وجهة نظر

التأريخ الهجري.. ذلك الجزء المفقود من هوية الأمة

في الإسلام وتحديدا في أُسِّ أسسه التشريعية وهو “القرآن الكريم” جاء التنصيص على التوقيت القمري، من ذلك قول ربِّنا جل جلاله “ويسألونك عن الاهلة، قل هي مواقيت للناس والحج”، وعليه بُنْيَت مجموعة من الأحكام المحددة وقُوتُها.. من حج، وصيام رمضان، والأشهر الحرم التي لها ميزتها في الإسلام، وعدّة المطلقة، وعدة الأرملة، ودوران الحول على فريضة الزكاة، ووقت زكاة الفطر، وتعيين الأيام المباركات كعشر ذي الحجة وتاسوعاء وعاشوراء من المحرم، والأيام البيض من كل شهر وغير ذلك من العبادات المقررة شرعا، وكذا المعاملات التي كان المسلمون يتعاملون بها بناءً على الآجال القمرية..

حافظ المسلمون في الصدر الأول من الأمّة بعد النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الخاصيّة التي أقرّها الإسلام وتتابع العمل بها، لكن بدون تحديد السّنوات وترتيبها كما هو حال النصارى يوما حيث يتخذون ميلاد سيدنا المسيح عليه السلام انطلاقا لتقويمهم، (على ما لنا عليه من ملاحظات في صحته وضبطه)، إلى أن جاء عهد الخليفة الثاني من الخلفاء الراشدين الإمام الفاروق عمر بن الخطاب عليه رضوان الله، وبالتحقيق في السنة السابعة عشرة من الهجرة النبوية، فوضع التقويم السنوي بناء على ذلك الحديث العظيم والمفصلي في تاريخ أمة الإسلام، الهجرة النبوية..

وتتابعت عليه الخُلفاء بعده وملوك الحكم العاض إلى أن أعلن المجرم مصطفى كمال أتاتورك عن سقوط مملكة بني عثمان في الـ 27 رجب 1343هـ، ومن حينها تم القطع مع كل ما هو إسلامي لإرساء أسس العلمانية وتوطين مظاهرها، بالموازاة مع ما فعله الاستعمار الغربي دول الإسلام المجزأة من تغريب واستلاب؛ بما فيه التأريخ الهجري لصالح التقويم الميلادي..

خفيف عقل من يظن أن هذه مسألة تافهة، بل التفاهة لصيقة بتفكيره البسيط، إذ أن طمس مميزات الأمة هو استهداف لهويتها وحضارتها، فرع كهذا قد انضاف إلى كوكبة من الأصول والفروع التي استُهدِفَت تباعا حتى تمكّن فكر الغرب وعقيدة الغرب وسلوك الغرب وثقافة الغرب وأمراض الغرب من الجسم الإسلامي، فتلاشت الشخصية الإسلامية وهجّنت كما تلاشى الحكم الإسلامي قبلها وأصبح في حكم المعدوم، ثم استحدثت مكانه نظم عميلة شبه غربية في بيئة إسلامية، ترفع رايات الإسلام في السماء وتحاربه في الأرض، ذلك هو الحكم الجبري الذي أخبرنا به النبي صلى الله عليه وآله وسلّم..

أصبحنا اليوم أمام أجيال لا تستحضر تاريخها ولا تأريخها ولا تهتمّ به إلا في المناسبات القليلة، التي لها ارتباط بالمصلحة الفردية كالعطل، أو الإلزامية كاستهلال شهر رمضان وشوال، والباقي في خانة الإهمال، حتى إنك إن جبت طول المغرب وعرضه -على سبيل المثال- لا تكاد تجد مستحضرا لماهية اليوم والشهر والسنة من التقويم الهجري؛ إلا العجائز؛ والله المستعان..

جدير بالذكر أن الدولة السعودية حافظت على هذا التقويم على المستوى الرسمي والإداري والشعبي ردحا من الزمن، حتى فرّطت فيه السنة الماضية لصالح اعتماد التقويم الميلادي، وبالتالي تمت قراءة السلام على آخر معقل لهذه الخاصية في الدول العربية الإسلامية، وهي البلد الذي يتبجّح أعلامه بصون هوية الأمّة وخصوصياتها وحضارتها، لكن الظاهر أن حملة عَلْمَنة المملكة السعودية التي يتحدّث عنها العالم اليوم قد بدأت عوالمها قبل الآن حقا، وآنت مواسم حصد أشواكها..

الأمة المجرّدة من تاريخها هي أمّة بدون شَرَف!

للإشارة فقط؛ لاحظتُ أن في كل أشرطة الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله وكتاباته ولقاءاته كان محافظا على افتتاحها أو ختمها بتأريخ النشاط على الطريقة الإسلامية (الهجرية)، ولم أسجّل عليه يوما أن اقتصر على تاريخ النصارى، ويؤكد رحمه الله غير ما مرة على الاهتمام بهذه الخصوصية وعدم التفريط فيها، وهو في دولة استسلمت لحملة التغريب على المستوى الرسمي منذ فجر القرن العشرين..

على العلماء والدعاة والحركات الإسلامية وشبيباتها ومنظماتها الموازية أن يقفوا وقفة جدية مع هذه المسألة، وإيلائها اهتماما يحقق مقصد الرجوع إلى ما كان عليه أسلافنا، والقطع مع مظاهر التغريب والهيمنة الاستعمارية على الأوطان والشعوب المسلمة، وتربية الأمة على التأريخ الهجري المرتبط بالإسلام ارتباطا وثيقا، أو على الأقل المزاوجة بين التاريخين في أفق الاستقلالية التامة عن كل الاستكبار العالمي وأياديه الأخطبوطية في أوطاننا السليبة..

لتكن مناسبة استهلال العام 1439هـ افتتاحا للمصالحة مع تاريخنا المهمل، بضبطه على الهواتف والحواسيب واليوميات والكتابات والتسجيلات والمحاضرات وغير ذلك من المواطن التي تستوجب ذلك، ودعوة الناس إلى ذلك، والله المستعان..

وأسأل الله تعالى أن يهل علينا هذه السنة باليمن والإيمان والسلامة والإسلام والبركة والبر والقرب من الله، والنصر للمستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، وانكسار المستبدين والجبابرة الظالمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.