منتدى العمق

سائق الحافلة ..

وضعني القدر ذات صباح بارد في مهب أسئلة حائرة، مغايرة، متشظية، ومتناقضة، وجدت نفسي أتأمل وجه ذلك السائق السعيد الذي ينثر البسمات على كل ما حوله، ويتحدث كراو خبير دون أدنى اعتبارات، أراني دفترا صغيرا يدوّن به معلومات كثيرة، سألته لماذا تدون كل شيء يمر بك؟ قال: سأكون روائيا ذات يوم.

طريقته وهو يتحدث ويستدعي كل الشخصيات التي مرت به سواء في الواقع أو في خياله مثيرة جداً، وكأنه يقتنص نصّه المطلوب والمرغوب، ويجعلك شريكاً لسد فراغات القصة، كان يغني حيناً بعض المواويل الشعبية، وأحياناً أخرى كان يلقي قصائد الشعر متقمصاً شخصية أحد أبطاله، فيُبقي على الشخصية معلّقة في فضاء لحظة تمر وكأنها الضوء يخترق بؤبؤ عينك، هو نبيه لكل التفاصيل حوله ويلتقط نبض الشارع بإحساسه المرهف، همهمات الناس، وصمت الليل، صخب شوارع المدينة، خُيل إلى أنه يبحر في سفينة الحياة بلا بوصلة، والواقع أنه معرض بشدّة للاصطدام بصخرة الواقع القاسية، تبادر إلى ذهني صورة كتّاب وروائيي اليوم، فعندما يجلس كاتب شاب أمام حزمة من الأوراق وقلمه بيده، أو أمام حاسوبه وأصابعه كخمس فراشات معلقة فوق الحروف، فإن السؤال الذي يواجهه ليس سهلاً أو تقليدياً كما يظن البعض، هو لا يسأل ماذا أكتب؟ بل ماذا أريد أن أكون؟ وما هو هدفي من الكتابة، فهذا الهدف مرتبط بشكل مباشر بإحساس الكاتب بذاته، ومدى وضوحه مع نفسه، فإذا كانت صورته واضحة مع نفسه وإحساسه عالِيا بذاته، سيكون باستطاعته ملاحظة ما حوله ووصفه بدقة وإحساس وتبصر مدهش، أما إذا كانت صورته الذاتية مشوهة فهو سيلاحظ وينقل ويصف ما حوله ولكن بشكل خال من الهدف وأقرب للعبثي.

فالكاتب دائماً يرغب بإحداث نموذج من البطل خاص به مثل سائق الحافلة الذي يستند على نفس الفكرة، ولطالما انه لا يدري ما يفعل أو لا يعرف إلى أين يتجه، فإن كل ما لديه يبدو سلبياً، فالقدرة على رؤية الأشياء باتزان وبمستوى وبنضج عقلي موضوعي مع الإحساس المرهف تخلق إبداعاً مختلفاً، ينعكس على روح الكاتب، وقد وضّح (برنارد شو الدور) الذي تلعبه صورة الذات في كافة الفنون ان الفن هو المرآة السحرية التي تقوم بعكس الأحلام غير المرئية وتحويلها إلى صورة مرئية. فأنت تستخدم المرآة لترى وجهك، وتستخدم الأعمال الأدبية لرؤية روحك”.

وهذا يعني أن ما نكتبه ما هو الا نوع من مرآة الذات التي يحاول الكاتب أو الروائي أن يعكس روحه الداخلية عليها، ويبدو أنني سأنتظر رواية سائق الحافلة يوماً ما لأنني لمست روحه الداخلية الواضحة ودقيقة الوصف فقد ينقذنا من عبثية بعض الروائيين.