وجهة نظر

الخيال العلمي في الرواية العربية (ج1)

قد يبدو للبعض ضربا من العبث أن يكتب كاتب عن الخيال العلمي في الرواية العربية المعاصرة، والعالم العربي تعشش فيه الأمية، ويعيش أبعد ما يكون عن العلوم وبالأحرى الخيال العلمي الذي يجعل من العلم موضوعا له متنبئا بما قد تكون عليه العلوم، بعد أن تكون تلك العلوم قد ترسخت في المجتمع ، وأنا الذي لم أطالع من قبل رواية عربية في الموضوع، ولم تحضن خزانتي أية رواية عربية في الخيال العلمي، بل لم أتلق ممن اتصلت بهم من الأصدقاء إلا الدعوة إلى تغيير الموضوع إن أردت الاستمرار في البحث الروائي العربي، ومع ذلك آثرت ركوب التحدي في سلسلة مقالات نفتتحها بهذا الجزء المؤطر…

في البداية لا بد من الإشارة إلى أن الخيال العلمي ( Science Fiction ) جنس أدبي حديث في الثقافة الإنسانية عرفه قاموس المعاني بأنه: (نوع أدبيّ أو سينمائي تكون فيه القصَّة الخياليّة مبنيَّة على الاكتشافات العلميَّة التأمليَّة والتغيّرات البيئيّة وارتياد الفضاء، والحياة على الكواكب الأخرى) بذلك إنه بناء عالم خيالي بتقنيات أدبية انطلاقا من نظريات وفرضيات علمية .وهو غير الأدب العجائبي القائم على السحر والعلاقات غير الطبيعية/ المنطقية، والقوى الخارقة التي جسدتها الإنسانية في أدب الملاحم ، الأسطورة، الفنتازيا… وإن توحدت معه في الخيال الذي أنتج أفكارا خيالية كالمصباح السحري، السجادة الطائرة، المرآة السحرية ، الحصان الطائر، التنين القاذف للنار… وهي أفكار ألهمت الإنسانية، كما ألهمها الخيال العلمي بأفكار علمية وعملية قبل اكتشافها …

وعلى الرغم من حداثة الخيال العلمي، فقد تمكن من خلق تراكم كمي لا يستهان به، بعد أن وجدت فيه السينما والتلفزيون مادة دسمة استحسنها المتلقي المعاصر، فنهلت من روايات الخيال العلمي منذ أن فجرت عينه (ماري شيللي) بروايتها الشهيرة (فرانكشتاين) عام 1818م، وإن لم يكن مفهوم الخيال العلمي متداولا بعد على الرغم مما كانت تعرفه المرحلة من اكتشافات علمية وتغييرات تكنولوجية واجتماعية, تضمنت تطوير الآلات التي تعمل بالبخار والمصانع والطواحين, وبلغت ذروتها في المغامرات الأولى للطيران في الفضاء، بدءاً بالمناطيد والمركبات المجنحة… وانتظر العالم ظهور كتاب أمثال الكاتب الفرنسي جيل فيرن Jules Verne الذي يعد من الرادة المؤسسين للخيال العلمي بما خلفه من أعمال تحول بعضها لأفلام ناجحة منها:

«خمسة أسابيع في منطاد» في سنة (1863)، «رحلة إلى جوف الأرض» سنة (1864) وبعدها كتب رائعته «من الأرض إلى القمر» (1865) ثم «عشرون ألف فرسخ تحت الماء» (1870). وفي عام 1877 كتب روايته «هكتور سيرفاداك» التي تتحدث عن مذنب يقتطع قطعة من كوكب الأرض، وترافق هذه القطعة المذنب في رحلته حول الشمس. و قبل وفاته بعام واحد كتب روايته «سيد العالم» (1904)

وبعده انتشر الخيال العلمي قي عدد من الدول الأوربية فلمع في انجلترا اسم هربرت جورج ويلز H.G.Wells الذي كتب أول رواياته في الخيال العلمي «آلة الزمن» The Time Machine عام 1895 التي تعد من أعظم روايات الخيال العلمي ، ليعقبها برواية «حرب العوالم» (The War of the Worlds ) سنة 1898 وفي عام 1901 كتب روايته «رجال القمر الأوائل» The First Men in the Moon وبعدها جاءت رواية «طعام الآلهة» The Food of the Gods (1904) فرواية «اليوتوبية الجديدة» Modern Utopia سنة 1905 تلتها أعمال كثيرة في قصص الخيال العلمي.

وفي عشرينات القرن العشرين كتب تولستوي عن رحلة إلى المريخ في «آيليتا» كما كتب عن آلة جبارة تثقب الأرض وتستخرج الذهب من باطنها وعن الطبقات الداخلية للأرض والنفوذ إليها وعن المفاعل النووي بوجه قريب للحقيقة.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية سيجد الخيال العلمي التربة الخصبة، وسيخطو به إسحاق عظيموف Isaac Asimov خطوات رائدة لمعرفته الدقيقة بالعلوم ولخياله الواسع وجمعه بين ثقافة الشرق والغرب فقد ولد في روسيا عام 1920 وهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليحصل على جنسيتها سنة 1928 ويصبح أحد علماء الكيمياء الحيوية حاصل على الدكتوراه في العلوم من جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك، وعمل كيميائيا في البحرية الأمريكية في الحرب العالمية الثانية، وعضو في هيئة التدريس بكلية الطب بجامعة بوسطن. لذلك كان لكتاباته مكانتها العلمية والفنية…

وبالتدريج أضحى الخيال العلمي يفرض نفسه على النماذج الأدبية، بعدما أصبح له، من جهة، كتاب كبار في أوربا وأمريكا والاتحاد السوفيتي (سابقاً) واليابان. ومن جهة أخرى جمهور متعطش في كل بقاع العالم للمغامرة، بعد أن استفاد من الثورة الرقمية ، والتطور العلمي، التكنولوجي والسينمائي…

وإذا كان اليوم من رابع المستحيلات تتبع كل ما أنتجه الغرب في الخيال العلمي ، فإن كتاب هذا النوع الأدبي لا زالوا على رؤوس الأصابع عربيا ، بل من القراء العرب من يعتقد بأنه لا وجود لمثل هذه الكتابات عندنا وأن كتابة الخيال العلمي صناعة غربية لم يستوردها العرب بعد…

والحق أنه بعد التنقيب تم الوقوف على أسماء جد معدودة لها كتابات في الموضوع – وإن كان بعض الباحثين يذهبون إلى اعتبار نص (حي بن يقظان) لابن طفيل، ورسالة الغفران للمعري ، ورسالة التوابع والزوابع لابن شهيد ضربا من الخيال العلمي ما دام فيها رحلة إلى عوالم غريبة- من تلك الأسماء نكتفي بالإشارة إلى نهاد شريف،ومن مؤلفاته: رواية (قاهر الزمن) ، (الشيء)، (الذي تحدى الإعصار)، (تحت المجهر)، (بالإجماع) ، (رقم 4 يأمركم) ( سكان العالم الثاني) وتبقى رواية (الماسات الزيتونية) الصادرة ضمن سلسلة إقرأ من أطرف ما كتب وتدور أحداثها حول طبيب (عبد اللطيف )، طور أبحاثه نحو إمكانية حث الكلى على إنتاج الماس، وبعد عدة تجارب ينجح في إنتاج ماسات اليرة من كلى مرضاه الفقراء بدون علمهم، ويحقق ثروة هائلة ويقرر إنتاج ماسة كبيرة من كليته وتكون نهايته بانفجار كليته ووفاته… ومن سوريا اشتهر طالب عمران الذي أثرى الخزانة العربية بأزيد من سبعين رواية وقصة في الخيال العلمي سنكتفي بالإشارة إلى أهمها وسنة طبعتها الأولى: ضوء في الدائرة المعتمة 1980 • أسرار من مدينة الحكمة 1988 • مساحات للظلمة 1992 • السبات الجليدي 1992 • ثقب في جدار الزمن 1992 • الخروج من الجحيم 1995 • بئر العتمة 1996 • الذي أرعب القرية الآمنة 1996 • شحنة الدماغ 1997 • النفق 2000 • ابن الغابة 2000 • زمن القبعات المنتفخة والألسن 2000 • شفافيّة أشبه بالصدى 2000• التحوّل الكبير 2000. الأصابع السحريّة 2002 • الظلال الأخرى 2002 • امرأة من عالم مختلف 2002 • طيور وسط النيران 2002 • البحث عن عوالم 2002• ملامح من الفوضى القادمة 2005 • جزيرة الموت 2007• أسرار الكائنات المضيئة 2009 • بيوض الأفاعي 2011 . العابرون خلف الشمس 1979• ليس في القمر فقراء 1983. • خلف حاجز الزمن 1985 • مدينة خارج الزمن 1996• عوالم من الأمساخ 1997 • رجل من القارّة المفقودة 1997 • البعد الخامس 1998 • الزمن الصعب 1999 • رواد الكوكب الأحمر 1999• الأزمان المظلمة 2003 • في كوكب شبيه بالأرض 2004 • مثلّث الأسرار 2004 • البدائل المذهلة 2004• مزون ( الجدّة والحفيد ) 2005 • مزون ( أنفاق الأزمنة المقبلة ) 2007• دوامات الخوف 2009 • أهل الكهف 2009…

ويعد الكاتب المصري نبيل فاروق المزداد سنة 1956 من أشهر الكتاب العرب في روايات الخيال العلمي،من مؤلفاته : “ملف المستقبل”،” رجل المستحيل”،” كوكتيل 2000″ ، رواية “ظل الأرض”، “شمس منتصف الليل”، رواية “صرع”…

واليوم سنقف على روايته الأخيرة ا (الذين كانوا…) الصادرة عن سبارك للنشر والتوزيع سنة 2014 في 170 صفحة من الحجم المتوسط موزعة على ثلاثة عشر فصلا، وهي من آخر الروايات العربية في الموضوع، تسافر بالقارئ العربي – بخلاف عدد من روايات الخيال العلمي- إلى الماضي السحيق حيث حقبة وصلت فيها البشرية قمة التطور التكنولوجي والعلمي، لا زال سكانها يعيشون اليوم القرن الواحد والستون في بُعدٍ موازٍ لحياة البشر على الأرض، وسيتمكن مهندس مصري من اختراق هذا البعد ليكون سفيرا بين الحضارتين في أكبر حلم تحققه وكالة الفضاء والطيران الأمريكية ( NASA).

تدور أحداث هذه الرواية في مناطق متعددة ومتباعدة على سطح الأرض وخارجه تعرف ظهور أشباح من خلال دائرة حمراء (الظاهرة تكررت في مصر، فرنسا، والهند نتيجة خلل كهروميغناطيسي مؤقت، بعد الحدث الخارق على سطح القمر) ص36
منذ البداية تضع الرواية القارئ في أجواء من الرعب وتكشف عن توجهها وتصنيفها ضمن رواية الرعب والخيال العلمي فهي تفتتح بهذا المشهد: ( ارتفع عواء ذئب بري من بعيد، ليضيف رهبة نمطية على ذلك القصر القديم، الذي بدا على ضوء البدر المكتمل أشبه بأطلال تاريخية، يلقي عليها ضوء القمر الفضي ظلالا مخيفة، جعلتها أشبه بمشهد تقليدي، في واحد من أفلام الرعب القديمة). ص7 لتنطلق الأحداث من فرنسا حيث سائق فرنسي يقود سيارته بين (ليل ) و(كاليه) يفاجأ بظهور أشباح أمامه تخرج من دوائر حمراء، ويبدأ تداخل الأحداث والانتقال بين الأمكنة التي شكلت الفضاء الروائي والمراقبة بدقة عبر شاشات في مقر (الناسا NASA)، ففي القمر يوجد رائد فضاء أمريكي (سي17) يرسل رسائل من سطح القمر (من أول محطة قمرية ثابتة دائمة) ص12 إلى قاعدة (هيوستن) الأرضية وفي إحداها صورة لرجل على وجه القمر يسير عاديا دونما حاجة إلى لباس خاص وقنينات أكسيجين، يتقدم نحو (سي 17) يسلمه رسالة مكتوبة بالعربية(كنا هنا قبلكم) ص 19، وعينة من بشرته في مظروف سيكتشف العلماء أن ورقه ( خارق للمألوف ويتجاوز أقصى ما بلغته تكنولوجيتنا ) ص24، وبعد تحليل جينات ذلك الكائن يتم اكتشاف أنها مختلفة عن جينات البشر لأنها (تحتوي على سبعة وعشرين زوجا من الصبغيات وليست ستة وعشرين) ص37 لم يجد فريق الناسا من يقرأ هذه الرسالة سوى المهندس المصري فؤاد شريف الذي يعمل بالناسا منذ خمس سنوات، والذي سيتفاجأ بكونه موضوع البحث وأنه باستثناء الزوج الإضافي من الكروموزومات يوجد تطابق جيني 100% بينه وبين جينات الشبح الذي ظهر ل(سي 17) على سطح القمر، ليُظهر تطور الأحداث أنه هو الشخص نفسه ، وأن ذلك الزوج الإضافي أضيف إلى موروثاته لما أرسل في تجربة علمية إلى عالم مواز يشترك مع عالم الإنسان في نفس المساحة الفضائية، ودون وعي منه يجد نفسه عميلا مزدوجا وسفيرا بين الحضارة المعاصرة ، وحضارة سحيقة في عالم (أكثر تطورا في عمرانه) مختلف في أبعاده وأشخاصه عن الأرض و(كل شيء من {فيه} يختلف تماما عن كوكب الأرض) ص145… ولإنجاح هذه التجربة لم تجد (الناسا NASA) بدا من التنسيق مع سلطات وعلماء مصر: فإذ كان الرائد الأمريكي (سي 17 ) يرسل إلى القمر من قاعدة هيوستن، فإن إرسال فؤاد شريف إلى البعد الآخر كان يتم من قاعدة في صحراء مصر يشرف عليها علماء مصريين من مختلف التخصصات تحت إشراف رئيس مصر شخصيا بحضور ممثلين عن الأمن القوي الأمريكي، ووكالة الفضاء والطيران الأمريكية.

هذه باختصار شديد أهم أحداث هذه الرواية التي يصعب اختزال وقائعها لتداخل أحداثها، وسرعة الانتقال بين الأمكنة والأزمنة ورغبة السارد في الانفتاح على حضارات متعددة (فرعونية، يونانية، صينية، أمازيغية…) لدرجة قد يجد معها القارئ البسيط صعوبة في الإمساك بالخيط الرابط بين الأحداث، ومع ذلك فالرواية نجحت في أن تقدم نموذجا لأدب الخيال العلمي العربي.