وجهة نظر

الدخول إلى العصر عبر بوابة التعليم

يتميز الدخول السياسي والاجتماعي لهذه السنة بإجماع جميع مختلف الفاعلين على ضرورة إصلاح التعليم بالمغرب وبإعلان الحكومة خلال مجلسها الأخير عن نيتها في اتخاذ إجراءات أولوية ضرورية لرفع من مستواه كما وكيفا، معتبرة على لسان رئيسها سعد الدين العثماني أن التعليم هو مفاتح التنمية والدخول إلى العصر.

وإذا كان لكل مشروع حضاري يروم تحقيق النهضة والدخول إلى العصر عبر بوابة التعليم قواعده وتكاليفه، فبأي استراتيجية تدخله حكومة العثماني وبأي خطة وأهداف وبرنامج تحققه؟

ركزت حكومة الأغلبية خلال السنة الحالية والماضية كل جهودها على إجراءات جديدة تروم إصلاح المنظومة التعليمية من خلال تحسين استقبال التلاميذ أثناء الدخول المدرسي من خلال لجوءها إلى توظيف الأطر التربوية والتعاقد معها وتكوين مربي التعليم الأولي بمؤسسات التكوين المهني، وعملت على العناية بالمظهر الخارجي من خلال طلاء بنايات المدارس مع التركيز على فضاءها الداخلي من خلال تجديد أثاث القاعات وخفض سن القبول بالأقسام التحضيرية إلى خمس سنوات كحد أدنى لاستقبال التلاميذ الجدد في المؤسسات المدرسية والتقليص من الاكتظاظ، كما اعتمدت الحكومة في مقاربتها الإصلاحية على تطوير تدريس اللغة العربية وإدراج اللغة الفرنسية بالسنة أولى ابتدائي وإعادة الاعتبار للشعار الوطني في البرنامج الزمني للمدرسة إلى غير ذلك من الإجراءات الإدارية والتعاقدية مع مختلف المتدخلين في القطاع التعليمي.

وعلى الرغم من أهمية التدابير الحكومية الرامية إلى تجويد المنظومة التعليمية بالمغرب، إلا أن التعليم بنموذجه الحالي والذي يسعى إلى دخول العصر حسب تعبير سعد العثماني أثناء انعقاد مجلس حكومته بعد نهاية العطلة الصيفية، يبقى متخلفا ولا يرقى حتى إلا مدرسة عهد الأنوار.

إذ كيف نستجيب لمتطلبات التعليم العصري بنهج سياسات متواضعة، جعلت تعليمنا يتذيل ترتيب الجامعات الدولية في العالم وتعليمنا لا زال جامدا ومتحجرا على الرغم من هدر الدولة في شخص وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني لأموال طائلة أنفقت على مختلف مشاريع الإصلاح منذ فترة حكم الراحل الحسن الثاني، وذلك في غياب مشروع حضاري يتوفر على خريطة طريق تؤهل المغرب لالتحاق بركب مجتمعات المعرفة، مجتمعات التقنية والتكنولوجية ممن نجحت في ولوج بوابة العصر.

لست أدري إن كان رئيس حكومتنا على إطلاع بعالم يسابق الزمن هناك خلف بوابة العصر من أجل التحكم في الذكاء الاصطناعي ومن خلاله في مصير الشعوب الضعيفة والمتخلفة.
فبوابة العصر توجد اليوم على أعتاب وادي السليكون « SILLICON VALEY »قطب التكنولوجية الأمريكية بمنطقة سان فرانسيسكو بولايه كاليفورنيا كعاصمة للتقنية في العالم، والتي تهيمن عليها الشركات الكبرى، وتشتغل بعقول أسيوية توجد على رأس قائمتها الصين والهند وباكستان، والتي تفوقت في إصلاح منظومتها التعليمية، ونجحت في الاستجابة لحاجات مرافق البحوث الدولية الناجحة والتي تشجع طلابها على إنشاء مقاولتهم الخاصة في هذه المنطقة.

كيف يلج تعليمنا العصر وهو يعاني تخلفا مرعبا وهدرا غريبا للفرص وتبديدا للمال العام في سياسيات تفتقد إلى رؤية تستشرف المستقبل؟

يشهد التاريخ أن تعليمنا سيظل مسؤولا عن ضياع أجيال بكاملها بين ثنايا الانحراف والإجرام والاغتصاب والتشرميل والإدمان على أقراص الهلوسة ما لم تجب حكوماتنا المتعاقبة على السلطة عن الأسئلة المصرية التالية: أي تعليم نريد لأي مجتمع نريد؟

تعليمنا لن يتحرر من معيقاته ما لم تحقق بين الفرقاء السياسيين والاجتماعيين الإجماع حول سقف مشترك كحد أدنى من الثقافة الأساسية الرامية إلى لتنشئة الأجيال المقبلة.
تطور التعليم.. معيقات وأفاق

تعليمنا سبقى تائها وفاقدا لبوصلة حقيقية تحدد له الاتجاه الصحيح، ولن يتمكن من ولوج العصر ما لم يتحرر من إعاقته ويحسم في الغايات الكبرى للدراسات الجامعية وفي البحث العلمي في مختلف المجالات، وما لم تتجه سياسته نحو إعداد أفضل العقول والخبراء في التقنيات المتقدمة من خلال التشجيع على الخلق والإبداع وتنافس الطلاب على على تسجيل براءات الاختراع.
لدخول العصر يحتاج العقل المغربي إلى التأسيس لذهنية جديدة متفردة ومتحررة من الارتهان إلى الخوف من المستقبل على النحو الذي يسلكه موظف الدولة أو الأجير والذي يحسر نفسه ويرهن موارده الشخصية وقدراته العلمية في البحث والاكتفاء بأجرة قارة بمجهود قليل ” قليل ومداوم أحسن من كثير ومنقطع”.

لن يدخل تعليم المغرب العصر إلا بربط الجامعة بالخلق والإبداع وبتحفيز الإننليجنسيا على المبادرة الحرة وبتمثل قيم التضامن لمجتمعي، لن ينجح في ذلك إلا بالعناية بالحق في البحث العلمي والتجريب والخطأ والتحفيز على تحمل المخاطر والاعتراف بالحق في الإخفاق وبتكريم الخلق والإبداع، لأن المبدع وإن فشل في بحثه فهو يراكم التجارب ويتحمل مسؤوليته في الاستجابة لحاجة المجتمع إلى مشاريع جديدة.

لن يتحقق للمغرب شغف الوصول إلى بوابة العصر من خلال تعليمه إلا بتوزيع عادل لخيرات البلاد وثرواته وبضمان حق المغاربة في العيش الكريم من خلال محاربة الفساد والفوارق الاجتماعية وإقامة نضام ضرائبي عادل بين المقاولات الكبرى والناشئة وربط الإنتاج بالأبحاث العلمية وبتشجيع الأساتذة الباحثين على تحويل نتائج أبحاثهم إلى مقاولات صاعدة «start up » تنخرط في نظام تعاوني تنافسي ينهي مع الاحتكار و مع ثقافة الريع الاقتصادي.

بوابة العصر لن تسمح ولم تسمح أبدا من قبل بدخول تعليم دولة تروج لنماذج شخصية فولكلورية عبر إقامة المهرجانات والمواسم والحفلات الفنية في مقابل التضييق على شبكات علمية تروم تنظيم المعارض والندوات والأيام الدراسية وتبحث عن مشاركة الخبرات والتعريف بالمشاريع والأفكار الجديدة وتسعى إلى مد قنوات التواصل مع أصحاب الرساميل واكتساب ثقتها وجلب تمويلها لمختلف مشاريع التحدي في مختلف المجالات الصناعية والتجارية.

لولوج العصر نحتاج في تعليم أبناءنا إلى التأسيس لبنية نفسية قادرة على التكيف أولا مع مختلف الوضعيات والأزمات الاقتصادية والاستعداد النفسي القبلي للعمل والإنتاج والإبداع حتى في أشد ظروف وأنواع الحصار الاقتصادي والعسكري المفترض والذي يمانع نهضتنا.

لدخول العصر يحتاج أطفالنا أثناء تنشئتهم الاجتماعية إلى الوعي بما يتهدد بلادهم باستمرار في مصالحهم ووطنهم، وإلى تعريف الأجيال المقلبلة بنموذج المغرب وبأحلامه في إقامة مجتمع الخلق والإبداع والمعرفة والعدالة الاجتماعية والرفاه الاقتصادي، وإلى دعم قدرة المواطن على تحمل وفهم طبيعة الدورة الاقتصادية وتحمل أزماتها وإشكالاتها من خلال المشاركة في النقاش العمومي حول مختلف القضايا الحزبية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، والانخراط بقوة في العمل التطوعي وفي المجتمع المدني والتعبئة الشاملة لفائدة مصلحة الوطن.
وصفة النجاح في الدخول إلى العصر

يتوفر المغرب على قدر كاف من الخبرات بما يؤهله لتعميم نسخة وادي السيليكون أو ما يطلق في المغرب بالمناطق الصناعية عبر مختلف أقاليم وجهات المملكة، وجعل المقاولة مغربية صرفة مواطنة ومبدعة لها أهداف مشتركة تخدم مصالح المغرب في بيئة تنافسية سليمة كجامعة مفتوحة تصل البحث بالانتاج، وذلك من خلال خلق نوع التضامن الثقافي بينها والوعي بأهمية التحرر التدريجي من الارتهان إلى الليبرالية المتوحشة والاستقلال عن الشركات العابرة للقارات، لتعطى فيه الأولوية لمشاركة المعلومة وتطوير العلاقات التشاركية وتأهيل الموارد البشرية، بعد كل هذا.. ما الذي ينقص تعليمنا للنجاح في دخول العصر؟

يحتاج تعليمنا إلى إجراءات حقيقية تستشرف وتنظر إلى المستقبل البعيد مع الحرص على محاكاة النماذج الناجحة في الدول المتقدمة والدول السائرة في النمو وجعل من أولويته:

العمل على تأهيل المدرسة والجامعة وجعلهما بيئة مناسبة لاستقبال التلاميذ والطلبة الجدد، والتأسيس لخلق أجيال جديدة من الرواد ممن لديهم تاريخ مشترك ومن المعتقدات ما يحفز على للاستقلال عن الإدارة والدولة والعمل في مقاولات حرة بعد التخرج الجامعي، ولديهم الطموح في إنهاء مراحل التعليم العالي والمهني بتميز وامتياز.

لتجويد تعليمنا نحتاج إلى التأسيس لمدرسة وجامعة مفتوحة مبدعة تعمل في إطار نظام مؤسساتي يحفز على البحث والخلق والإبداع والنجاح في الابتكار الصناعي والعلمي،و إلى إقامة الدولة لنظام أبحاث جامعية ودعمه بالموارد المالية واللوجيتيكسة وتشجيع الطلبة على البحث في مختلف المجالات بما فيها الأمنية والمعلوماتية.

يتطلب إصلاح منظومتنا إلى قرار سيادي يربط الجامعة بممولي الأبحاث والمشاريع ممن تجمعهم الرغبة في تحقيق النموذج المغربي والنجاح في تحقيق استقلاليته في قراراته ودعم حقه في الحلم بتحقيق نهضته العلمية والصناعية.

ولنا في نجاح الملك في سياسيته الرامية إلى استقطاب حوالي 90 في المائة من كبريات الشركات الفرنسية إلى الاستثمار بالمغرب وتشجيعه على إقامة مناطق صناعية بمدن المحور في الدار البيضاء والرباط وطنجة وربطها بمؤسسات التكوين المهني نموذجا لما يمكن أن يحققه المغرب في باقي مناطقه وجهاته وأقاليمه، ليس كمستقبل للرأسمال الأجنبي ولمشاريعه فقط، وإنما كقاطرة اقتصادية وتجربة فريدة يمكن استنساخها ترسيخا لمفهوم النموذج الحضاري المغربي ليس فوق ترابه فقط، وإنما أيضا على الصعيد القاري والإفريقي شريطة الاستقلال في قراره السيادي الرامي إلى إصلاح منظومة التعليم وإلى تجاوز أعطابه من خلال تقوية قدرته التنافسية من أجل ولوج العصر من بابه الواسع.