وجهة نظر

عن سوء تقدير الدولة للاحتجاجات الاجتماعية في المغرب

بدأ الحراك ريفيا، لكنه سرعان ما اتسع مداه رويدا رويدا إلى مدن عدة بالمملكة، لتسقط مسلمة الاستثناء المغربي، كنموذج للاستقرار، ويزداد التخوف من دخول البلاد في دوامة من القلاقل ،قد تكلفه جملة من الخسائر الفادحة على جميع المستويات.
قد نكون أكثر وثوقية في قناعاتنا، وانسقنا في تبني الطرح الرسمي، الذي أوهمنا بأن الاستقرار هو قدر بلادنا، بل هو حقيقة مستمرة لأزمنة طويلة، لكننا أغفلنا قراءة التاريخ، الذي يخبرنا بسنة حركية المجتمعات، وحتمية وقوع تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية تحت قوة إكراه الواقع.

ربما كانت الاستعانة بفكر ابن خلدون، أكثر إلحاحا، بالنظر لقدرته العميقة على فهم عقليات المجتمعات العربية، ورصد العوامل المتحكمة في تحولاتها، وتركيزه على الميكانزمات المسئولة على تقدم وانهيار الأمم.

الفساد مؤذن بخراب العمران، هكذا لخص ابن خلدون إحدى نظرياته الفذة، التي اعتبر فيها بأن طغيان الفساد والإفساد في هياكل الدولة والحكم، يكون مجلبة للثورات والاحتجاجات، وقد زاد في جرعة تفسيره، وأشار إلى الداء الذي ينخر جسد الدول، بمجرد دخوله، وهو انشغال الحكام بالتجارة، وما قد يسبب ذلك، من ضرب شروط المنافسة الاقتصادية الشريفة، وتضييع أموال طائلة على خزائن الدولة، من خلال تهرب النخب الحاكمة المهيمنة على الاقتصاد من تسديد الضرائب، وهي حالة من التنافي مازال مسكوت عنها في بلادنا، حيث أن أغلب النخب السياسية، تجمع بين السياسة والتجارة، حتى أن دخول المليارديرات للبرلمان والحكومة أصبح رياضة وطنية.
ربما مازالت جوانب مظلمة في تفسير ما يقع من سلسلة الاحتجاجات التي تعرفها المملكة منذ شهور خصوصا في منطقة الريف، وتحاول كل جهة رمي المسؤولية على الجهة الأخرى، هناك من يعتبرها نتيجة لمطالب اجتماعية مشروعة، وهناك من يعتبرها تصفية لحسابات سياسية، وبين هؤلاء وأولئك قد تضيع الحقيقة.

المتتبعون للشأن السياسي للمغرب، يحملون الدولة مسألة تقصيرها في تدبير أزمة الريف، وما تلاها من تداعيات، من خلال اصرارها على تبني مقاربة أمنية زائدة، فضلا عن تدخل محاورين حكوميين يفتقدون للمشروعية الشعبية للتفاوض مع المحتجين، بالنظر إلى ظروف تشكيل الحكومة وما صاحبها من جدال كبير.

مع طول أمد الاحتجاجات، بدأت الدولة تضيق ذرعا، فاختارت تبنى خيار التخوين ومنطق المؤامرة، وهو ما استدعى الحفر في اتجاه طريق رئيس الحكومة السابق المقال عبد الاله بنكيران، وتحميله جانب من المسؤولية فيما يقع، شيء يجب الوقوف عنده بكل تأمل وروية، وقد يورط رجالات الدولة الماسكين بزمام الأمور، حيث كيف يمكن دفع عبد الاله بنكيران إلى الطريق المسدود، ثم إقالته، وبعد ذلك اتهامه بمسؤوليته وحزبه في الأزمة الصعبة التي يجتازها المغرب، هل هذا سوق تقدير وفشل من رجالات الدولة الذين يقدمون المشورة للقصر، في إقصائهم لشخصية سياسية مازال تأثيرها على مسرح الأحداث السياسية ولم تنتهي صلاحيتها بعد.

زيارة المستشار الملكي فؤاد علي الهمة لبيت عبد الاله بنكيران مؤخرا، تحمل في أبعادها دلالات عميقة، فهي من جهة تفيد بأن الدولة تنازلت عن مضض وقصدت بيته، حتى من دون أن يطلب منها ذلك، وقد تكون في حاجة إليه مرة أخرى لتطلب منه يد العون في وقف الاحتجاجات المستمرة بالمملكة، كما كان الأمر كذلك كورقة رابحة في سنة 2011 إبان احتجاجات حركة 20 فبراير، خاصة وأن فعاليات المجتمع المغربي بدأت تطالب بتدخل الملك في هذه الأزمة، مما يستدعي تهيء أرضية لتدخله، من خلال توفير ضمانات نجاح تدخله، ومساهمة عبد الاله بنكيران قد تكون إحدى تلك الضمانات، لكن الرجل بحنكته السياسية لن يقبل بسهولة، إلا وفق شروط، قد تكون من بينها مسألة إعادة الاعتبار لكرامته، عندما تمت إقالته والتخلي عنه من رئاسة الحكومة بتلك الطريقة.
من جهة أخرى، محاولة لجوء الدولة لشخصية عبد الاله بنكيران، هو اعتراف ضمني بإفلاس وزن النخب السياسية الحالية خصوصا المشكلة للحكومة، التي أصبحت شعبيتها في الحضيض، وموضوع سخرية في مواقع التواصل الاجتماعي، حتى أن معظمهم يتجنبون الخروج للعلن في التجمعات الشعبية مخافة إحراجهم بالانتقادات.
قد تكون الحكومة الحالية في صيغتها الثانية بقيادة العدالة والتنمية، وطريقة تشكيلها، التي أبانت عن تحكم الدولة في اللعبة السياسية، وفي صناعة الحكومات على المقاس، زادت من تأزيم الوضع، ورسمت أفقا مظلما لمكونات الشعب المغربي، الذي سيجد نفسه تحت رقبة استمرار ضرب مكتسباته السابقة، ورفع الدعم عن المواد الأساسية وتحرير الأسعار وزيادتها، واستفحال البطالة، فضلا عن التداعيات السلبية لبطئ تنفيذ الجهوية الموسعة، التي أبانت مؤشرات بدايتها عن صعوبات كبيرة، كرست التفاوت بين الجهات، وتراجع خطوات الممارسة الديمقراطية.

في ظل هذه الظروف، يمكن للدولة أن تلجأ إلى التضحية برجالاتها، كوسيلة لإطفاء الغضب، وإلصاق ذريعة الفشل في تدبير الملف للولاة والعمال ورجال السلطة، أو حتى لوزير الداخلية، في حين أن منطق الأشياء يستدعي توجيه سهام المسؤولية للحكومة، ومساءلتها عن دورها في حل هذه القضية، بل حتى تغيير رئيس الحكومة، أو القيام بتعديل في حكومته، لكن يبقى هذا الأمر مستبعد، لأن استبعاد رئيس الحكومة الحالي، واستقدام آخر، فد يسقط الدولة في نفس الوضع السابق مع عبد الاله بنكيران، التي كانت شعبيته وشخصيته تقلق السلطة.

يمكن أن يفهم من سلسلة الاعتقالات التي تقوم بها الدولة في صفوف ناشطي حراك الريف، أنه تكتيك وإستراتيجية لربح ورقة تفاوضية مع الحراك، للمقايضة بين وقف الاحتجاجات في مقابل إطلاق صراح المعتقلين، لكون ورقة تدخل الأحزاب وأعضاء الحكومة قد فشلت وجاءت بنتائج عكسية، لكن استمرار هذه الموجة من الاعتقالات وطول أمدها، قد تكون له مخاطر، في لجوء بعض ناشطي الحراك إلى وسيلة طلب اللجوء السياسي بالخارج، وبالتالي تفاقم الوضع، وتشكل معارضة في الخارج، قد تكون تداعياتها جد كارثية.

هذا ويبقى من حسن حظ المغرب إلى حدود الساعة، عدم تدخل المجتمع الدولي خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي للضغط على المغرب، بالنظر إلى موقع المملكة الاستراتيجي، لكون القارة العجوز في غنى عن أية قلاقل يمكن أن تصدر ملايين من المهاجرين و اللاجئين إلى ترابها.

من جهة أخرى، هناك تخوف كبير من استغلال حراك الريف، لأَكْرَدة القضية، وإعطائها بعدا إقليميا أكثر اتساعا، يشبه إلى حد كبير قضية الأكراد في منطقة الشام والعراق وتركيا، حيث أن هناك بوادر تضامن منطقة القبايل الجزائرية مع حرك الريف، مما يستدعي النظر في خلفيات صراع شعوب المنطقة مع المسألة الأمازيغية، باعتباره ملفا شائكا ومؤجلا، يمكن أن ينفجر في أية لحظة.

يبدو أن هناك إجماع على أن الاحتجاجات التي يعرفها المغرب في الآونة الأخيرة، كانت سلمية، وعبرت عن مستوى نضج المجتمع المغربي، وهي رسالة يجب أن تفهمها الدولة المغربية، وتتعامل معها بحس إيجابي، من خلال دعم التجربة الديمقراطية، وإفساح المجال للمواطن لإسماع صوته، وتدبير شؤونه بنفسه، ورفع الوصاية عن مستقبله وثروات أبنائه.