وجهة نظر

بنحمزة يكتب عن حراك الريف: من المسؤول عن ما يجري؟

من المسؤول عن ما يجري؟، البعض يطرح هذا السؤال وهو يحمل المسؤولية للأحزاب السياسية، وهو قد لا يقصد بالتأكيد المسؤولية المباشرة، ولكن المسؤولية غير المباشرة..لكن ماهي حدود الحقيقة في ذلك؟ علما أن كثيرين ممن يطرحون هذا السؤال، يعلمون يقينا، أن المسؤولية في موقع آخر، وهم يحاسبون الأحزاب بدعوى أنها لا تملك جرأة الخروج من الخطاب المبني للمجهول، ولا تمتلك الجرأة لتسمية الأشياء بمسمياتها، لكن كثيرين ممن يضعون السؤال، هم أيضا لا يفعلون ذلك رغم أنهم يعلمون يقينا، ماذا تقصدالأحزاب أو بعضها حتى نكون منصفين، بما يدخل في خانة “المبني للمجهول”…

هنا يجب الإقرار بنوع من النقد الذاتي ولو على المستوى الفردي والشخصي، أن الأحزاب التي راهن عليها الشعب المغربي بعد الاستقلال، أساءت التقدير فيما يتعلق بجدية الإختيار الديمقراطي ببلادنا، صحيح أنه يمكن اليوم قول ذلك بسهولة، لكن علينا أن نعترف أن السنوات التي تلت الاستقلال، كانت صعبة ودقيقة في سياق دولي كانت تظهر فيه أنظمة و تسقط أخرى بين ليلة وضحاها، و في بيئة دولية تعرف إنقساما حادا بين الغرب و الشرق، و في ظل إنقسام داخلي بين القوى السياسية بين من يسعى لإصلاح النظام السياسي و بين من يسعى لإسقاطه و إقامة نظام سياسي جديد، و كانت الأنظمة الجديدة في تلك المرحلة لا تعني سوى الدوران في فلك الاتحاد السوفياتي، على إعتبار أن النظام هنا كان يدور في فلك الغرب، و في ظل هذا الاختلاف العميق في الرؤية داخل جزء من النخبة السياسية المعارضة، كرس النظام السياسي وجوده، ووظف كل مقدرات البلاد لتثبيت ذلك الوجود، و عطل المؤسسات الدستورية على علاتها لسنوات بين تعطيل مباشر في حالة الاستثناء، وتعطيل غير مباشر من خلال ديمقراطية الواجهة والمس المنتظم بنزاهة الانتخابات، كما خلق لنفسه طبقة سياسية و إقتصادية و بيروقراطية تابعة، عموما كان المخزن يراكم، بينما باقي القوى توجد في حالة صراع بيني، بينها من جهة – الجامعة المغربية شاهدة على فصول من ذلك الصراع- وبينها متفرقة و منقسمة و ماكينة المخزن، و في ظل هذه المواجهة، فظل جزء من النخبة و الأطر و الطبقة المتوسطة بمنطق الربح و الخسارة، خدمة المشروع المخزني، و عدم المغامرة في تعزيز جبهة المعارضة الإصلاحية، ومع التمدد الزمني للصراع مع المخزن دون نتائج، فإن جزءا من نخب المعارضة الإصلاحية و حتى الثورية، تم إختراقها و إدماجها بشكل تدريجي وهادئ و على مدى سنوات في هامش الهامش السلطة، وتدريجيا أخذ الخطاب التبريري يهيمن على التحليل داخل هذه الأحزاب و في النهاية قبلت أن تناضل و تتصارع على هامش هامش السلطة…

النتيجة أنها أصبحت آلية مثالية لتسويق ديمقراطية الواجهة، بل هي أيضا أصبحت صالحة للواجهة، وحتى على هذا المستوى كان للمخزن رأي آخر، فتمت إعادة تنشيط ممارسات من الماضي بخلق أحزاب والنفخ فيها و خلق زعامات من لا شيء بلا عمق و لا إمتداد و لا مشروع سياسي أو إجتماعي، و صنع خرائط سياسية و إنتخابية، لهذا لم تعد الأحزاب صالحة لتكون حتى “بارشوك” فما بالك أن تكون وسيط كما تقتضي القواعد الديمقراطية، لماذا؟ لأنه تم إفقادها ما تبقى من مصداقيتها و تم تكرار إهانتها حتى تعودت على ذلك، و هي في كل مرة تتلقى صفعة على الخد الأيمن، تدير الأيسر لتلقي مزيد من الصفعات و الإهانات…، دون قدرة على مراجعة إختيارتها – إذا كانت لها إختيارات أصلا- و لا قدرة على قراءة خطورة التطورات التي تعرفها بلادنا، و التي دخلت منذ 2011 منطقة الزلازل السياسية و الاجتماعية، و أن الزلزال العظيم قادم، سواء اليوم أو بعد سنوات، لكن ماذا نفعل حتى نحد من خسائره المدمرة؟؟ أو نجعله بلا أثر عبر بناء ديمقراطي صلب مضاد للزلازل السياسية و الاجتماعية…

الذين يهربون من واقع الريف الذي يغلي اليوم، و من التجاوزات و الأخطاء التي عرفها و يعرفها تدبير هذا المجال الجغرافي و الإنساني الحساس على مدى سنوات، و من إستمرار لنهج التأزيم، عبر تهم ظهرت فجأة بعد خطبة الجمعة الشهيرة…و التسامح مع خطاب الكراهية و العنصرية و التحريض و الإرهاب، ومحاولة إلصاق ذلك بالأحزاب.. فإن ذلك لا يفيد في شيء الأزمة المفتوحة في الحسيمة و الجماعات المجاورة لها، و لا في ردود الفعل بعدد من المدن المغربية…و التي قد تتحول من ردود فعل تضامنية إلى مطلبية.

إن الأحزاب بكثرة الإهانة و التحكم و التقسيم الذي تعرضت و تتعرض له، لم تعد صالحة حتى لتقديمها قربانا لما يجري، فهي هزيلة بشكل يصدق فيها القول الدارج المغربي “الضرب في الميت حرام”…هذا لا يعني أن بلادنا ليست بحاجة إلى أحزاب، بل على العكس من ذلك، وقد يكون حراك الريف آخر إنذار من مخاطر غيابها، فالدولة الديمقراطية هي دولة الأحزاب، و بدون أحزاب لا يمكن الحديث عن الديمقراطية، لكن الأحزاب بحاجة حقيقية لممارسة النقد الذاتي وذلك لتعزيز قدرتها على الممانعة و المواجهة مع كل المشاريع النكوصية، وهذا الأمر حيوي و مصيري بالنسبة لبلادنا.

الأزمة اليوم بحاجة إلى حلول و ليس إلى تصعيد أو بحث عن مشجب، و مخطئ من يعتقد أن توظيف الأمن والقضاء من شأنهما إضعاف دينامية الحراك، بل على العكس من ذلك، كثير من المواقف و التصريحات و الممارسات لا تعمل سوى على قذف بذور إحتقان جديد في المستقبل، و هنا لابد من التذكير -على أساس أن الذكرى تنفع المؤمنين-، أن عبارة مثل “الأوباش”…ظلت في القلوب و الأفئدة كل هذه السنين، هذه العبارة التي يتذكرها الجميع حتى من لم يعش سنوات منتصف الثمانيات و أحداث 1984، ويمكن قول الشيء ذاته على ممارسات عرفتها المنطقة سنتي 1958 و 1959، و هو ما ظلت تحكيه العجائز و الشيوخ لأجيال مختلفة بشكل يختلط فيه الواقعي بالأسطوري، فسوء تدبير الملف اليوم لا ينتج عنه سوى تعبئة مضاعفة لأجيال قادمة، قد لا تميز غدا بين ما حصل فعلا – وهو مؤلم- و بين ما سيتم نقله ممزوجا باعتبارات ذاتية يطغى عليها الشعور القاسي بالحكرة و الظلم.

المشكل اليوم هو مشكل ثقة و مصداقية، و بناء الثقة أمر صعب، الريف له خصوصية قبلنا ذلك أم لا، و الحديث عن جهود العهد الجديد للمصالحة مع الريف، أمر يحتاج إلى ملاحظة وتذكير، أن العهد الذي يسمى بالجديد قريبا سيقفل عشرين سنة، و هي فترة كافية لتظهر نتائج ملموسة على الأرض، بعد أن تم إستنزاف الجانب المعنوي..اليوم يجب أن تكون محاسبة حقيقية لكل المسؤولين عن تأخر تنفيذ المشاريع التي قدمت أمام الملك، ليس في الحسيمة فقط بل في كثير من مناطق البلاد، لأن الناس لا يمكن أن ينتظروا، بينما تستمر نفس الوجوه المسؤولة عن معاناتهم في مواقعها دون محاسبة…

بالطبع لا يتعلق الأمر بالريف فقط، بل المغرب برمته يعيش خصاصا مهولا في الاقتصاد كما في الديمقراطية، و أن سياسة الواجهة إستنفذت مفعولها، أو للدقة، أصبح لها مفعول عكسي، إذ كيف يمكن إقناع مواطن بجدوى البذخ الحاصل في تهيئة المدن الذي أصبح مصدر غنى باذخ لشركات و أسماء معينة، بينما لازال الناس يموتون على أبواب المستشفيات؟ كيف يمكن إقناع الناس بذلك بينما التعليم يحتضر و المدارس العمومية أضحت أقرب إلى غيتوهات لأبناء الفقراء، حتى أصبح الناس يشعرون كل صباح وهم يتجهون إلى المدرسة العمومية و كأنهم يضعون أبنائهم في “الخيرية”؟ كيف يمكن إقناع الناس بذلك البذخ و كثيرون يسكنون مساكن غير لائقة؟..هل من الضروري التذكير بأن بلادنا بحاجة للإستثمار في الإنسان وليس الإسمنت…
هناك إزدواجية غير مقبولة أصبحت مستفزة إلى أبعد الحدود، ناهيك عن الفوارق الهائلة بين الجهات و الأقاليم والمدن، هذا دون الحديث عن الفساد و أشكاله الجديدة وهو حديث ذو شجون أو قل ذو سجون…

مسألة طبيعة النظام السياسي ليست مطروحة للنقاش أو في جدول المطالب، و إستمرار البعض في تخويف الناس بهذا الأمر أصبح مفضوحا و لا يفيد في شيء، إنما يشكل فقط هروبا إلى الأمام و بشكل مؤسف، المغاربة مؤمنين إلى أبعد الحدود بالنظام الملكي و لا يمكن أن يكون هذا الموضوع موضوع “بولميك” من أي نوع، لأنه ليس هو الموضوع، بل الموضوع هو الديمقراطية و دولة المواطنة و العدالة الإجتماعية