وجهة نظر

دولة المجانين

يكتشف علماء النفس أعراض الجنون ممن يتحدث بمصطلحاتنا في انفكاك تام عن الواقع، كأن يقول تغذيت بالأمس في زُحل. العبارة صحيحة، فزُحل موجود و المائدة متوفرة، و الغذاء وفير والأمس قريب، غير أن الجنون يبقى في انتقال المائدة إلى كوكب زُحل.

عندما تقلب الحكومات أولويات شعبها و تغرد بعيد عن واقع و متطلبات مواطنيها، عندما تزهد في طلب الواقع المحلي و تحلم بتحقيق المستحيل القاري، تكون قد خطت بنجاح أولى خطوات الجنون المؤسساتي.

المغرب الذي يبني معامل الفوسفات في نيجيريا و إثيوبيا لدول تسعى لتحقيق ثورة خضراء و اكتفاء ذاتي، هو المغرب الذي يستورد كل متطلبات حياته الفلاحية من عدس كندي و دجاج و بيض فرنسيين و قمح أمريكي و أوكراني و لحم أبقار ألماني…مخطط المغرب الأخضر الحلُوب هو لمنتجات تسويقية تُدر عُملة صعبة للمرضي عليهم، و لدعم فلاحة توصف بالتضامنية، فتتضامن مع جيوب رؤساء الجمعيات و الآمرين بالصرف…
المغرب الذي افتخر بتقديم خبرته لجنوب السودان قصد تهيئة و بناء عاصمة جديدة، هو ذاته المغرب الذي تتكاثر فيه عُلب السكن الاقتصادي، زاحفة على عشرات آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية و المساحات الخضراء بلا حسيب و لا رقيب، و دون كثير مراعاة لأجيال ستكبر فلا تجد ما تأكل أو أين تتنزه، بعد أن أتى وحوش العقار على الأخضر و اليابس. و سَلَّم ليا على التنمية المستدامة!

أجمل بلدان العالم اختار ضمن أولوياته بناء محطات للطاقة المتجددة كمن يُريد أن يضيء منزلا بعود كبريت، و نسى أو تناسى أن نصف سكانه لم يعد العطش يتهددهم فحسب، بل أصبح بالنسبة لهم واقعا مُعاشا، رغم افتخار الوزيرة المُخُنزِة في وجوه المغاربة، صاحبة نظرية “جُوج فرنك”، أنه بلد بعيد عن آفة العطش ب3500 كيلو متر من البحار!
مدينة تطوان و نواحيها عاش سكانها لأسابيع بماء صالح للشرب لا يتوفر إلا سويعات قليلة في اليوم، لأن السّد جَفَّ، فهو رهين عطاء السماء، كحال مجالات عديدة في أجمل البلدان، و سَلَّم ليا على السياسة الاحترازية الإستباقية المَلُوخِية…!

مدينة “الشاون” خرج سكانها عن بكرة أبيهم غير ما مرة مواجهين عصي الأمن المرنة، ليس احتجاجا على تزوير انتخابات أو تلاعب في السياسة، بل طلبا لأحد أولويات الحياة إن لم يكن أولاها: الماء. الداخلية فتشت و “نَبَّشت”، لتكتشف أن أباطرة الحشيش يحولون ينابيع مياه الشرب لسقي حقولهم. رجال “الفتيت” قرروا التدخل دون رحمة، لإعادة المياه إلى مجاريها!

سكان بلدة “تافراوت”، مسقط رأس الملياردير صحاب وزارة “المغرب إلا رُبع”، منظر حزب “أغاراس أغاراس”، تشكو العطش حالها حال كثير من حواضر سوس، و مناطق الشرق و جهة درعة، حيث للدّلاح أولوية الشرب على حساب مواطن زاكورة “الظريف، الله يعمرها دار”.

الصحراء بكبرى حواضرها مدينة العيون، و رغم تخصيص 87 مليارا لتحويلها لجنة إفريقية خلال عشر سنوات، تعيش رهينة و تحت رحمة خزانات مياه (كوبات) متنقلة فوق شاحنات من عصر المسيرة الخضراء، تجعلك تعتقد أنك في بلد الملك عبد الله بن الحسين ملك الأردن، حيث المياه ترف و كماليات.

و إذا كانت بلاد الهاشميين تقبع تحت رحمة إسرائيل في توفير مياه الشرب لأهلها غنيهم كما فقيرهم، فإن مدينة العيون تظل تابعة ل “الطانطان” و مياه الطانطان في توفير مياه الآبار العذبة، أما مياه الصنبور ” العَيَّافَة” ( الاسم يعطيك العربون) فتنقطع لأيام و أحيانا لأسابيع إلا عند اقتراب زيارة ملكية، حيث تزداد كثافتها و يحلو مذاقها لذة للشاربين.

كان من الأولى اعتماد مخطط وطني لتحلية مياه البحر، مخطط يضمن تَمكُّن المغرب من امتلاك تقنية و تكنولوجية التحلية من الألف إلى الياء، بدل طمأنة المواطنين و إغرائهم ب3500 كيلو متر من الشواطئ، و يكأنهم سيشربون مياه البحر المالحة عند الشعور بالعطش أو الجفاف!

تحلية المياه في بعض من مناطق الجنوب بجودة رديئة لا تعني أن المغرب يمتلك ناصية التكنولوجية، تماما كما لا يعني تصنيعنا للياغورت (دانون) أننا لا نستورد المُخَمر من سويسرا أو المُجَمِّع (غار أ غار) من النرويج.
للقصة بقية في عالم 36…