منوعات

القباج يكتب: فقهاء المغرب والخيار الديمقراطي

إن مما يعرقل عملية الانتقال الديمقراطي في الدول الإسلامية؛ تفشي تيارات دينية ودعوية -مدعومة وموجهة سياسيا- تتبنى موقفا متطرفا من الديمقراطية؛ يتأسس على مقدمة تحصر الديمقراطية في مفهوم وحيد غير قابل للتفكيك أو التهذيب والملاءمة ..

مع أن عددا من الدراسات المقارنة أكدت وجود الكثير من مواطن الاتفاق بين “المنهجية الديمقراطية في الحكم” و”سنة الخلفاء الراشدين” التي تمثل المنهجية الإسلامية في الحكم؛ ومن تلك المواطن:
– كون الحكم حقا للناس يعطونه لمن يشاؤون (السيادة للشعب)
– كون حقوق المواطنين مكفولة على قدم المساواة بينهم وإن اختلفت دياناتهم وتفاوتت رتبهم الاجتماعية
– وجوب العدل في الحكم وأن الناس سواسية أمام القانون والقضاء
– ممارسة الرقابة على الحكام والمسؤولين (ربط المسؤولية بالمحاسبة)
– استقلالية السلطة القضائية والسلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية
– الشفافية في تدبير السلطة وتوزيع الثروة
– صيانة المال العام
– توخي معايير الكفاءة والأمانة في التعيينات وإسناد المهام .. الخ.

وغير ذلك من مواطن الاتفاق بين مَنْهَجَي الحكم؛ والتي يمكن جعلها منطلقات لإصلاح سياسي تتعاون عليه مختلف القوى الوطنية باختلاف (أيديولوجياتها ومرجعياتها) ..
ولو اتفقت إرادة أنظمة ونخب الدول الإسلامية على تبني المنهجية الإسلامية في الحكم؛ لوجدت في سنة الخلفاء الراشدين إطارا صالحا لتفعيل مبادئ وأسس الحكم الرشيد، وأرضية صالحة لتطوير وإحكام آلياته ..
غير أن واقعنا السياسي المعقد؛ يفرض التعامل مع المنهجية الديمقراطيّة والتزام آلياتها ..
وما دامت “الديمقراطية” تلتقي مع “سنة الخلفاء الراشدين” في كثير من المبادئ والقواعد؛ وما دامت قابلة للتكييف والملاءمة مع خصوصيات الشعوب والأمم؛ ومن أساسياتها: سيادة الأمة واختيارها دستور الحكم ونظامه الذي يتناسب مع تلك الخصوصيات؛ فلا مانع من اتخاذها إطارا للحكم ومنطلقا للإصلاح السياسي والمدافعة القيمية ..

ولا بديل للإسلاميين عن هذا الخيار؛ الذي يفرض نفسه بين خيارَيْن آخرين متطرفين لا يمكن القبول بهما:
1 التغيير وفرض تصور معين للإصلاح بالعنف
2 الاعتزال وترك الفاسدين والعلمانيين يستفردون بالمجال السياسي
وهذان الخياران المتطرفان يبتعدان بالدول الإسلامية عن مبادئ الحكم الرشيد أكثر وأكثر؛ ومهما كانت مفاسد الديمقراطية كما يراها كثيرون وكما ثبتت في كثير من التجارب؛ فإن مفاسد خيار العنف وخيار الاعتزال أكبر بكثير ..

من هنا كان الخيار الديمقراطي هو اختيار فقهائنا المجتهدين في المغرب؛ لما صارت الديمقراطية نازلة تفرض نفسها؛ حيث تبنوها منهجا للحكم ورأوا في عملية الانتقال الديمقراطي وسيلة نحو إصلاح سياسي يضمن سيادة الدول الإسلامية واستقلاليتها وحقوق مواطنيها على قدم المساواة ..
مع رفضهم للمفاهيم الديمقراطية العلمانية التي تلغي حق الله تعالى في التشريع في مجالات الشأن العام، والتي تعطي للسلطة الحاكمة الحق في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل سبحانه وتعالى ..
وهذا الموقف الشرعي النوازلي الذي بدأ يتبلور منذ نهاية القرن التاسع عشر؛ رجعت إليه كثير من الحركات الإسلامية المعاصرة؛ بعد تعميق البحث والنظر في هذا الموضوع الهام.

إن طريقة تعامل فقهاءنا مع نازلة الديمقراطية؛ هي المرجع الذي يمكن أن يكون معيارًا ومرشدا لمعرفة الحكم الشرعي لهذه النازلة؛ وليس المرجع طلبة العلم والدعاة الوعاظ والكتاب والباحثين الإسلاميين الذين لا تؤهلهم كفاءتهم العلمية والفكرية لتقرير الصواب في هذا الموضوع الدقيق والمعقد؛ والذي لا يصح ولا ينبغي الخوض فيه بمعرفة متواضعة وبحوث سطحية تتأسس على معلومات مختزلة تحصر مفهوم الديمقراطية في معنى: “الحكم للشعب”.
وحتى هذا التعريف له تفسير يوافق الشرع؛ وهو: أن الحكم حق للناس يمنحونه لمن يشاؤون.

وأن الأصل هو أن لا يحكم الناس إلا من يرضون في أغلبيتهم؛ وأن انتزاع السلطة بالقوة محظور شرعا، وأن التعامل معه ينبغي أن يكون في إطار المرحلية وفقه الإكراه والضرورة؛ ولا ينبغي أن يعتبر وضعا سليما نلتمس له ما يعزز شرعيته ويرسخ مشروعيته!
وليت شعري؛ كيف تعتبر بعض التيارات نفسها داعية إلى الإسلام؛ وهي تشرعن أبشع مظاهر الاستبداد والفساد باسم: “فقه التغلب”!
وفي المقابل تحارب الإسلاميين السياسيين الذين تبنوا الخيار الديمقراطي في إطار المرجعية الإسلامية؟!
إن احترام العلم والعقل يُلزِمُ الباحثَ بتجاوز هذا السلوك المتناقض المتحامل؛ والبحث عن موقف الفقهاء المؤهلين للنظر في مثل هذه النازلة؛ إذا أراد ذلك الباحث أن يشكل قناعة سليمة في موقف الفقه الإسلامي من نازلة الديمقراطية ..

وهو ما يجب على المتدينين الذين يتحرون الحكم الشرعي فيما يتخذونه من مواقف؛ وليحذروا من أحكام وفهوم فاقدي الأهلية الذين قد تصل أحكامهم إلى إطلاق القول بأن الديمقراطية كفر!
وإنني أعتقد بأن مقاومة الفوضى العلمية والفكرية التي تخرج من رحمها مثل تلك الأحكام؛ عنصر أساسي في واجب مقاومة الغلو والتطرف ..
ومن هنا فإن تصحيح الاختلالات التي تعتري منهجية المتدينين في معرفة أحكام مثل تلك النوازل الحساسة؛ هو رافد من روافد ذلك الواجب ..
في هذا الإطار جاءت دراستي في موضوع: “موقف فقهاء المغرب من الخيار الديمقراطي“؛ والتي أسعد بنشر مختصرها في هذه المقالة لتساعد الباحثين والمتدينين على الاطلاع على معلومات هامة وسط ركام من الأخطاء المنهجية والمعرفية ..

الحركة الدستورية ما قبل الاستقلال:
نستطيع أن نؤكد بأن الجذور التاريخية لعمل الفقهاء من أجل الديمقراطية ترجع إلى أواخر القرن 19 ومطلع القرن 20 مع فئة واعية دعت إلى تشكيل دستور للدولة؛ وقد رصد الزعيم علال الفاسي رحمه الله في حفرياته مذكرة رفعها صاحبها إلى السلطان مولاي عبد العزيز تتضمن المطالبة بإقامة نظام نيابي يتشكل من ممثلي الشعب ويستند إلى دستور لتنظيم الدولة بقانون أساسي في إطار ملكية دستورية ..
وإذا كان العلامة علال الفاسي قد استصعب تحديد صاحب المذكرة؛ فإنه جزم أنها مذكرة “في إطار ما تتطلبه الأنظمة الدينية”.

كما أكد بأن أفكار تلك المذكرة كانت حاضرة في الشروط التي اشترطها الفقهاء في البيعة الحفيظية، وفي مقترح مشروع الدستور لسنة 1908.
وقد جزم الحاج أحمد معنينو في مقدمة كتابه: “المجلس الوطني الاستشاري”؛ بأن “هذه الحركة الدستورية الواعية التي قادها فقهاء من أمثال الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني؛ تعرضت لعملية طمس بمؤامرات استعمارية ضد المغرب”.

الاستقلال والمجلس الوطني الاستشاري:
في السنوات الأولى من عهد الاستقلال الوطني؛ وتحديدا من سنة 1956 إلى 1959؛ عرف المغرب أول مجلس نيابي أسس بظهير شريف يوم 3 غشت 1956.
وقد عرف به عضوه الحاج أحمد معنينو في كتابه المطبوع سنة 1986 تحت عناوان: “المجلس الوطني الاستشاري ومعارضة حزب الشورى والاستقلال”.

وقد أورد في ص 18 خطاب الملك محمد الخامس في افتتاح المجلس يوم 12 نونبر 1956؛ ومما جاء فيه:
“وإن تأسيس هذا المجلس لحدث عظيم بالنسبة لبلادنا بل إنه من أهم الأحداث التي تمت في عهد الاستقلال، ونحن لا ندعي له أكثر من كونه خطوة أولى نحو الهدف المنشود، أما هذا الهدف الذي لن ندخر جهدا في العمل على إبلاغ شعبنا إليه فهو حياة نيابية بالمعنى الصحيح، تمكن الشعب من تدبير الشؤون العامة، في دائرة ملكية دستورية، تضمن المساواة والحرية والعدل للأمة أفرادا وجماعات، حتى يتم بذلك خلق ديموقراطية مغربية بناءة، تتفق مع ديننا الحنيف الذي جعل الناس سواسية كأسنان المشط، ومع القرآن الكريم الذي جعل الأمر شورى بين المؤمنين، وأمر نبيه فقال له: (وشاورهم في الأمر) وحثنا جميعا على التعاون في البناء حين قال: (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعانوا على الإثم والعدوان).

ومع تقاليدنا الوطنية التي لم تعرف من أنظمة الحكم غير إمامة الإسلام القائمة على العدل والمعاملة بالحسنى للجميع”[1].
وقد ضم المجلس شخصيات متعددة ومتنوعة التخصصات؛ ومنهم الفقهاء من أمثال الشيخ محمد غازي والشيخ المكي الناصري والشيخ محمد ماء العينين والشيخ محمد داود والشيخ محمد بن الطاهر الإفراني ..

الفقيه الحجوي الثعالبي (1291 هـ / 1874 م – 1376 هـ / 1956م):
في كتابه “الفكر السامي”؛ وصف الفقيه محمد بن الحسن الحجوي نظام الحكم الإسلامي بأنه ديمقراطي؛ فقال: “من زعم أن شريعة الإسلام أرستقراطية لم يصب، بل هي ديمقراطية حقة؛ بمعنى أنها بنيت على مبدأ العدل والمساواة في الحقوق بين طبقات الناس، قال تعالى: {يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات 13]. وقال عليه السلام: “كلكم من آدم وآدم من تراب” وقال عليه السلام: “والله لو سرقت فاطمة ابنتي لقطعت يدها” كما في الصحيح. وحاشاها عليها السلام.

وقد حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على جبلة بن الأيهم وهو ملك غسان بالقصاص من لطمة لطمها رجلا سوقيا حتى أدى ذلك لردته، فمع هذه النصوص التي لا تقبل التأويل كيف يقال إنها أرستقراطية.
وهل يوجد في الدول الديمقراطية من يعامل أهل الذمة بمعاملة الشريعة الإسلامية التي توصي بأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا؟
وخففت عنهم التجنيد وجعلت بدله الجزية لئلا تكلفهم القتال على وطن غير وطنهم، وقال عليه السلام: “من ظلم لي ذميا فأنا خصيمه يوم القيامة“، وفي آخر وصية أوصى بها: “استوصوا خيرا بذمة الله ورسوله“.

ومن الأدلة على أنها ديمقراطية: بناؤها على الشورى ونبذ الاستبداد والسلطة الشخصية.
ودليل بناءها على المساواة في الأحكام أن خطاباتها عامة للذكر والأنثى والحر والعبد وأن كل خطاب فيها وأمر ونهي متناول للرسول فمن دونه إلا إذا قام دليل على استثناء أو خصوصية، والاستثناءات لا تنافي الديمقراطية إذ لا يعقل تساوي أجناس الذكور والإناث في أحكام المني والحيض ونحو هذا، فالاستثناءات ضرورية لجميع الشرائع ولا تنافي الديمقراطية ولا المساواة، يعلم هذا كل منصف”اهـ[2].

وزراء التاج (الفقيه بلعربي العلوي والفقيه لحسن اليوسي والفقيه المختار السوسي):
يعتبر الفقيه محمد بلعربي العلوي (ت 1964) الذي كان يلقب بشيخ الإسلام؛ أحد كبار فقهاء المغرب الذين قاوموا مطلب الاحتلال بعزل الفقهاء عن المجال السياسي ..
وكما ترقى في المستويات العلمية؛ فقد ترقى في المناصب السياسية؛ التي كان منها: منصب وزير العدل، ووزير التاج مستشارا للسلطان محمد الخامس.

وفي هذا الصدد؛ كان الفقيه أكبر مرجعية فقهية شرعية للدولة؛ وقد عمل من خلال هذا المنصب على الإسهام في بناء نظام مغربي حديث ديمقراطي؛ فهو من واضعي المنهجية التي عبر عنها الملك محمد الخامس في كلمته المتقدمة: “الهدف الذي لن ندخر جهدا في العمل على إبلاغ شعبنا إليه فهو حياة نيابية بالمعنى الصحيح، تمكن الشعب من تدبير الشؤون العامة، في دائرة ملكية دستورية، تضمن المساواة والحرية والعدل للأمة أفرادا وجماعات، حتى يتم بذلك خلق ديموقراطية مغربية بناءة، تتفق مع ديننا الحنيف الذي جعل الناس سواسية كأسنان المشط، ومع القرآن الكريم الذي جعل الأمر شورى بين المؤمنين”.

وفي هذا الإطار شارك الفقيه في كل المحطات الديمقراطية؛ من وضع الدستور ووضع القوانين والسعي لتأسيس البرلمان المغربي …
لكنه انتقل إلى المعارضة السياسية الناصحة بعد أن رأى في الدستور وبعض القوانين ما لا يتماشى مع قناعاته الشرعية؛ ثم اعتزل العمل السياسي احتجاجا على القمع والتنكيل الذي تعرض له شباب معارضون فيما عرف بعد ذلك بسنوات الرصاص ..
وكان معه في منصب وزير التاج كل من الفقيه لحسن اليوسي والفقيه المختار السوسي (ت 1963)؛ وكلاهما كانا عضوا في أول حكومة في المغرب بعد الاستقلال: حكومة البكاي بن مبارك الأولى سنة 1955؛ حيث شغل الأول منصب وزير الداخلية، وشغل الثاني منصب وزير الأوقاف ..

رابطة علماء المغرب (التي كانت تضم عددا كبيرا من كبار فقهاء المغرب):
عقدت الأمانة العامة لرابطة علماء المغرب اجتماعا خاصا بالرباط في صباح يوم الخميس (24 جمادى الثانية عام 1382 موافق 22 نونبر 1962) لدراسة مشروع أول دستور مغربي، وبعد أن قام مختلف الأعضاء بتقديم ملاحظاتهم حول هذا المشروع اتفقوا على ما يأتي:
1ـ يسجلون بارتياح الخطوة الهامة التي قام بها جلالة الملك الحسن الثاني وفاء بوعد والده العظيم وتلبية لرغبة الشعب المغربي في إخراج البلاد من الوضعية التي وجدت نفسها عليها بعد الاستقلال إلى نظام مملكة دستورية متمتعة بالحريات الديمقراطية دينها الرسمي الإسلام ولغتها العربية.
2ـ يعلنون موافقتهم على هذا المشروع كخطوة أولى في تركيز المبادئ الإسلامية والأنظمة الديمقراطية الحديثة مع العلم بأنه كان يستلزم عروبة المغرب من حيث أن العربية هي لغتها الرسمية، وكون قوانينه يجب أن تستمد من الشريعة الإسلامية؛ لأن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، إلا إنه كان من المرغوب فيه أن يقع التأكيد على هذين المبدأين بصراحة تامة.

الفقيه عبد الله كنون (ت 1989):
قال في كتابه “مفاهيم إسلامية”، تحت عنوان: “الذين سيوضع لهم الدستور”:
“إن المغاربة الذين نحن في خدمتهم عرب مسلمون، دستورهم الخالد هو القرآن، وقانونهم العام هو الشرع الإسلامي، فعلى هذا الأساس يجب أن يوضع دستور الدولة التي تحكمهم، ومن هذين المنبعين الثريين يجب أن يستمد ذلك الدستور مبادئه وأصوله، وهذا إن لم يكن إيمانا بالقرآن ولا بالشرع الإسلامي فليكن إيمانا بالديمقراطية التي هي حكم الشعب من غير تحريف لها ولا تزييف”.

هذا موقف أزيد من خمسين فقيها من الخيار الديمقراطي؛ آخره موقف الرابطة التي كانت تضم فقهاء من مختلف مدن المغرب ..
وهذا الموقف الجلي الذي يدل على سبق نخبة الفقهاء في تبني هذا الخيار؛ يدفعنا نحو التساؤل:
لماذا يغيب الفقهاء اليوم من ساحة الممارسة السياسية حيث تدار معركة الانتقال الديمقراطي؟
لماذا تتفشى اليوم بين السلفيين وكثير من دعاتهم المواقف المتطرفة من الديمقراطية؟
لماذا يتم الترويج لهذه المواقف المتطرفة؛ بدل إبراز مواقف هؤلاء الفقهاء المؤهلين؟

[1] من كتاب “المجلس الوطني الاستشاري ومعارضة حزب الشورى والاستقلال” ص (19-20).
[2] الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي [الشريعة الإسلامية ديمقراطية:ص 84ـ85]