وجهة نظر

النخب وتدبير الأزمات.. تخطيط من خلف الأبواب الموصدة

يستمد مصطلح النخبة مفهومه من البناء الهرمي السائد في المجتمعات، ويتخذ هذا المفهوم أشكالا متعددة في التعريف والأبعاد. ويعود هذا التعدد لأسباب إيديولوجية وأخرى ذات خلفيات اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو عائلية… لذلك، فإن مفهوم النخبة عند اليساري ليس هو ذاته عند الليبرالي، وقطعا لن يكون هو نفسه عند الإسلامي. كما أن النخبة لدى رجال الاقتصاد والأعمال والطبقات الثرية يختلف معناها عند السياسي والاجتماعي والإعلامي والمثقف. وغالبا ما يفضي هذا البناء الطبقي إلى تشكل تواطؤ ضمني وغير معلن؛ يكرس هذا النمط بالقوة أو بالدهاء.

إن الحديث عن النخب، تبعا لذلك، هو حديث عن أنماط من التفكير والممارسة؛ حديث عن انتماء طبقات من المجتمع إلى حقل فكري وإيديولوجي، وحديث عن آليات حراسة هذا الانتماء والدفاع عنه. لذلك لا تمل هذه النخب في تقديم نفسها للسواد الأعظم على أنها صاحبة رسالة، وتعلن دفاعها عن القيم والمقدسات، والنطق باسم الشرعية والمشروعية، والحفاظ على الهوية والذاكرة الوطنية واللغة والثقافة، كما لا تتوانى في الجهر بزهدها عن أي سلطة أو مصلحة أو منفعة، وتدعي، بوصفها الجهة الواعية والمؤهلة، القبض على الحقيقة المطلقة، والإلمام الكلي بأسرار التغيير، وامتلاك مفاتيح النجاة والخلاص.

ومعنى كل هذا وذاك؛ إبقاء الناس في حالة جهل وتبعية وعجز، وإخضاعهم، في مختبرات المشاريع والبرامج، لتجريب المخططات الاستراتيجية والخماسية، والمخطط الأخضر، والخوصصة، وفتح الأوراش الكبرى، والجهوية الموسعة، والنهوض بالعالم القروي، وإصلاح أنظمة التقاعد، وإصلاح منظومة التربية والتكوين… كل هذا وذاك، ليس إلا ذرائع تحقق من خلالها هذه النخب مبررات الاستيلاء على مفاصل الدولة وتفاصيل المجتمع.

وفي ظل توالي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وضمن سياق عالمي وإقليمي متغير الأحداث والوقائع والمؤامرات والتحالفات، وبالتزامن مع إعلان فشل الإيديولوجيات المستوردة، وأمام ضعف الأحزاب والتنظيمات والجمعيات، ومع توالي أسباب تفشي البطالة والفقر والهشاشة والأمية والهدر المدرسي والهجرة السرية، ودوافع صناعة التطرف والتحريض والعنف، والتساهل مع الفساد والتهرب الضريبي والرشوة وتهريب الأموال، وتكريس التسلط والتحكم… في ظل هذا الكل؛ هل تستطيع نخبنا الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، وتحرير المجتمع من القمع والتسلط، وتثبيت مشروعية الصناديق والاختيار الديمقراطي إيمانا وممارسة، والاستماتة من أجل إعادة توزيع الثروة بالعدل.

إن نخبنا باتت تعيش غربة وعزلة داخل المجتمع، وأصبحت الهوة تتسع بينها وباقي المكونات، بل أعلنت فشل كل الوصفات في تدبير القضايا، وإفلاس خططها التليدة في تشريح الأوضاع وتقديم الحلول الملائمة؛ بعدما كانت وما زالت منشغلة في صناعة سطوة القول والفعل، وسلطة إنتاج السلع المادية والرمزية، وحظوة التحكم في المسارات والمصائر، وفي امتلاك العدة والعتاد لحراسة الأفكار وأدلجة الخطابات، وإتقان فن خلخلة القناعات وحلحلة الاعتقادات، والتفنن في قولبة الواقع وفق الميولات والأهواء.
واليوم، لم يعد أمام نخبنا إلا الاعتراف بالفشل وبأسلوب الترقيع و”البريكولاج”؛ بدل استخدام لغة الشكوى والصراخ والندب والاستنكار؛ في تحايل مفضوح للخروج من مأزق هذا الفشل في تدبير الأزمات، وليس أمامها كذلك إلا الخروج إلى العلن لإذابة التفاوت الطبقي؛ بدل التخطيط من وراء حجاب أو من خلف الأبواب الموصدة. إن المرحلة تستدعي إعادة صياغة مفهوم النخب، مفهوم قائم على التجديد والكفاءة والأمانة والوطنية؛ بالنظر إلى المتغيرات التي مست جغرافية المفاهيم والمعايير والقيم، وتغير موازن القوى وخريطة الصراعات والتحالفات. فلا يعقل أن تنظر النخب إلى محيطها بعيون الأمس، ولا يمكن أن تشتغل بلغة القرون الوسطى، وبمناهج منتهية الصلاحية.