وجهة نظر

ما السر في تماسك حزب العدالة والتنمية وعدم انقسامه؟

يُثار، منذ مدة، حديث عن احتمال انفكاك عرى حزب العدالة والتنمية، وانشطاره إلى تيارات متفرقة، وتوجهات متضادة؛ وذلك منذ بدأت حُمَّى المشاورات الحكومية التي ترأسها السيد سعد الدين العثماني، تلقي بظلالها الكزة الجاحدة، على النقاش الداخلي للحزب، الذي تحول إلى جدل غير مسبوق، لم يستطع حكماء الحزب أن يكتموا تداعياته، ويَحُدُّوا من سخونته، حتى حولوا غسيل حزبهم الداخلي إلى فضاء الرأي العام الوطني عبر منابر التواصل الاجتماعي، وصفحات الجرائد الإليكترونية، وازدادت حدة هذا النقاش المُزلزل بعد ظهور نتائج المشاورات، وتَبَيُّن التشكيلة النهائية للحكومة. حيث سقط في أيدي الكثير من مناضلي الحزب الذين كانوا يمنون أنفسهم بولاية حكومية ثانية، تحث قيادة “الزعيم” بنكيران؛ أكثر انسجاما، وأقوى برنامجا. لكنهم صُدموا بحكومة هجينة، وتشكيلة مُرَقَّعة لا تحمل أي سمة من سمات الانسجام، ولا أي ملمح من ملامح القوة والنجاح. فزاد احتدام النقاش بين أعضاء الحزب الحاكم، ووصلت حدته إلى درجات تُنذِر بانتهاء عمر الحزب الإسلامي، وتداعي بنيانه، وتلاشي عُراهُ.

ومع هذا الصراع الظاهر، والتراشق الذي لم يعد يَخفَى على متتبع؛ انبرى صحافيون، ومحللون سياسيون، ومتتبعون مهتمون، بل وقراء عاديون، يتكهنون بقرب انفراط عقد الحزب الإسلامي، ونهاية مرحلته. بل منهم من ذهب بعيدا في البحث عن مساراتٍ حزبية مماثلة تعرضت لهكذا صراعات داخلية وانتهت إلى بوار، وانمحاء. وهو الأمر- حَسَبَهُم – الذي لن يشذ عنه الحزب الإسلامي، وسيصير على مَهِيعِهِ، مادامت ذات التداعيات، ونفس المؤشرات التي طفحت على سطح هذا المخاض الصِّراعي الداخلي، هي التي عرفتها هذه التعبيرات الحزبية. ومثلوا لذلك بحزب الاتحاد الاشتراكي الذي تحول من القوة السياسية الأولى، إلى بقايا حزبٍ، بعد ان تشظَّى إلى مُزَقٍ، ونُتَفٍ، لا يجمع بينها جامِع، ولا يوحدها موقف ولا قناعة.

غير أن المتتبع للتداعيات الآنية لهذه الهزة الداخلية التي عرفها حزب العدالة والتنمية، والتي لم تُخلِّف كبيرَ أثرٍ على التماسك الداخلي للحزب، مما يُكذب التهويل المبالغ فيه الذي ما فتئ الأغيار يروجون له، والخلاصات الأكثر تشاؤما التي ظلت الأقلام والتصريحات تروج لها؛ سيجعله يفكر أكثر في حقيقة السِّرِّ الثاوي خلف هذه الاستمرارية التنظيمية، وهذا التلاحم التضامني الذي حافظ على هذه اللحمة الحزبية التي تعرضت لكل هذه الهزات المزلزلة، ولازالت تقاوم دون أن تظهر لها آثار سلبية على ساحة المدافعات الداخلية. فما رأينا ولا سمعنا، حسب علمنا، استقالات، ولا تيارات، ولا انشقاقات، ولا “تِرحالات”،…مما اعتدنا أن نسمع ونشاهد نظيره عند غالبية الأحزاب التي تعرف صراعات داخلية بما هو دون ما سمعناه عن هذا الحزب.

فما السر، يا ترى، في تماسك حزب العدالة والتنمية، وعدم انقسامه؟

إن الأحزاب العضوية التي تتميز بالوضوح المذهبي والأيديولوجي، والتي تؤسس التعالقات بين أعضائها على تعاقدات عقدية وأيديولوجية، تجعل الرابط العضوي بين أفرادها يتجاوز المصالح الذاتية أو حتى الجماعية الضيقة، ويترفع عن كل الامتيازات المحرمة، المحصورة في الزمان والمكان، وعن كل السباقات المصلحية، المتلهفة نحو المناصب والكراسي والقيادات… إن هذه التعابير الحزبية والتنظيمية التي تُكَوِّن الفرد/العضو على حب المعنى والترفع عن قضايا الطين والماء، وتجعل من الكراسي، والمناصب، والمسؤوليات، مجرد وسائل لنشر الفكرة في مجالات أوسع، كما تجعل من عمارة الأرض، وحكم الناس، وتدبير شؤونهم، خدمة لغاية أفضل، ونهاية أسعد.. لا يمكن أن تفقد تماسكها التنظيمي بسهولة، خصوصا إذا كان “الصراع” الداخلي يرتكز على أقضية ومسائل دون الغايات السامية التي مثلت قاعدة الانتماء، وأُسَّ التعاقد والولاء.

إن الذي يحمي حزب العدالة والتنمية وما شاكله من الأحزاب ذات الوضوح الإيديولوجي، يمينية كانت أو يسارية، من التشظي والانقسام، هو هذا التعاقد القيمي والعقدي الذي يلحم العلاقة بين أعضائه، ويشكل صمام الاستمرار، والانسجام، مهما اختلفت الآراء، وتضَادَّت المواقف، واشتدت المواجهات. لأن الأصل في هذه التعالقات الفردية، والجماعية، مُؤسَّس على ميثاقٍ لَدُنِيٍّ، وبيعة عَبْدِيَّة، تشكل، بالنسبة للتيارات الإسلامية، مناط الفلاح، والنجاة، في الدنيا والآخرة.

فحزب العدالة والتنمية هو امتداد لحركة اسلامية ظلت تؤطر أفرادها، وتكونهم على عقيدة اليوم الآخر، وتجعل من الدنيا، وكراسيها، ومناصبها، مجرد وسائل للإصلاح، لا غايات تستحق الخصومات، والصراعات، وإنقاض العهود، وقلب الطاولات. وإنْ وَقَعَ ذلك فسيظل في حدود الغيرة المشتركة على استمرار نشر الفكرة، والدعوة إلى الخير، والإصلاح، من مواقع المسؤولية.

فمقارنة حزب العدالة والتنمية، الذي هذه إحدى ملامح بنائه البشري الداخلي، بحزب الاتحاد الاشتراكي قياس مع الفارق. فهذا الأخير لم يستطع أن يجتاز اختبار السلطة بنجاح بعد أن فرط في مشروعه الأيديولوجي الأممي، وارتمى أعضاؤه على الكراسي حُفاةً عُراةً من أي قناعة أيديولوجية، أو التزام عضوي بالمبادئ الاشتراكية التي جعلت من هذا الحزب، ذاتَ تاريخٍ، القوة السياسية الأولى في المغرب، والملاذ الأسمى لكل التعبيرات اليسارية المتلهفة للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. فلما فرط الحزب في هذا المخزون الأيديولوجي تحول إلى هيكل بلا روح، وتحول أعضاؤه إلى نُشَّادِ الكراسي، والمناصب، وسقط بعضهم في جرائم المال، وفضائح الأخلاق، وتحول الحزب إلى كيان بلا طعم ولا لون ولا رائحة.

فمقارنة حزب العدالة والتنمية بحزب الاتحاد الاشتراكي، مع محاولة إسقاط واقع انسلخ فيه الحزب الاشتراكي عن عقيدته، وتحول إلى حزب مُدَجَّن، وبلا روح؛ مقارنة مُتَعَسِّفة، وغير ذات مغزى. فحزب العدالة والتنمية لازال يمثل، بوضوحه الأيديولوجي، العصبة المستعصية عن أي محاولة للتقسيم. وإن كل ما نَضَحَ على السطح من نقاش شديد، واختلافات عميقة، وقلق داخلي، لم يَبْرَحْ أمورا دون القضايا المصيرية التي تجمع الأعضاء، وتوحد صفوفهم، وتربط بين قلوبهم، و يتوقف عليها المصير الحقيقي لكل عضو على حدة.
فحينما تسمع قياداتٍ حزبيةً، إسلامية أو علمانية، تضع المنصب والكرسي، مناط الصراع وانفكاك العرى، في مكانه الذي يستحقه، وتعده مجرد وسيلة لغاية تتعدى الطين والماء إلى الهم الأكبر، والشغل الأعظم، والذي يتوقف عليه حسن العمل، والعمل الحسن؛ تعلم إلى أي حد سيستعصي التمزق والتشظي وذهاب الريح على حزب، هؤلاء قادته ومناضلوه ..!!
دمتم على وطن..!!