهم في جانبها العام، بعدما عُرّفت السياسة، في مفهومها النبيل، باعتبارها «فن الممكن». وعندما يقلع المواطن عن تعاطي الشأن العام وينسحب من الحياة العامة، فإن الدكتاتورية -كما عبر عن ذلك توكفيل- تصبح قاب قوسين أو أدنى بالنسبة إلى الدولة الديمقراطية، وأما بالنسبة إلى الدولة الخاضعة للحكم الاستبدادي فإن النتيجة -بسبب الابتعاد عن الشأن العام- هي عقود أخرى، إن لم نقل قرونا، من الدكتاتورية والتسلط والتحكم.

لا بد، إذن، من وضع كل فرد أمام مسؤولياته، فالإصلاح مرهون بمساهمة كل مواطن في بناء لبناته؛ فعندما يضعف المجتمع السياسي أو يتهاون أو يختبئ وراء صناديق الانتخاب ويتمسك بالشرعية التمثيلية، لا بد للمجتمع المدني الحر والمواطن من أن ينهض بدوره المتجلي في وضع قطار الحياة على الطريق القويم.