منوعات

حديث عن الكبش

يُروى أن أبا نواس خرج في أيّام العشر يريد شراءَ أضحيةٍ، فلمّا صار في السوق، إذا هو بأعرابي معه أغنام يسوقها، يقدمها كبشٌ فارهٌ.

فقال أبو نواسٍ:

أيا صاحب الضأن اللواتي يسوقها

بكم ذلك الكبش الذي قد تقدّما؟

 

فأجاب الأعرابيّ على نفس الوزن:

أبيعُكَه إن كنت تبغي شراءه

ولم تكُ مزّّاحاً بعشرين درهما

 

فقال أبو نواسٍ:

أجدتَ ـ رعاك الله ـ ردَّ جوابنا

فأحسن إلينا إن أردت تكرما

 

فقال الأعرابي:

أحطُّ من العشرين خمساً لأنني

أراك ظريـفـاً فأقبضنه مسلّّـمـاً

لكن أبا نواس غادر، فقيل للرجل: أتدري من كان يكلمك؟ قال: لا. قيل له: هو أبو نواس.

فتبعه الرجل وحلف عليه أن يقبل منه الكبش هدية، فقبله منه، ثم سأل عن الأعرابي فأخبر بأنه باهلي.

فقال:

وبـاهليّ من الأعـراب ذي كرم

جادت يداه بوافي القرن والذنب

فإن يكن بـاهـليـا عند نـسبته

ففعله قـرشي كـامل الحسب.

٭٭٭٭

وللكبش في كتب الأدب مقامات ومقالات، فالكبش وصفٌ قد يطلق على رئيس القوم، ومثله قول الشاعر:

ونحن ضربنا الكبش حتى تساقطت

كــواكـبـه بـكـل عـضـب مهــنــد.

فكبش القوم: رئيسهم، وكواكبه: كتائبه.

٭٭٭٭

وقد لا يكون الكبش حيوانا فحسب، فتأبط شرا (الشاعر) قد سمي بهذا الإسم حسب إحدى الأساطير، لأنه رأى كبشا في الصحراء فاحتمله تحت إبطه، فصار يثقل في الطريق، فلما قرب من الحيّ ثقل عليه حتى لم يقدر على حمله، فرمى به، فاذا هو الغول. فقال له قومه: ما كنت متأبطا يا ثابت! قال: الغول. قالوا: لقد تأبطت شرّا، فسمي بذلك.

٭٭٭٭

وتقول العرب في أمثالها (تحت هذا الكبش نبش) لكل ما يرتاب به، ومن أمثالهم كذلك (عند النطاح يُغلب الكبش الأجم) والأجم من لا قرن له، ويضرب ليبين مصير الرجل الذي لم يعِدّ ولا استعد.

وفي المأثور قول الحسن: “الكبش يعتلف، والسكين تحد، والتنور يسجر”، ويضرب مثلا للغفلة عن الميعاد.

٭٭٭٭

ولكبش الأضحى حكايات وملح، كحكاية أبي شبل الذي كان له كبش يعلفه ويسمّنه للأضحى، فأفلت يوما على قنديل له وسراج فنطحه وكسره، فغضب فذبح الكبش قبل الأضحى، وقال في بيت من قصيدة يرثي فيها سراجه:

كان حديثي أني اشتريتُ، فلا اشتريت كبشاً سليل خنزير!

٭٭٭٭

أما في الأضحية التي لم تنل رضى صاحبها، فتحكي كتب الأدب أن رجلا أهدى إلى دعبل بن علي أضحية مهزولة، فكتب إليه:

بعثـت إلي بأضحيـة

وكنت حريّا بأن تفعلا

ولكنها خرجت غثةً

كأنك أعلفتها حرملا

فإن قبل الله قربانها

فسبحان ربك ما أعدلا!

٭٭٭٭

وأهدى آخر لصديق له كبشا للأضحية، وكتب له يصفه، فلما رآه لم يرضه فأجابه:

وصلت رسالتك مفضضة عن خط مشرق، ولفظ مونق، وعبارة مصيبة، ومعان غريبة، واتساع في البلاغة (…)

إلا أن الفعل قصر عن القول؛ لأنك ذكرت حملاً جعلته بصفتك جملاً، وكان كالمعيدي تسمع به خير من أن تراه، وحضر فرأيت كبشاً متقادم الميلاد، من نتاج قوم عاد، قد أفنته الدهور، وتعاقبت عليه العصور، فظننته أحد الزوجين اللذين حملها نوح في سفينته، وحفظ بهما جنس الغنم لذريته.

قد بانت دمامته، وتقاصرت قامته، وعاد ناحلاً ضئيلاً، بالياً هزيلاً، بادي السقام، عاري العظام، جامعاً للمعايب، يعجب العاقل من حلول الحياة به، لأنه عظم مجلد، وصوف ملبد، لا تجد فوق عظامه سلباً، ولا تلقى يدك منه إلا خشباً، لو ألقي للسبع لأباه، ولو طرح للذئب لعافه وقلاه، وقد طال للكلأ فقده، وبعد بالمرعى عهده، لم ير القت إلا نائماً، ولا عرف الشعير إلا حالماً.

٭٭٭٭

وعن الحرص على الأضحية، يُضرب في البخلاء مثل معاذة العنبرية التي أهدى إليها ابن عمّ لها أضحية. فرآها الراوي كئيبة حزينة مفكّرة، فسألها، فقالت: لقد خفت أن يضيع بعض هذه الشاة، ولست أعرف وضع جميع أجزائها في أماكنها. وقد علمت أن الله لم يخلق فيها، ولا في غيرها شيئا لا منفعة فيه. ولكن المرء يعجز لا محالة.

أما القرن فالوجه فيه معروف، وهو أن يجعل منه كالخطاف، ويسمّر في جذع  السقف فيعلق عليه كل ما يُخشى عليه(…) وأما المصران فإنه لأوتار المندفة(…) وأما قحف الرأس، واللحيان، وسائر العظام، فسبيله أن يكسر بعد أن يعرق، ثم يطبخ، فما ارتفع من الدسم كان للمصباح وللإدام وللعصيدة، ولغير ذلك، ثم تؤخذ تلك العظام فيوقد بها، فلم ير الناس وقودا قط أصفى ولا أحسن لهبا منه(…) وأما الإهاب فالجلد نفسه جراب(…) وللصوف وجوه لا تعد، وأما الفرث والبعر، فحطب إذا جفّف عجيب!

ثم قالت: بقي الآن علينا الانتفاع بالدم. وقد علمت أن الله، عزّ وجلّ، لم يحرّم من الدم المسفوح إلا أكله وشربه، وأن له مواضع يجوز فيها، (…) وإن أنا لم أقع على علم ذلك حتى يوضع موضع الإنتفاع به، صار كيّة في قلبي، وقذّى في عيني، وهمّا لا يزال يعودني.

قال الراوي: فلم ألبث أن رأيتها تبسّمت، فقلت: ينبغي أن يكون قد انفتح لك باب الرأي في الدم. قالت: أجل ذكرت أن عندي قدور شامية جددا، وقد زعموا أنه ليس شيء أدبغ، ولا أزيد في قوتها من التلطيخ بالدم الحار الدسم، وقد استرحت الآن، إذ وقع كل شيء موقعه!

فمن منكم رأى أحرص من هذه، وبها نختم حديثنا عن الكبش وأهله!

 

جعلكم الله من أهل الكرم، وأغناكم من فضله، وأسعدكم بالعيد، وكل عام وأنتم بخير.